بعد أسابيع قليلة من الهجوم على واشنطن ونيويورك والمعروف بهجوم 11/9، أعلن مجموعة من المفكرين الأمريكيين وبعض رموز السياسة فى بيان لهم تفسيراً للإرهاب الذى تعرضت له بلادهم، كان عنوان البيان بسيطاً وفى صورة تساؤل وهو: «لماذا يكرهوننا؟»، بعبارة أخرى لماذا يكره المسلمون الولاياتالمتحدة ويقررون ضرب رموزها الاقتصادية والسياسية، وجاءت الإجابة ذات ثلاثة عناصر؛ أولها أن الغرب متقدم اقتصادياً وحضارياً فى مقابل أن العرب والمسلمين متخلفون، وأنه عادة ما يقوم الفاشلون بالحقد على الناجحين، وأحياناً يتحول الحقد إلى عنف وإرهاب. وثانياً أن العالم الإسلامى لا يعرف الديمقراطية والتعددية ولا يحترم حقوق الإنسان، وثالثاً أن الدين الإسلامى نفسه مسئول عن اتجاهات التطرف الفكرية والسلوكية التى تنتشر فى المجتمعات المسلمة. لم يأتِ البيان على أى شىء يخص المسئولية الغربية والأمريكية بشأن إنشاء ودعم الجماعات المتطرفة فى العالم عامة، وفى الشرق الأوسط خاصة، ولا على تجاهله الحقوق المشروعة لشعوب بأكملها فى الحرية والسيادة والدولة المستقلة كالشعب الفلسطينى مثلاً. ولم يُشر البيان إلى الحقبة الاستعمارية التى سادت الشرق الأوسط وخلفت الكثير من الأزمات الممتدة حتى وقتنا الراهن. كان هدف البيان مركزاً فى شىء واحد وهو نفى المسئولية عن الغرب وتحميلها لعالم آخر ولدين آخر ولسلوك آخر. وكان دليلاً فى الوقت نفسه على أن الغرب لا يتأمل أحواله جيداً ويثق فى نفسه إلى حد إنكار القابلية للخطأ، ودائماً ما يميل إلى الاستعلاء على الحقيقة وإنكار الواقع. وفى كل الأحوال فقد قدم البيان نوعاً من الغطاء المعنوى لقرار الرئيس بوش الابن بالحرب على أفغانستان، ثم الحرب على العراق وغزوها وتدميرها. السؤال الذى يقفز إلى الذهن الآن، وفى ضوء ما حدث فى الصحيفة الفرنسية «شارلى إيبدو»: هل تغير الغرب فى رؤيته للإرهاب كظاهرة عالمية تتطلب إعادة تقييم لجملة من السياسات والقناعات والاستراتيجيات الغربية، والخروج من دائرة المقولات التقليدية التى تحمّل الغير المسئولية وتترفع عن تحملها ولو جزئياً؟ من الواضح أن هناك إصراراً على أن التطرف الفكرى والإرهاب والعنف السلوكى هو نتاج حضارة غير غربية، وأنه نتاج لدين وافد على الغرب. ومعنى هذا ببساطة أن إمكانية مراجعة السلوك الغربى نفسه أو على الأقل النظر فى مسئولية بعض السلوكيات والممارسات الغربية لغرض تغييرها، هى إمكانية غير متاحة حتى اللحظة. لقد اعتاد الغرب على أن يكون قائداً وعلى قمة النظام الدولى، ومن اعتاد على القيادة وبذل فى سبيلها الكثير من التخطيط والأموال والأنفس، يرى من الصعوبة بمكان التفكير بتغيير الذات. لقد خرجت الجموع الفرنسية والأوروبية حاملة رسالة فى غاية البساطة أنهم لا يخافون الإرهاب ولا يخافون التطرف الإسلامى، وأنهم كلهم «شارلى إيبدو» ويؤيدون مسلكها التهكمى تجاه كل الخليقة دون استثناء. وفى لحظات الفوران العاطفى يمكن أن نتقبل بعض الشعارات المتطرفة أو التى تساير الضحية تعبيراً عن التعاطف من جانب، ورفض سلوك الإرهابيين من جانب آخر. وبعد أن تمر