يمثل حادث جريدة شارلى إبدو الفرنسية الذى أدى إلى مقتل 17 شخصا جريمة نكراء لا يمكن تبريرها تحت أى منطق دينى أو أخلاقى , فضلا عن كونها تسىء لصورة الإسلام وتكرس مفهوم الإسلاموفوبيا الذى انتشر فى الغرب, وتؤكد أن الإرهاب أصبح أحد المصادر الكبرى لتهديد السلم والأمن الدوليين. والجريمة الأخيرة فى فرنسا ليست الأولى التى ترتكب باسم الدين, فقد سبقها الكثير من الحوادث الإرهابية فى العديد من الدول الغربية بعد هجوم 11 سبتمبر الإرهابى, وما نتج عنه من استفحال الأصوليات الدينية والتنظيمات الإرهابية كالقاعدة وغيرها, والتى باتت فى مواجهة مع الدول وتمتلك من الإمكانات ما يجعلها مصدر خطورة, فى ظل عدو غير مرئى يعتمد على المفاجأة والعمليات الانتحارية, ويجند الشباب الذى يعانى الفقر والبطالة, خاصة مع تزايد أعداد الشباب الأوروبيين المنضمين للتنظيمات المتطرفة كداعش. وأصبحت ظاهرة الإرهاب تهدد جميع الدول والمجتمعات ولا تستطيع دولة بمفردها مواجهتها. فقد أظهرت تجربة السنوات السابقة أن المواجهة العسكرية وحدها غير كافية لاستئصال سرطان الإرهاب, بل على العكس انتشرت مخاطره فى مساحات واسعة, سواء فى إفريقيا أو آسيا أو أوروبا أو الشرق الأوسط, والقاسم المشترك فيها جميعا أن الطرف الذى يمارس الإرهاب هو الجماعات الدينية الإسلامية, والتى تعطى الذريعة لبعض وسائل الإعلام والجماعات المتشددة للترويج بأن هناك حربا بين الغرب والإسلام. ولاشك أن مواجهة خطر الإرهاب تحتاج إلى تفكيك الخلط حول العديد من الأمور: أولها: أن الجماعات الأصولية الدينية, كالقاعدة وداعش وبوكو حرام وغيرها, لا يتجاوز أعدادها بضع عشرات الألوف من الأشخاص, ولا يمثلون الدين الاسلامى المعتدل والوسطى الذى يعتنقه أكثر من مليار ونصف مليار شخص فى العالم. وثانيها: هذه الجماعات الدينية المتطرفة لا تستهدف الغرب فقط, بل تستهدف المسلمين أنفسهم, كما يحدث فى العديد من الدول العربية والإسلامية, التى تشهد أعمالا إرهابية يذهب ضحيتها الآلاف من الأبرياء, وتستخدم هذه الجماعات أبشع الطرق فى القتل والتدمير, كما أن العديد من أجهزة المخابرات الغربية تغذى هذه الجماعات وتوظفها لتحقيق أهدافها. وثالثها: أن العلاقة بين الحوادث الإرهابية وحرية الرأى والتعبير زادت بشكل كبير فى السنوات الأخيرة, خاصة بعد حادث الرسوم الدنماركية المسيئة للإسلام, والتى أعطت الذريعة لهؤلاء لتبرير أفعالهم الشنيعة, وإذا كانت حرية الرأى والتعبير أحد المكتسبات الكبرى فى الغرب, فإن الحرية ليست مطلقة خاصة عندما تتعلق بالإساءة أو ازدراء دين معين لمجرد أن حفنة من الناس يتحدثون باسمه وهم ليسوا حجة عليه. فالأمم المتحدة قد حظرت الإساءة إلى أى دين أو معتقد تحت مظلة حرية الرأى, وممارسة هذه الحرية تفضى إلى مزيد من الضحايا, كما حدث بعد إنتاج فيلم فتنة عام 2012 ونتج عنه مقتل أكثر من مائتى شخص خلال مظاهرات احتجاجية ضد الفيلم. ومن ثم فإن لجوء بعض الصحف إلى تكرار نشر مواد تسىء إلى المعتقدات الدينية يعطى الذريعة لهؤلاء تحت اعتقاد أن هناك حربا من الغرب على الإسلام, وهذا الأمر يحتاج إلى الحكمة فى المعالجة, ليس من منطلق الرضوخ لتهديدات هذه الجماعات المتشددة, وإنما انحياز لمبدأ التعايش بين الثقافات والأديان واحترام مقدسات ومعتقدات الآخرين, واختزال المواجهة مع هذه الجماعات المحدودة وليس مع قطاعات واسعة من المسلمين تدفعها تلك الإساءات إلى الغضب. وبالتالى فإن مواجهة الإرهاب تتطلب رؤية أعمق ومنهجا شاملا يرتكز على: - مواجهة عسكرية حاسمة من خلال التنسيق بين أجهزة الأمن فى العديد من الدول لتتبع تحركات هؤلاء الأفراد, الذين يستغلون حالة الهلامية فى العديد من الدول العربية التى تشهد أزمات لتهريب الأسلحة, فدخول أسلحة ثقيلة كالمدفع الرشاش إلى فرنسا يعتبر أمرا خطيرا ويكشف عن تخطيط محكم من هذه الجماعات بمساعدة أفراد من الداخل. - مواجهة فكرية من خلال تجديد الخطاب الدينى, وأن تقوم المؤسسات الدينية الكبيرة الممثلة للإسلام مثل الأزهر الشريف, بتوضيح حقيقة الدين الإسلامى السمحاء التى تقوم على التسامح والاعتدال والدعوة بالحسنى, وأن من قتل نفسا بغير حق فكأنما قتل الناس جميعا, لمواجهة الخطاب الدينى المتشدد لهذه الجماعات. وتجفيف منابع تجنيدها لأجيال من الشباب البرىء والمضلل. - التمييز بين حرية الرأى والإبداع المطلقة, والتى يجب الانحياز لها, وبين مسئولية وسائل الإعلام الغربية فى احترام عقائد وأديان الآخرين, وعدم الخلط بين الإرهاب الذى هو مرفوض من جميع المسلمين, وبين الإسلام والغالبية الساحقة من المسلمين الذين يعيشون فى الغرب, ولعب دور إيجابى فى بناء هذه المجتمعات وتقدمها. - مواجهة سياسية للأزمات المشتعلة فى منطقة الشرق الأوسط, والتى تمثل وقودا لاشتعال الحرائق والإرهاب, وابتعاد الغرب عن سياسة المعايير المزدوجة فى التعامل مع الأزمات الدولية, وأن يكون هناك رفض شامل لكل أعمال العنف التى ترتكبها الجماعات الأصولية المتطرفة فى كل الأديان والمعتقدات. وبدون معالجة شاملة للإرهاب, فلن يكون حادث شارلى إبدو الأخير طالما لم تتم إزالة مسببات الإرهاب. لمزيد من مقالات احمد سيد احمد