بين الدين والسياسة جملة من التناقضات والمعضلات التى تستعصى على التوفيق والحل، فالأول أى الدين إلهى مقدسى ومطلق بينما الثانية أى السياسة وضعية إنسانية ونسبية. لا تزعم القداسة أو الإطلاق، الأول متعال متسام فى الزمان والمكان وعابر لهما، أما الثانى أى السياسة فهى بنت زمانها ومكانها ووليدة الظروف المعاشية والمتعينة، الأول لا يخضع للتغيير فى مبادئه وعقائده الكبري، أما الثانية فهى تخضع لقانون التغيير وفق الظروف وعلاقات القوى والغلبة. كل من الدين والسياسة ينتميان إلى مجالات مختلفة ولا تلتقى إلا فى عرف الطامعين فى الحكم والسلطة الذين يستخدمون الدين من أجل التحكم فى رقاب البلاد والعباد، فمجال الدين هو الفاعلية الروحية والأخلاقية والكليات الأخلاقية والروحية التى تشكل ضمير ووجدان الإنسان، بينما الثانية مجالها تنظيم المجال العام المشترك بين الأفراد والمواطنين وتطبيق القانون بغرض تلبية حاجة الجماعة البشرية للأمن والاطمئنان والاستقرار وإعمار الأرض. الدين باعتباره منظومة كلية روحية يهدف إلى إشباع الحاجات والمتطلبات الروحية للبشر ويقدم إجابات على الأسئلة التى تمثل مصدر قلق للإنسان حول الحياة والبعث والوجود والإيمان بينما تستهدف السياسة حل ومعالجة قضايا الواقع المعاش الحياتية التى تتعلق بتداول وتنظيم الحكم والعلاقة بين الحاكم والمواطنين وتوزيع الموارد المادية والرمزية وتحقيق المساواة والعدل. خلط الدين بالسياسة يفسد كليهما، فهذا الخلط سينتزع الدين من سياقه ليقذف به فى خضم السياسة بآلياتها ودينامياتها وتغيراتها، كما أن السياسة عندما تختلط بالدين ستكسب نفسها قداسة هى غريبة عنها، وتحول دون مناقشتها ومعارضتها ونقدها وطرح تصورات بديلة لها، نظرا لأن الدين سينتزع السياسة من سياقها الدنيوى والإنسانى الذى يخضع للجدل والنقاش والاختلاف والمعارضة. الخبرة التاريخية فى الغرب والشرق، تؤكد مفاسد خلط الدين بالسياسة وانعكاس هذه المفاسد على أوضاع الناس والسلطة والحكم، ففى أوروبا فى العصور الوسيطة لم يكتف الكهنوت والبابوية بتملك السلطة الدينية، وإنما حاولا التأثير على السلطة الزمنية والدنيوية، كان رجال الكهنوت يمتلكون أسرار الكتاب المقدس «الإنجيل» الذى كتب باللغة اللاتينية التى لم يكن يعرفها سوى الكهنة وعدد قليل من المتخصصين، ومع بدء حركة الإصلاح الدينى البروتستنتى على أيدى مارتن لوثر قام هذا الأخير بترجمة الإنجيل إلى اللغة الألمانية لإتاحة الفرصة لكافة المواطنين للاطلاع على الإنجيل وفهمه، خصت البابوية نفسها ببيع صكوك الغفران والإيمان ودخول الجنة، وشهدت أوروبا الحروب الدينية التى راح ضحيتها مئات الآلاف من البشر الذين ينتمون إلى المذاهب المسيحية المختلفة. لم يكن الهدف من فصل الدين عن السياسة إزاحة الدين والمعتقدات الدينية بل تحديد مجال السلطة الدينية وفاعليتها التى تقتصر على الشأن الدينى والروحي، أما الشأن الدنيوى والزمنى فهو شأن المواطنين الأحرار عبر العقد الاجتماعى واختيار من يمثلونهم فى المجالس التمثيلية، أما فى الشرق الإسلامى فقد تكفلت السلطة السياسية التى استخدمت الدين وتمذهبت بملاحقة المعارضين والمخالفين ومحاكمتهم وقتلهم ومصادرة آرائهم، والمفارقة أن ممارسات تنظيم الدولة الإسلامية «داعش» تستلهم تلك التقاليد فى الحرق والقتل والذبح ويضفى عليها بعض التقنيات الحديثة، وجميع هذه الممارسات الهمجية والبدائية والبربرية ترتكب باسم الإسلام، بل وباسم صحيح الإسلام، فى حين أن الإسلام منها براء، فهى ترتبط ببعض الفرق والملل التى لا تمثل التوجه الرئيسى والسائد فى الفكر والحضارة الإسلامية. خلط الدين بالسياسة والمطالبة بالدولة الدينية والحكم بالشريعة وبما أنزل الله، هى مطالب الفكر الإخوانى الباحث عن السلطة والحكم وإحياء الخلافة الإسلامية، ويتضمن ذلك تجريم القانون الوضعى والحداثة والتغريب والعصرنة والعلمانية، فجميع تلك الصيغ السياسية والفكرية هى صيغ تخرج عن إطار الحكم بالشريعة، ووفق ما أنزل الله، ومن ثم فهى مؤثمة، ونتاج مؤامرات تحاك ضد الإسلام والمسلمين، وهى فى هذا المنظور ليست تطورا طبيعيا ومنطقيا وعالميا ومحصلة اكتشافات البشر وتدبرهم وتفكرهم فى أمور دنياهم وبحثهم عن الطرائق المثلى لإدارة شؤونهم وحفظ التوازن والاستقرار فى المجتمع. فى مصر، يحتاج إصلاح الخطاب الدينى الحالى إلى نظرة معمقة لطبيعته وأهدافه والوسائل التى يستخدمها والمصادر التى يستقى منها مقولاته وأفكاره، فباستثناء القرآن والسنة النبوية الشريفة - وهما مصدران متعاليان ومتساميان - يجب النظر فى العديد من التفسيرات والاجتهادات والأمور الفقهية التى كانت بنت زمانها وعصرها وظروفها ولم تعد تلائم العصر ولا مصالح الجماعة الإسلامية المعاصرة، أو مصالح المواطنين عامة، بالإضافة إلى ذلك فتح باب الاجتهاد والابتكار لبلورة رؤى أخرى تستشرف مقاصد الشريعة ومصالح العباد على ضوء التغيير المعاصر الكونى والعالمي، وأن تستهدف هذه الرؤى رفع الأذى عن المسلمين، إن فى عقر دارهم وإن فى البلدان التى يقيمون فيها، ويلجأون إليها، ولن يتأتى ذلك إلا مع استنهاض العقل والتفكير والتدبر ورفض المألوف من التفاسير والممارسات التى تسوغ تشويه الإسلام والمسلمين، وتؤكد الصور النمطية السلبية التى رسمها الإعلام الغربي، كسر هذه الدائرة الشريرة التى يعانى منها المسلمون بسبب تلك القلة من الذين انحرفوا وأخضعوا النصوص لأهوائهم وأغراضهم وأمراضهم النفسية المستعصية على العلاج، بل ونحوا النصوص جانبا، واستعانوا بالفتاوى والتحريم وفق أهوائهم وأغراضهم. هو هدف أى إصلاح دينى وأى خطاب دينى جديد، يعتمد على العقل لا النقل، والاجتهاد والابتكار وليس القياس والركون إلى تلك النصوص الفقهية البشرية التى واكبت زمانها ولم تعد ملائمة لعصرنا، باختصار فإن هدف الخطاب الدينى الجديد هو استعادة الإسلام من خاطفيه أى من تلك الجماعات الإرهابية وجماعات الفتوى والتحريم التى ترتبط بها وتقوم بأعمال الفتاوى وفق أهوائها ومصالحها. لمزيد من مقالات د. عبد العليم محمد