مثل تلك اللحظات، فمن الحكمة أن تعالج الأمور معالجة فى العمق. هناك الكثير من القناعات والممارسات الغربية بحاجة إلى إعادة نظر جذرية، وهذا لن يكون إلا بعد هدوء العاصفة وانتفاء جذوة الفوران العاطفى التى تلى أى حوادث صادمة للجموع. وفى اعتقادى أن على الغرب أن يعيد النظر فى عدد من المقولات التى يحاول بها نفى المسئولية عن نفسه فيما يتعلق بانتشار الإرهاب والعنف عبر العالم. وأولى هذه المقولات ما يتعلق بأن الحرية التى بلا سقف لا يمكن المساس بها. وليس هناك ضير فى أن يدافع الغرب عن حريته التى يمارسها من أجل نفسه، أما أن تكون هذه الحرية بمثابة الباب الملكى لإيذاء الآخرين معنوياً وتشويه معتقداتهم الدينية، فهنا لا نكون أمام حرية رأى بقدر ما نكون أمام جريمة عنف معنوى ثابتة الأركان ضد مجموعات بعينها سواء تعيش داخل الغرب ذاته أو فى مواقع مختلفة من العالم. وقد يقول قائل إن هؤلاء الساخرين برسوماتهم وتعليقاتهم يفعلون ذلك أيضاً ضد الدين المسيحى ورموزه الكبرى، كنوع من تبرير إقدام جريدة مثل «شارلى إيبدو» على نشر رسوم مسيئة للنبى محمد، صلى الله عليه وسلم. وهو تبرير أقبح من ذنب، فإذا كان المسيحيون الذين يعيشون فى الغرب يقبلون بعض السخرية لرموزهم الدينية الكبرى، فليس هناك ما يرغمنا -نحن المسلمين فى مختلف بقاع العالم- على أن نتقبل الإساءة لرموز الإسلام الكبرى، أو حتى رموز المسيحية الكبار، بصدر رحب كما يقولون لنا. فنحن نقدس رموزنا الدينية، وهذا حقنا الإنسانى الذى لا يستطيع أحد أن يجبرنا على التنازل عنه. إن الحرية الحقة التى نقدرها هى الحرية المسئولة التى تنتهى عند حرية الآخرين، والتى لا تعرف الإيذاء المعنوى لأكثر من مليار من البشر، ولا تسعى إلى سب مجتمعات بأسرها أو استفزاز هذه المجتمعات. وإذا كان الغرب دائماً ما ينصحنا باعتبارنا الأقل تقدماً والأكثر تخلفاً، فنحن بالمقابل علينا واجب الدفاع عن معتقداتنا وأن ننصح الغرب فى المقابل بأن يتخلى عن عنجهيته وعن غروره، ونطالبه بأن تكون ممارسته للحرية فى إطار احترام عقائد الغير وليس الاستهانة بها. الشىء الثانى، الذى يجب على الغرب أن يتوقف عنه، هو ما يعرف باستراتيجية مراقبة الإرهابيين المرجحين، إذ جوهر هذه السياسة هو احتضان غير مباشر لهؤلاء الإرهابيين وإعدادهم للقيام بمهام تتوافق مع مصالح الغرب ضد الغير، خاصة المسلمين. وقد ثبت يقيناً أن هذه السياسة تمثل مقدمة لانقلاب هؤلاء الإرهابيين على من يقومون بحمايتهم مهما كانت الإجراءات الأمنية والاحترازية. الشىء الثالث، يتعين على الغرب أن يعيد النظر فى سياسة احتضان المواقع الإلكترونية التى تديرها الجماعات الإرهابية والمتطرفة، وأن يبادر إلى إغلاقها والحد من انتشارها، فهذه المواقع هى أدوات تجنيد وتعبئة للتطرف والإرهاب، وإغلاقها هو قمة المسئولية تجاه أمن واستقرار العالم بأسره. ومن يتحدث عن صعوبة ذلك نذكره بأن الولاياتالمتحدة فى أعقاب هجمات 11 سبتمبر أغلقت كل مواقع حكومة طالبان وتنظيم القاعدة ولم تبالِ بأى انتقادات. بل رأى العالم فى هذا السلوك الأمريكى أمراً مقبولاً.