بات تنظيم «الدولة الإسلامية» المعروف ب «داعش» يثير العديد من الإشكاليات التي لا ترتبط وحسب بنمط عملياته المختلفة عن سائر الجماعات الجهادية من «أجيال القاعدة» السابقة، وإنما تتعلق بطبيعة التمويل الذي استطاع تدبيره لتحقيق ما يمكن تسميته ب «الاكتفاء الذاتى»، ليغدو أغني تنظيما إرهابيا عبر العالم، تقدر ثروته، بما يتراوح بين 2 إلى 4 مليارات دولار، وهو ما أتاح له قدرات عسكرية كبيرة وإمكانيات ضخمة لعمليات التعبئة والتجنيد للمقاتلين سواء أكانوا أجانب أم محليين. وعلى الرغم من قيام الإستراتجية الأمريكية لمحاربة «داعش» فى أحد محاورها على فكرة قطع خطوط التمويل عن التنظيم، غير أن فاعلية هذه الإستراتيجية تظل موضعا للتساؤل ارتباطا بأن قدرة «داعش» على جنى الأموال تتسم ب «الاحترافية»، وهى أقرب ما تكون «للعمليات المافيوية» التى يدخل فيها شبكة معقدة من الوسطاء، والمستفيدين من تحركاته العسكرية، التى تأتى فى منطقة تعد الأغنى بالغاز والنفط، بالمقارنة بصحارى أفغانستان، حيث يوجد قادة «تنظيم القاعدة». وعلى الرغم من عدم توافر بيانات دقيقة عن حجم الأموال التى يمتلكها تنظيم «داعش»، بيد أن من الواضح امتلاكه خليطا من الأموال عبر شبكات محلية وإقليمية ودولية مكنته من تكوين ما تسميه بعض الكتابات «اقتصاد شبه متكامل». مصادر غير تقليدية تتنوع مسارات التمويل المتدفق إلى تنظيم «داعش» ما بين عوائد بيع البترول والغاز وفرض الضرائب و«الإتاوات» وعوائد الأملاك غير المنقولة التى استولى عليها، وهى تشمل أيضا ممتلكات خاصة وعامة، وتشكل روافد مالية لما يطلق عليه «بيت المال»، والذى يضم كذلك مساكن وأرض سكنية ومساحات زراعية ومحال تجارية ومشاريع استثمارية وسياحية وبحيرات لتربية الثروة السمكية ومناطق صناعية، ومديرة الوقف السنى بالعراق. وقد صادر التنظيم العديد من الممتلكات والأموال، ولم تقتصر عمليات مصادرة أموال الأقليات على المسيحيين والأيزيدين والشبك والشيعة، وإنما تضمنت أيضا الاستيلاء على أموال لمواطنين من الطائفة السنية، وأملاك لمنتسبى الأجهزة الأمنية والمسئولين الحكوميين والقضاة وأعضاء النيابة العامة. وقد بدا واضحا منذ نشأة التنظيم سعيه إلى بسط نفوذه على الأرض والتمدد من أجل تنويع مصادر التمويل، وبلورة «نظام هجين» من التمويل المحلى والخارجي، وفيما كان الأخير يرتبط ببعض الجماعات والجمعيات الأهلية والأثرياء العرب والأتراك ورجال الأعمال، بالإضافة إلى العديد من المؤسسات التى تنشط تحت ذريعة تقديم المساعدات الإغاثية فى بعض دول الإقليم. هذا بالإضافة إلى ما أسماه «التبرعات الاختيارية»، والتى جاءت تحت شعار «تبرع ولو برصاصة»، وارتبطت بتحويلات الأثرياء من عناصر التنظيم، والأموال التى يجلبها بعض عناصره الأجانب قبل مغادرتهم بلدانهم، فضلا عن تبرعات بعض المواطنين المحليين فى بعض المناطق التى شكلت «حواضن شعبية» للتنظيم، وذلك تحت شعار «الجهاد بالمال قبل الجهاد بالنفس». هذا بينما يرتبط النمط الآخر للتمويل، بالطابع المحلى، حيث جباية الأموال والتى تأخذ عددا من الصور، كفرض ضرائب على الأفراد والشركات والمؤسسات التجارية، والتى تقدر فى مدينة الموصل وحدها بنحو 8 ملايين دولار شهريا. كما يفرض التنظيم «الإتاوات» أو ما يعرف ب «ضريبة الحماية» على كبار رجال الأعمال وشركات الهاتف المحمول والبنوك وشركات نقل المشتقات النفطية ومحطات تعبئة الوقود، ويعتمد أيضا على جابية الزكاة، كزكاة الفطر وزكاة التجارة و«زكاة الحبوب»، كما يفرض ما يسميه «سهم