يعتبر الكاتب الكبير بهاء طاهر من أجدر الشخصيات بالاحتفال بعيد ميلاده الثمانين والاعتزاز به، لعطائه الأدبي العظيم، ولمواقفه الرائعة من القضايا الوطنية، وإصراره على إعلان كلمة الحق والتمسّك بها حتى آخر مدى. ومن ناحية أخرى يعتبر من أكثر الكتاب ولاء لجذوره الصعيدية، وقد تركّز هذا الولاء في ثلاثة عناصر أساسية ساعدت على تكوين شخصيته، أولها ارتباطه بقرية «الكرنك» التي ولد ونشأ فيها والداه، فاكتسب عنصرا عاما في تكوينه هو اصرار وصلابة أهل الصعيد، رغم أنه لم يولد في «الكرنك» بل ولد في مدينة الجيزة في 13 يناير 1935 في آخر تنقلات والده بحكم عمله كمدرس لغة عربية، لكنه عرف «الكرنك» وعشق كل ما تموج به أرضها، من بشر وحيوان ونبات من خلال حكايات أمه التي كانت تتمتع بموهبة سرد شفهية لكل ما يجري على أرضها أشبعت رغبته في الاستماع، وعرفته على موطنه، ودعّمت موهبته الوليدة. لذلك ظلّ طوال عمره مرتبطا بأمه وحكاياتها حتى عندما اغترب عنها كان يزورها كل فترة فيجلس تحت رجليها ويقول لها «احكي لي حاجة يا حاجة، فتضحك وتحكي». كان ارتباط الأم بقرية المنشأ ارتباطا واقعيا أصيلا تولّد منذ المولد والحياة بين جدران تلك القرية خلال مرحلة الطفولة والصبا حتى السادسة عشرة حين تزوجت من أبيه وبدأت رحلة اغتراب معه في المدن المختلفة التي كان يتنقل بينها بحكم عمله كمدرس، محافظة في ذات الوقت على علاقة روحية ممتدة كابنة مخلصة لتلك القرية، فلم تغيّر طوال حياتها لهجتها ولا عاداتها الصعيدية. كما كانت تفاصيل الحياة في القرية وتاريخ أسرها والعلاقات بين هذه الأسر وما يحدث لأفرادها الموضوع المفضل عندها. وكانت توفّر المادة الصالحة لتلك الحكايات من خلال زيارات الأقارب التي لم تكن تنقطع على مدار العام. هنا، لابد أن نعي أن الأم قد حلت اشكالية البعاد، وقلصت المسافات التي تبعدها عن قرية المنشأ بإعادة بعثها واحيائها ثانية من خلال حكاياتها، فاختزلت الحاجز لنفسها، ومثّلت في ذات الوقت دون أن تعي قدوة ونموذجا مرتجى لابنها الصغير، وأتاحت له أيضا أن يعوّض بعاده عن تلك الأرض العزيزة بالاقبال على حكاياتها. ولن نجانب الحقيقية لو قلنا انّ بهاء طاهر قد تشرّب ارتباط وحبّ أمه لأرض المنشأ، وورث موهبة أمه الشفاهية بعد أن تحوّلت في حالته الى (ابداع) مكتوب! كما يرجع العنصر الخاص بجمال العبارة وحسن اختيار المفردات حتى صار يضرب به المثل كواحد من أصحاب الأساليب الرفيعة، أساسا الى والده الذي كان مولعا بالقراءة بشكل لم يره في حياته، فورث عن أبيه هذا النهم الشديد للقراءة، وبذلك وفر له نموذجا مؤثرا يتطلع الى الاقتداء به، حتى أصبح محبّا للقراءة مقبلا عليها، كما أورثه مكتبة معتنى بكتبها وإن كانت صغيرة الحجم لكنها أتاحت له فرصة الإطلاع على أمهات كتب التراث الأدبية والعربية مع حرص على الاعتناء بها والحفاظ عليها، وربما ولدت لديه طموحا منذ عمر مبكر أو رغبة لاواعية أن يكون صاحب كتب مثلها، وهي تعتبر جميعا أدوات لازمة لتنمية وتطوير وصقل موهبته وصولا الى التمكّن من تدبير أسلوب خاص متميّز، يتصف بحسن اختيار المفردات تحقيقا لطلاوة العبارة ووضوح مغزاها. تعلم بهاء طاهر مبادئ القراءة والكتابة في مدرسة إلزامية، وحفظ جزءا من القرآن الكريم في أحد كتاتيب الجيزة، ثم دخل مدرسة الجيزة الابتدائية، ثم السعيدية الثانوية، وأخيرا كلية الآداب بجامعة القاهرة التي تخرج فيها عام 1956، ثم حصل على دبلوم الدراسات العليا في الإعلام شعبة اذاعة وتليفزيون عام 1973، والتحق بالبرنامج الثاني بالاذاعة الذي كان مدرسة تفتحت عليها كلّ مداركه، حين عاش فيها تجربة الفريق الواحد، كما أنه عقد فيه صداقات استمرّت بقية العمر، كما أن العمل في البرنامج الثاني جعل للثقافة مذاقاً آخر، واستمر بالعمل فيها حتى عام 1975 حين منع من الكتابة، فسافر الى عدد من البلدان حتى استقر به المقام في جنيف حيث عمل مترجما في الأممالمتحدة في الفترة بين عام 1981 و 1995. وعاد أخيرا الى مصر ليشارك في معاركها الثقافية والسياسية.
