الحقيقة المرة التى يواجهها العالم الآن هى أن تنظيم "داعش" أصبح الأكثر ثراء بين التنظيمات الإرهابية المسلحة، حيث تقدر ثروته بمليار و500 مليون دولار على أقل التقديرات، وكان ذلك واضحا من خلال محاولات هذا التنظيم المتكررة لإظهار علامات الترف التى يتمتع بها، بفضل ما يتمتع به من تمويل مستقر، فضلا عن عجز المجتمع الدولى عن إيجاد حل لتجفيف المنابع المالية للتنظيم. ورأينا فى الفترة الماضية من خلال تسجيلات داعش حرص أعضاء التنظيم على استعراض القوة والثروة، فشاهدناهم فى العراقوسوريا وهم يرتدون أرقى وأنظف الملابس ويسيرون فى استعراضات بأساطيل من سيارات الدفع الرباعى الحديثة جدا، بل وظهر بعض أعضاء التنظيم وهم يرتدون ملابس وساعات من أحدث الماركات الأمريكية والأوروبية، بالإضافة إلى طرق التصوير للفيديوهات التى يتم بثها والتى تحاكى ما يتم تصويره فى هوليوود، وهو ما يمثل تحولا مقصودا، خاصة بعد أن ظلت الصورة الذهنية للتنظيمات الإرهابية المسلحة فى الماضى لا تتضمن أيا من مظاهر الترف هذه، بل كان التسليح أول اهتماماتها.إذن فداعش يريد توجيه رسائل بهذه المشاهد، سواء لجذب مزيد من الشبان العرب والأوروبيين، أو لتوصيل رسالة مفادها أن التنظيم لديه مصدر تمويل مستمر ومستقر ومضمون.والسبب فى ذلك أن مصدر تمويل داعش الرئيسى لا يزال نابعاً من سيطرته على آبار البترول، مما يوفر له نحو 2 مليون دولار يوميا، وهو مبلغ كاف للاستمرار فى عملياته الإرهابية لما وراء العراقوسوريا، هذا بالإضافة إلى المزيد من الأموال التى تدخل إليه عن طريق طلب الفدى مقابل الرهائن الذين يختطفهم، فضلا عن شبكات غسيل وتحويل الأموال، والأعمال الإجرامية والبلطجة وفرض الإتاوات، وبيع الآثار، بالإضافة طبعا إلى التبرعات التى تصله من الخارج. ويعتبر النظام الاقتصادى الذى يتبعه داعش لتأسيس دولة ذات اكتفاء ذاتى ورأسمال فى منطقة ما يعرف باسم "المثلث السنى" هو نفسه الذى اتبعه معظم التنظيمات الإرهابية. ولا تزال المساعى الرامية لوقف العائدات البترولية لداعش من أكبر التحديات، ففى الماضى حيث كان الجميع يعتقد بأن داعش تعتمد على بيع البترول لعملاء أجانب فى تركيا وكردستان العراق ومناطق أخرى، إلا أن تركيز داعش على هذه السوق بدأ يتراجع، فمنذ الصيف الماضى بدأ التركيز على إنشاء سوق داخلية دائمة للبترول، مما يساعده على تأمين مصدر موثوق للوقود لآلياته، وكذلك أنشأ سوقا يعتمد عليها المدنيون، ولذلك كانت الغارات الأخيرة التى شنتها قوات التحالف والتى استهدفت منابع البترول بدلا من وسائل نقله أو نقاط بيعه على سبيل المثال مضرة بشكل كبير للجهود الدولية التى تبذل لمواجهة هذا التنظيم.
كما يعتبر بيع التحف والآثار من المصادر الأكثر غموضا لتمويل داعش، حيث يسيطر التنظيم على مناطق تعد موطنا للحضارات القديمة، فقد نجح فى تهريب تلك الآثار وبيعها فى تركيا ومن هناك إلى أوروبا، والمشكلة هنا أكثر تعقيدا وجدلا من قضية البترول، نظرا لأنها تجارة خفية، فليست لدى المجتمع الدولى معرفة دقيقة بقيمة العائدات التى تحققها تلك التجارة، ويقدر اليونسكو قيمة الآثار التى نهبت من سوريا فقط منذ اندلاع القتال عام 2011 بنحو 7 مليارات دولار.
والمشكلة فى مسألة بيع الآثار هو أن قوات التحالف وبعكس البترول لا تستطيع استهداف تلك الأماكن الأثرية وتدميرها لحرمان "داعش" من عائداتها المالية، كما أن هذا التنظيم يعلم تماما حجم وقيمة الكنوز التى وقعت فى يديه، ولذلك فعمليات نهب الآثار تتم بطريقة منظمة حتى يومنا هذا، فيبيع التنظيم الآثار المسروقة لتجار محددين فى دول مثل تركيا، وقد أصبحت بلدة غازى عنتاب مقرا لتجارة الآثار السورية والعراقية المهربة.
كما يشكل الابتزاز وأنظمة الضرائب غير المشروعة مصدرا مهما تحصل منه داعش على العائدات المالية، ومن المحتمل أن يكون واحدا من أكثر المصادر استمرارية، فالعشائر السنية تسيطر بشكل أساسى على نقل البضائع بالشاحنات عبر غرب العراق، ومن خلال فرض داعش ضرائب عليهم، يعود هذا الأسلوب بالعائدات الثابتة للتنظيم.
وتمثل التبرعات الخارجية لتنظيم داعش رافدا مهما يمنحها القدرة على مواصلة الحياة الاقتصادية، وخصوصا بعد تراجع أسعار الوقود عالميا، لذلك أصبح من المهم جدا التركيز على الجهات المانحة له من الخارج، وذلك من أجل الحد من قدرته على التوسع.
وأخيرا، فإن أكبر دليل على أن تنظيم "داعش" يسعى لإيجاد اقتصاد منظم مستقل هو نجاحه فى السيطرة على السيولة النقدية فى المناطق التى يسيطر عليها، وذلك بعد أن افتتح فى الموصل بنكا خاصا به لتمويل أعماله تحت مسمى "المصرف الإسلامى" الشهر الماضى، مما أثار مخاوف فى الأوساط الاقتصادية العراقية. لذلك، وبناء على ما سبق، فالحرب الاقتصادية ضد داعش لا تقل أهمية عن العمليات العسكرية التى تقوم بها قوات التحالف، صحيح أن خيار الحرب الاقتصادية لخنق التنظيم وقطع شرايين تمويله لا يجب أن يكون بديلا عن الخيار العسكرى، ولكن القرارات الدولية بتجفيف المنابع المالية للإرهاب سيكون لها دور كبير فى إضعاف هذا التنظيم والحد من قدراته المالية كثيرا. والأكثر أهمية فى تلك الحرب أن تقوم بها الأطراف الدولية مجتمعة، وألا يكون من بينها أطراف تتحدث عن حرب اقتصادية وقطع تمويل وهى فى الوقت نفسه تقدم المساعدة بالمال وأشياء أخرى لتقوية هذا التنظيم! فقط مطلوب جدية فى شن هذه الحرب الاقتصادية، تماما مثل الهمة والحماس اللذين نشاهدهما مثلا فى التعامل مع روسيا!