اليتامى» الذى يخصص لآرامل القتلى من عناصره ومقاتليه. ويفرض «داعش» «نظام الجزية» على الأقليات التى ترفض مغادرة المدن التى يسيطر عليها. ويدخل فى حسابات التنظيم أيضا التى يمسك من أجلها دفاتر حسابية عوائد بيع خدمات الكهرباء والمياه للسكان المحليين، فضلا عن عوائد العديد من الخدمات الأخرى كالنظافة وصولا إلى مقابل المخالفات المرورية والغرامات على بعض المخالفين لقواعد التنظيم المعمول بها. هذه العملية تشمل بيع الخدمات أيضا للنظام السوري، حيث يتحصل عبر وسطاء على عوائد إمداد المناطق الخاضعة للنظام السورى بالكهرباء والمياه من محطات التوليد والمولدات والسدود الخاضعة لسيطرته، وهذه الأموال تذهب ل «مكتب الخدمات الإسلامية» ومنها إلى «بيت المال» التابع للتنظيم. مصادر «داعش» المستجدة على الرغم من أن ثمة أنماط من التجارة اعتمدها العديد من التنظيمات المتطرفة سابقا من ضمنها تأتى «تجارة الرهائن»، إلا أن هذه التجارة راجت على نحو أوسع بفعل سياسات «تنظيم الدولة»، حيث تعد أحد مصادره الأساسية لجنى الأموال، وتقوم عناصر التنظيم باختطاف الأجانب سواء من المناطق الخاضعة لسيطرته أو فى مناطق التخوم أو عبر وسطاء وشبكة تجار ومستفيدين، ليتم بعد ذلك التفاوض مع حكوماتهم أو سفارات دولهم أو من خلال «وسطاء» محليين وإقليميين فى مقابل إطلاق سراحهم. وقد كشفت وسائل الإعلام الأمريكية عن خطابات ورسائل إلكترونية تفيد أن التنظيم طالب نحو 132 مليون دولار للإفراج عن الصحفى الأمريكى جيمس فولي، وذلك قبل إعدامه. وقد أشارت مجلة فوكس الألمانية فى أبريل الخالى إلى أن فرنسا دفعت ما يناهز ال 18 مليون دولار للإفراج عن أربع رهائن فرنسيين كانوا محتجزين لدى «تنظيم الدولة الإسلامية». ويقوم التنظيم أيضا بعمليات بيع واسعة للنساء والأطفال الذين تختطفهم عناصره أو يأتونه اختيارا من مدنهم ودولهم أو عبر مراكز التجنيد فى عدد من دول الإقليم، وتشير بعض التقديرات إلى عمليات اختطاف واسعة تعرضت لها النساء من الطائفة الايزيدية فى شمال العراق ومن المسيحيين، وقد تم تأسيس أسواق يتم فيها تداول النساء والأطفال مقابل مبالغ زهيدة تقدر بنحو عشرة دولارات فقط، وتمثل «أسواق بيع البشر»، وبالتحديد النساء، أحد تكتيكات إغراء المزيد من الشباب من مختلف أنحاء العالم من أجل الانضمام ل «داعش». وإلى جانب هذه الأنماط من التجارة ثمة معلومات عن عمليات واسعة يتورط فيها التنظيم تتعلق بتجارة الآثار فى سورياوالعراق، وتفكيك وبيع مصانع ومشروعات ضخمة لوسطاء من كل من إيران وتركيا. ثروات «داعش» السيادية على الرغم من ضخامة الموارد المالية التى توفرها مصادر التمويل آنفة الذكر، غير أن منابع الأموال الضخمة ترتبط بالثروات السيادية التى «أممها» التنظيم من خلال السيطرة على المصادر الاقتصادية فى المدن، ويأتى فى مقدمتها عوائد عمليات بيع النفط سواء لوسطاء أتراك أو إيرانيين أو سوريين أو للنظام السورى ذاته، بما وفر عوائد قدرتها بعض الاتجاهات بنحو 90 مليون دولار شهريا. هذا على الرغم من انخفاض قيمة بيع هذه المواد مقارنة بأسعارها الحقيقية. وقد أفضت سيطرة التنظيم على مناطق تمركز النفط فى سوريا فى شمال وشرق سوريا إلى أن يسيطر على نحو 60٪ من النفط السوري، فيما تخضع البقية لسيطرة النظام السورى وبعض فصائل المعارضة ك «جبهة النصرة». وكانت أولى معارك التنظيم فى سوريا للسيطرة على محطة توزيع الغاز التابعة لحقل كونيكو النفطى والمعامل التى كانت خاضعة لسيطرة جبهة «النصرة»، بالقرب من مدينة دير