عندما أعلن ديفيد كاميرون رئيس الوزراء البريطانى فى ديسمبر 2013 إجراء مراجعة فى أنشطة جماعات الإسلام السياسي، وفى القلب منها جماعة الإخوان، داخل المملكة المتحدة، كانت هناك توقعات كبرى بأن تقوم بريطانيا بخطوة لتصحيح مسار أخطائها التاريخية. فبريطانيا، أسست هذه الجماعات ودعمتها بكل وسائل الدعم والحماية، حتى أنها أصبحت مركزا أساسيا لانطلاق أنشطتها، وهو ما جعل لقب عاصمتها فى التسعينيات يتحول إلى "لندنستان". ومع إعلان عن انتهاء السير جون جينكنز السفير البريطانى السابق لدى السعودية من كتابة مراجعة لأنشطة وأفكار الإخوان، بعد 3 أشهر فقط من تكليفه بهذه المهمة، وبدأت سلسلة تأجيلات نشر المراجعة. وكان آخر هذه التأجيلات يوم الاثنين الماضي، حيث كان من المقرر نشر ملخص من التقرير يفيد بعدم تصنيف الجماعة على أنها منظمة إرهابية، على الرغم من توصيته بأنه يجب أن تكون أنشطة الجماعة داخل المملكة المتحدة أكثر شفافية، وأن تخضع للمراجعة، سارع كاميرون بسحب التقرير المثير للجدل قبل 11 ساعة فقط من توقيت نشره، متذرعا بعدة أسباب منها أن يتم الكشف عنه بالتزامن مع إعلان استراتيجية مكافحة الإرهاب الجديدة، ووضع قانون جديد بدلا من القانون الحالى يسمح بتجريم جماعات بعينها بعد إثبات أدلة إدانتها بالعنف وتجنيد المتطرفين. وواضح أن بريطانيا فى واقع الأمر لا تريد المخاطرة بعلاقتها مع حلفائها، سواء المناهضون للإخوان، ومنهم مصر والسعودية والإمارات، أو حتى المؤيدين للجماعة مثل قطر وتركيا، وتحاول اتباع سياسة إمساك العصا من المنتصف لإرضاء جميع الأطراف، دون أن تتخذ موقفا حازما ضد الفكر الإخوانى الإرهابى الذى لا يحتاج إلى أدلة إدانة مهما حاول الإعلام الغربى إيجاد فاصل دائم بين الإخوان وجماعات الإرهاب الأخرى فى المنطقة. منع نشر التقرير الآن نجح فى تجنيب لندن أزمة دبلوماسية ضخمة هى فى غنى عنها، وكانت ستدفع ثمنها غاليا على جميع المستويات، فى ظل أزمة اقتصادية طاحنة، وفى ذروة حمى الانتخابات البرلمانية المقررة فى 7 مايو المقبل. مسئولون بوزارة الخارجية البريطانية أعربوا عن ارتياحهم إزاء عدم نشر التقرير، لأن ذلك وفر عليها الكثير من الأزمات التى سيواجهونها مع عدد من الحلفاء. تسريبات التقرير غير مبشرة وغامضة، بل ومراوغة، فهى لا تحمل الإخوان مسئولية العنف والتطرف، ولا تعتبرهم تهديدا للأمن القومي، بل تحذر من أن حظر الجماعة يهدد بتحولها إلى العنف، وهذا ما يتناقض مع معطيات الوضع فى دول مثل مصر وليبيا والعراق وسوريا.. وغيرها، بل ويتناقش مع مضمون التقرير نفسه الذى يقر بوجود صلات بين الجماعة وجماعات متطرفة! فالإخوان مسئولون بشكل مباشر وأساسى عن العنف، وعن دعم جماعات إرهابية مثل حماس والقاعدة والشباب الصومالية وبوكو حرام وداعش، وهى تنظيمات محظورة بالفعل فى بريطانيا وأمريكا وأوروبا، بل وتم حظر مؤسسات تشكل واجهة للإخوان فى لندن بسبب تورطها فى دعم الإرهاب، ومنها مؤسسة قرطبة لصاحبها أنس التكريتي. وهذا ما يطرح عددا من التساؤلات: هل وضع التقرير إجابات واضحة لأسئلة رئيس الوزراء نفسه التى طرحها عندما أعلن عن ضرورة المراجعة قائلا : "نحن نريد أن نتأكد أننا نفهم بشكل كامل ما هى هذه المنظمة، وماذا تريد، وما هى علاقاتها؟، وهذا جزء مهم لأننا سنتخذ السياسة الصحيحة إذا فهمنا ما نتعامل معه"؟! كاميرون بالفعل فى موقف لا يحسد عليه، فهو يواجه تحديات أمنية وسياسية ودبلوماسية كبيرة، لكن ذلك لا يبرر سياساته المترددة التى قد يدفع هو ثمنها لاحقا. هذا التقرير قد يظل حبيس الأدراج لشهور طويلة قادمة، خاصة إذا تم تغيير الحكومة الحالية بعد الانتخابات. وتواجه حكومة كاميرون تحديين كبيرين فى مواجهة الإرهاب فى شوارع بريطانيا: الأول والأكثر إلحاحا قمع المتطرفين الذين يخططون لشن هجمات على أراضى المملكة المتحدة، وهو التحدى الذى تمكنت قوات الأمن حتى الآن من تحقيق نجاح ملحوظ فى مواجهته، أما بالنسبة للتحدى الثاني، وهو الأصعب، فهو وضع الجماعات المتطرفة التى لا تشجع العنف فقط، بل تجند التكفيريين تحت المراقبة. وعلى الرغم من أن تقرير الإخوان إشكالي، فإن الاستراتيجية البريطانية الجديدة لمكافحة الإرهاب ما زالت هى الأخرى ينتابها الغموض والارتباك، فى ظل تحديات ظهور داعش وحوادث الرهائن والقتل التى تشهدها العواصم الأوروبية، ولهذا، يعترف المسئولون البريطانيون بأن هناك فجوات واسعة فى استراتيجية مكافحة الإرهاب، وأنه لا يوجد وقت لنشرها قبل حل البرلمان نهاية مارس الحالي. بريطانيا وضعت استراتيجية بالفعل لمواجهة الإرهاب بعد أحداث 11 سبتمبر 2001، والتى تعرف باسم PS4 وهي: الاستعداد للهجمات، حماية العامة، تعقب المهاجمين، وأخيرا سياسة منع التطرف أو Prevent. وفى اليوم الأول لتطبيق سياسة المنع، انقسم "وايت هول" حول معنى هذه السياسة، وطرح عددا من الأسئلة حولها: هل هى منع التطرف المستوحى من فكر تنظيم القاعدة أم من الجماعات الأخري؟ هل هى تعقب العنف أم تقويض الإيديولوجية؟ وكيف يحدد المسئولون الجماعات المستهدفة؟ وبدأت الحكومة فى تمويل ضخم لهذه الاستراتيجية خاصة فى عقب هجمات 2005 فى لندن، ولكن هذه السياسة فشلت فى منع البريطانيين من الانضمام إلى القاعدة ولا حتى تنظيم داعش. بريطانيا لا تتعلم من دروس التاريخ، ومنذ أزمة السويس التى أنهت أسطورة الإمبراطورية التى لا تغيب عنها الشمس، فتحت أبوابها لاستيراد وتصدير المتطرفين والإرهابيين والتكفيريين الأجانب إلى دول العالم، دون أن تتوقف عن إمساك العصا من المنتصف.