هل اختارت الحكومة البريطانية سبيل "المواجهة" مع العناصر الإرهابية، والمتطرفة على أراضيها؟، وهل أيقنت الآن بعد كل هذه العقود التى سمحت فيها لعناصر غير مرغوب فيها بالإقامة على أراضيها، وحمل جنسياتها أن الأمر بات خطيرا، ولا يمكن السكوت عليه؟ وهل تستطيع إذا اتخذت إجراءات حاسمة لمواجهة إرهاب حقيقى على أراضيها تماما كما خاضت حربا مع واشنطن ضد “شبح” إرهاب من قبل؟ أم أنها ستقع بين فكى كماشة التكفيريين البريطانيين الصاعدين من جانب، وجماعة الإخوان المطلوب حظرها من جانب آخر؟ أكثر من ثلاثة أشهر مضت على انتهاء بريطانيا من كتابة تقرير مراجعة أنشطة وفلسفة الإخوان على أراضيها، لكن الصمت ما زال سيد الموقف حتى الآن فى إعلان استراتيجيتها تجاه الجماعة. والسؤال الذى يطرح نفسه، لماذا لم تصدر بريطانيا هذا التقرير حتى الآن؟ وهل القرار فى إجراء هذه المراجعة تقوده دوافع سياسية محضة لإرضاء الحلفاء؟ بريطانيا أكثر دولة فى العالم تعرف جيدا تفاصيل فلسفة، وأنشطة الإخوان، لأنها ببساطة هى التى صنعت الجماعة منذ 86 عاما، وكانت مطلعة على كل تفاصيل النشأة منذ عام 1928 وحتى هذه اللحظة. الثابت فى تصريحات المسئولين البريطانيين أنه لن يتم حظر الإخوان فى بريطانيا لأنه لا توجد أدلة دامغة، وكافية تثبت تورطهم فى أنشطة إرهابية على أراضيها، وبالتالى كان الحل البديل يتمثل فى التلويح بوضعهم “تحت المجهر”، واتخاذ بعض التدابير التى من شأنها مراقبة أنشطة “إخوان لندن”، ومن بينها التحقيق فى أنشطة 60 منظمة تشكل “واجهات” للإخوان، والتحقيق فى تمويل الجماعة، وعلاقاتها بالجماعات الإرهابية فى الخارج، ومنع رجال الدين التابعين للجماعة من دول مثل قطر وتركيا من السفر إلى بريطانيا لقيادة مظاهرات، أو حضور مؤتمرات. ولكن هل تعتبر هذه التدابير كافية لتهدئة حلفاء لندن العرب الذين كانوا يأملون فى إجراءات مشددة تحول بريطانيا من سماء آمنة لهؤلاء الإرهابيين إلى “جحيم” يطارد عناصر الإخوان، ومن يطلقون على أنفسهم “الجهاديين”؟ الإجابة لا، وهذه الإجابة فى حد ذاتها السر وراء تأجيل بريطانيا إصدار التقرير الذى لن يضيف جديدا لا تعلمه بريطانيا عن هذه الأنشطة. ديفيد كاميرون رئيس الوزراء البريطانى يريد أن يرى “الصورة الكاملة” لأنشطة الإخوان فى لندن حتى “يتم وضع السياسات الصحيحة إذا فهمنا بشكل كامل طبيعة المنظمة التى نتعامل معها”، وذلك على حد تعبيره، وبعد صدور التقرير فى يوليو الماضي. إذن، لم يحدد التقرير الصورة الكاملة أمام دوانينج ستريت. المهم أن كل ما يخرج عن التقرير من تسريبات، ما هى إلا “اجتهادات” إعلامية، لكن روح التقرير ذاته ما زالت محبوسة داخل دهاليز الحكومة البريطانية. “تقرير الإخوان”، جزء من كل، خاصة بعد دخول تنظيم داعش وقضية التكفيريين العائدين على الخط، ولأن بريطانيا “مفرخة” للإرهابيين، وملاذ آمن للعائدين من صفوف التنظيم الذى أصبح هدفا عالميا للحرب الجديدة على الإرهاب، فإن حكومة كاميرون تدرس الآن سبل التعامل مع هذا الجيل من “الإرهابيين الجدد” الذين يهددون المملكة المتحدة فى حد ذاتها، والذين يهددون برفع العلم الأسود فوق مقر الحكومة، ليتوارى الإخوان، ومراجعتهم فى الظل. وتبدو أيضا التدابير التى اتخذتها بريطانيا للتعامل من التكفيريين العائدين متناقضة، والتى من بينها المنع من السفر، وتجريد العائدين من الجنسية، وإعادة تأهيلهم مجددا للانخراط فى المجتمع. والعجيب أنه على الرغم من هذه التدابير، إلا أن نحو 5 تكفيريين يسافرون أسبوعيا للالتحاق بصفوف داعش. بل إن بريطانيا التى كانت ترفض علنا التدخل فى الحرب ضد داعش، أرسلت طائرات بدون طيار إلى العراق وسوريا لضرب التنظيم فى معاقله. الملاحظة الأغرب والمثيرة للاهتمام أن الفيديو الذى أثار الولاياتالمتحدة للانقضاض على داعش، وتشكيل التحالف الدولى، كان يتزعم مشاهده التكفيرى الذى قتل الصحفى الأمريكى الأول جميس فولى، والثانى ستيفن سوتلوف، والمعروف إعلاميا باسم “الجهادى جون”، خرج من بريطانيا، وشهد الجميع بأن لكنته لندنية بامتياز. قضية التكفيريين دفعت وزارة الداخلية البريطانية إلى المطالبة بجميع الصلاحيات القانونية لضرب الإرهاب فى الداخل، لأن الحرب ضده سوف تستمر لعدة سنوات وربما لعقود طويلة. إذن بريطانيا تلعب بورقتين، الورقة الأولى هى ورقة “التكفيريين” و”داعش”، وتضعها على المائدة وتكشفها أمام الجميع، أما ورقة “الإخوان” فإنها تلوح بها فقط دون أن يكون فى نيتها إعلان الجماعة “إرهابية”. والإجراءات التى سربها الإعلام البريطانى، والتى جاءت فى تقرير المراجعة المحاط بالسرية، ليست جديدة، بل هى مطبقة منذ هجمات 7 يوليو 2005، بل ومن قبل ذلك التاريخ بكثير، وما هذه التسريبات سوى محاولة بريطانية لترضية الحلفاء الخليجيين الذين أعلنوا الإخوان “منظمة إرهابية”. وعلى الرغم من أن السير ريتشارد ديرلوف، الرئيس السابق لوكالة المخابرات الخارجية “إم آى 5”، والذى يعتبر مستشار تقرير مراجعة أنشطة الإخوان، وصف الجماعة بأنها “منظمة إرهابية بالأساس”، إلا أن مسئولين آخرين قالوا إن “هناك بعض الأشياء التى يمكن فعلها عوضاً من حظرها”. بريطانيا لا تريد أن تعترف بأن قضية الإخوان والتكفيريين واحدة وليست منفصلة، وأن “الجهادى جون”، قاتل الرهائن الأجانب المحتجزين لدى داعش، وبطل فيديوهات المجازر الدموية، ما هو إلا وجه يؤكد ارتباط القضيتين معا، الإسلام السياسى والعنف، وأن الإخوان هم من أفرزوا حركات الإرهاب التى يعانى العالم منها الآن، لذلك فإنه يتوجب على بريطانيا أن تعترف بأنها تعانى من حالة انفصام اسمها “جون”. وأخيرا، هل اختارت بريطانيا المواجهة؟ أم ستفضل “اللامواجهة”؟، وهل هى قادرة على تحمل تبعات كل خيار منهما؟.