الزور، قبل أن يبيعها لعدد من التجار الأتراك. وعلى الرغم من أن أغلب الأرقام عن عوائد «داعش» من تجارة النفط تعد فى الأغلب تقديرات متفاوتة، غير أن هذا لا ينفى أن التنظيم استطاع الحصول على كميات كبيرة من النفط الخام من الأنابيب الناقلة، وتمكن من سحب النفط منها، فضلا عن الحصول على المحروقات من بعض المستودعات، خصوصا فى الموصل. وقد استخدم جزءا منها لتشغيل محركاته العسكرية، بينما قام ببيع جزء آخر منها للمواطنين والمهربين، وذلك عبر مصافى مؤقتة صينية وتركية الصنع، بعضها يعالج ما بين 500 و1000 برميل يوميا. يضاف ذلك إلى مصادر التمويل الأخرى التى تحصل عليها «داعش» من بعض البنوك، كالبنك المركزى فى الموصل بعد أن استولى على ما كان بداخله من أموال وسبائك ذهبية قدرت، حسب أحد الاتجاهات السائدة، بنحو 430 مليون دولار، وحصل على أموال أيضا من العديد من البنوك الأخرى فى المناطق التى سيطر عليها، بما مكنه من دفع رواتب لمقاتليه تصاعدت وفق ظروفهم المعيشية من حيث كونهم أجانب أم مواطنين، متزوجين من واحدة أم أكثر، وحسب عدد الأبناء. ويبدو أن هذا «النظام المالى» قد زاد عناصر «داعش» بأكثر من 10 آلاف مقاتل، حيث شكلت غزارة التمويل، دافعا لانضمام المزيد من المقاتلين الراغبين فى جنى العوائد المالية، وذلك فى ظل تفشى البطالة وارتفاع معدلات الفقر سواء فى سوريا أو العراق، أو بعض دول الإقليم الأخرى. وإلى جانب مختلف هذه العمليات استطاع التنظيم الاستيلاء على الكثير من العتاد والأسلحة الثقيلة من معسكرات الجيش العراقى ومخازن سلاح النظام السوري، وهى أسلحة قدرت بعشرات الملايين من الدولارات، بما وفر الأموال التى كان سيوجهها للإنفاق على عمليات شراء السلاح من السوق السوداء، وقد أوضحت عمليات الاستيلاء المتتالية على الأسلحة والعتاد العسكرية، والحديث عن حصول التنظيم على أسلحة كيميائية وبيولوجية، وبعض الطائرات الحربية، أن أكبر مورد عسكرى بالنسبة ل «داعش» خلال الفترة الأخيرة كان فرق ووحدات الجيشين النظاميين العراقى والسوري. هذه المعطيات فى مجملها دفعت بصدور قرار مجلس الأمن الدولى فى منتصف أغسطس الماضي، والخاص بتجريم تمويل التنظيمات الإرهابية، هذا إضافة إلى تبنى الولاياتالمتحدة سياسات تستهدف إلزام دول الجوار لكل من سورياوالعراق بالعمل المكثف على وقف التدفق المالى والبشرى للتنظيمات الجهادية والمنظمات الراديكالية، فضلا عن إقدام العديد من دول الإقليم على سن مجموعة من التشريعات والقوانين لتجفيف منابع التمويل عن المنظمات الإرهابية، وذلك بالتزامن مع تركيز العمليات العسكرية للتحالف الدولى على استهداف أبار النفط والغاز، والتى كانت توظف لخدمة مراكمة مخزون «داعش» المالي، وهى إستراتيجية تبدو حتى اللحظة من حيث كفاءاتها محدودة النتائج، بالنظر إلى تعدد مصادر التمويل الذاتى للتنظيم وتنوعها. هذا بالإضافة إلى قدرة «داعش» على الاستمرار فى جنى الأموال من الأفراد والجماعات والشركات فى مناطق نفوذه، وذلك فى ظل اتساع الرقعة الجغرافية التى يسيطر عليها فى كل من سورياوالعراق، والتى تشكل رافدا مستمرا لما يمتلكه من أرصدة مالية وما يصله من تحويلات نقدية، غدت تأخذ صيغا غير تقليدية، فضلا عن حفاظه على تجارته الرائجة لبيع النفط والغاز، وإن كانت بمعدلات أقل، باعتبارها تجارة لها مستفيدوها سواء من جماعات مصالح أو أنظمة حكم فى بعض دول الإقليم، بما يجعل عملية القضاء على قدرات وإمكانات «داعش» المالية، تستدعى العمل الفعال للقضاء على تنظيم «داعش» نفسه.