الانتاج والجوائز
أصدر بهاء طاهر مجموعة قصصية واحدة بعنوان «الخطوبة» عام 1973، تجلّت خلالها بعضا من قناعاته بأن قضيته الأساسية هي الصعيد الجواني وقرية الكرنك أساسا. وكان قد أنجز رواية وحيدة بعنوان «شرق النخيل» كتبها في فترة السبعينيات لكن لم تصدر طبعتها الأولى الاّ في عام 1985 (عن دار المستقبل العربي)، وتجري أحداثها بما كان يمور به منفى القاهرة الكبير من مظاهرات عام 1972، لكن مرتكزها الأساسي ارتبط بواقعة معينة حدثت في الصعيد، وأصدر خلال فترة اغترابه في بلاد (منفى) الشمال التي استمرت مدّة خمسة عشر عاما مجموعتين قصصيتين، ضمّت الأولى (أول) قصة كتبها في مرحلة اغترابه عام 1984، وهي قصة «بالأمس حلمت بك» وأضاف اليها بعضا من قصص ما قبل الاغتراب وحملت المجموعة عنوانها. ثم أصدر روايته الثانية «قالت ضحي» (1985)، ثم مجموعتة الثالثة «أنا الملك جئت» (1989) التي تكونت من عدد من القصص كتبها في غربته، ثم تدفق فيض ابداعه فأبدع روايتي «خالتي صفية والدير» (1991) وهو يمنح الصعيد مساحتها كلها، ورواية «الحب في المنفى» (1995) التي دشنت علاقة أو علاقات حب في المنفى, وما يقابلها من علاقة أو علاقات حب في الوطن الأصلي. وبعد أن انتهت أيام الغربة واستقر في مصر أصدر مجموعة قصص «ذهبت الي شلال» (1998)، ثم روايتا «نقطة النور» (2001) حول الوطن الأكبر، و«واحة الغروب» (2007) التي بلغ فيها ذروة نضجه وهو يتناول واحة سيوة من خلال لوحة واسعة زاهية الألوان امتدت لتشمل حضارات أخرى، وأخيرا مجموعة قصص «لم أعرف أن الطواويس تطير» (2009) صدر له أيضا في مجال الترجمة: مسرحية «فاصل غريب» ليوجين أونيل (1970)، ورواية «السيميائي: ساحر الصحراء» (1996) لباولو كويلهو. كما صدر له عدد من الكتب الفكرية: «البرامج الثقافية في الاذاعة: دراسة نظرية» (1975)، و»مسرحيات مصرية: عرض ونقد» (1985)، وبلور موقفه التنويري في كتاب «أبناء رفاعة: الثقافة والحرية» (1993)، و«في مديح الخالة: قراءات لروايات وروائيين» (2005). وقد حصل على جائزة جوزيبي الايطالية عام 2000 عن رواية «خالتي صفية والدير. كما نال جائزة الدولة التقديرية في الآداب عام 1998، وجائزة البوكر العربية عن رواية «واحة الغروب» عام 2008. ثم كان حصوله في عام 2009 على جائزة النيل (كبرى الجوائز الثقافية المصرية) تتويجا لرحلة عطاء طويلة.