الظهور الكارثى لعنف الجماعات المتطرفة فى فرنسا قبل أيام هو حصاد وتسلسل منطقى لصعود الميلشيات الدموية فى الشرق الأوسط وبداية تغير فى المعادلة التى تحكم العلاقات بين المجتمعات الأوروبية وسماحها بتدفق الملايين من المهاجرين الجدد إلى أراضيها وبين المجتمعات العربية والإسلامية فالجماعات المتطرفة فى بلاد العراق والشام ترى نفسها اليوم نائبة عن الإسلام والمسلمين فى صراع الهوية أو الصراع الحضارى المزعوم، وتلعب وسائط الإعلام الاجتماعى دورا مهما فى الحشد والتجنيد والتعبئة فى تلك الحرب، ويبدو أن تنظيمى «داعش» و»القاعدة» قد شعرا بزهو كبير بعد ما فعلوه فى العراق وسوريا واليمن فى العام الماضى واليوم يحاولون نقل المواجهة إلى عواصم الغرب من أجل نزع الاعتراف بدولتهما المزعومة التى أصدروا لها عملة وعلم وجوازات سفر وقواعد لسلوك المواطنين وأشياء محرمة على الأقليات. لم يكن لتلك الجماعات أن تحشد رجالها بعد 14 عاما من حوادث 11 سبتمبر فى الولاياتالمتحدة لو لم تحقق انتصارات فى المشرق العربى وهى كانت تتوق بشدة إلى جر القوى الغربية إلى حرب جديدة على غرار حرب العراق من أجل الجلوس على مائدة التفاوض مع الكبار على الساحة الدولية- هكذا يتصورون- ووضع شروطهم التى يحاولون من خلالها أن ينتزعوا اعترافا دوليا بعيد المنال. المعادلة التى تريد الجماعات المتطرفة فرضها على الساحة الدولية لن يكتب لها النجاح، وإن طالت المواجهة، ولكنها ستترك أثاراً شديدة السلبية على التعايش فى المجتمعات الغربية حيث يوجد اليوم ملايين العرب والمسلمين ولو تباعدت الفجوة أكثر داخل تلك المجتمعات فإن القوى المتشددة ستكون قد حققت ما تريده بزيادة مساحة الشقاق بين المواطنين الإصليين والمهاجرين وبقاء جذوة التشدد مشتعلة فى المناطق الهامشية سواء فى فرنسا أو بريطانيا أو هولندا أو بلجيكا وغيرهم. ومن التبعات أن الدول الغربية سوف تتجه تحت ضغوط اليمين السياسى إلى تعديل قوانين محاربة الإرهاب وقوانين التجنيس والإقامة وحتى قوانين جمع التبرعات لمنظمات المجتمع المدنى للحد من مساحة الحرية التى تتمتع بها جمعيات متشددة فى الغرب. ولو نظرنا إلى نوعية من المتطرفين تحارب فى صفوف داعش أو فرق القتل فى شوارع باريس ستعرف أننا أمام جيل يعيش تناقضات العيش فى ظل الحضارة الغربية والسقوط السريع فى فخ الدعاية السوداء لتنظيمات ممولة بشكل ممنهج من أجهزة استخبارات ومن تنظيمات تتحرك بحرية فى عواصم الغرب لإحداث انقسامات فى دول الشرق الأدنى وشمال إفريقيا. وتمثل عملية «شارلى إيبدو» فى قلب باريس انكشافا واضحا لمعادلة التسامح مع الإرهابيين الذين يعبرون الحدود بين العالم الأوروبى ودول الشرق الأوسط بسهولة ويسر رغم إدارجهم على قوائم التنظيمات والشخصيات الإرهابية منذ سنوات وبالقطع الكثيرون منهم يختبئون فى المدن الغربية وسط الجيل المفقود الضائع الذى يتمزق ما بين البطالة ونقص التعليم وصراع الهوية حتى لو كانوا من مواليد الغرب. فى قراءة المشهد عربيا ودوليا، تخوض دول عربية كبرى فى مقدمتها مصر معركة ضد التطرف والتشدد فى الأفكار والقراءة الخاطئة للنص الدينى وهى معركة لن تحسم بين عشية وضحاها وتحتاج إلى فهم القوى الغربية لطبيعة الصراع دون إلقاء مزيد من اللوم على الحكومات فى تلك المرحلة أو إبعاد المسئولية إلى أطراف تكتوى بنار التطرف ويتعين على الغرب أن يعالج القضية من الجذور فى مجتمعاته من خلال مواجهة حقيقة أن السياسة الخارجية الخاطئة قد قادت إلى تلك النتائج الكارثية فى العالم الغربى وفى الداخل الأوروبى والبدء فى برامج للإدماج تستوعب هذا الجيل المفقود الذى يشعر بالغربة والانفصال عن المدنية المعاصرة وتحجيم الجمعيات الدينية التى تنشر التشدد بعيدا عن عيون السلطات، والعمل مع الشركاء فى الشرق الأوسط على استراتيجية جديدة تنزع أسباب السخط فى تلك المجتمعات من خلال مساعدة الحكومات على توفير سبل أفضل للحياة وعلاج التردى الاقتصادى الذى يفرخ اليوم أجيالا من المتشددين بصورة غير مسبوقة. ولو انكفأت أوروبا على نفسها لن تحصد سوى مزيد من الإرهاب والفزع والرعب وعندما تنحسر موجة إرهابية دون معالجة الأسباب لن تكون هناك ضمانة من ضربات أوسع فى المستقبل حتى لو جاءت الإجراءات الأمنية قاسية لأن العوامل الكامنة وراء ما يجرى لن تحلها القبضة الأمنية مثلما يعظ الغرب غيره فى تلك الأيام عن حقوق الإنسان والديمقراطية. لمزيد من مقالات عزت ابراهيم