من حق دولة الاحتلال أن تتنفس الصعداء، بعد أن تأكدت أن سياساتها القمعية ضد الفلسطينيين قد أتت بثمارها، وأن فرص اندلاع انتفاضة شعبية فلسطينية ثالثة باتت محدودة جدا، خاصة بعد أن مر قرارها بمنع إقامة الصلاة فى المسجد الأقصى للمرة الأولى منذ احتلاله عام 1967 مرور الكرام، ولم يخرج ملايين الفلسطينيين فى الضفة الغربية وقطاع غزة لرفضه وإشعال الأرض نيران تحت أقدام جنود الاحتلال وجحافل المستوطنين المتطرفين، كما كان الكثير من المحللين حول العالم يتوقعون . فعقب قيام الشاب الفلسطينى (الشهيد ) معتز حجازى فى التاسع والعشرين من أكتوبر الماضى بإطلاق الرصاص على الناشط اليمينى اليهودى المتطرف أيهودا جليك، قامت قوات الاحتلال وللمرة الأولى منذ السيطرة على المدينة المقدسة بإغلاق المسجد الأقصى إغلاقا كاملا، ومنع إقامة الصلاة فيه، مما دفع الكثير من المحللين لتوقع اندلاع انتفاضة فلسطينية ثالثة، ولكن لم يحدث أى شىء، لأن الإجراءات القمعية والعوائق المتعددة التى وضعتها الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة منذ اندلاع الانتفاضة الثانية فى سبتمبر 2000 حدت بقوة من قدرة الفلسطينيين على التحرك، وبالتالى الانتفاض . يتمثل العائق الأول أمام اندلاع انتفاضة فلسطينية جديدة فى وجود جدار الفصل العنصرى والأسوار حول مدن الضفة الغربيةوالقدسالشرقية، وهو مايمنع حدوث احتكاك واسع النطاق بين المواطنين الفلسطينيين وقوات الاحتلال الإسرائيلى، كما كان الحال فى الانتفاضتين الأولى والثانية، حيث كان وجود جنود الاحتلال فى شوارع مدن وقرى الضفة وغزة يسهل استهدافهم، ويشكل عبئا كبيرا على الاحتلال، خاصة فى الانتفاضة الأولى، التى كانت المواجهات تتم فيها بين الفلسطينيين العزل، المسلحين بالحجارة فقط،فى مواجهة بنادق ومدافع وطائرات الاحتلال، فكان هذا هو العنصر الذى أوجد تعاطفا عالميا كبيرا مع الفلسطينيين، وهو التعاطف الذى تراجع فى الانتفاضة الثانية بشكل كبير مع عسكرة الانتفاضة، فكان العالم ينظر للأسلحة الخفيفة فى أيدى الفلسطينيين على أنها تساوى الأسلحة الإسرائيلية الثقيلة، واستغل الإسرائيليون هذا الشعور لمحاصرة المدن الفلسطينية والتنكيل بأهلها، وكان بمثابة الحجة التى استخدمتها حكومة آرييل شارون وقبلها إسحاق رابين وشيمون بيريز لإعادة احتلال المناطق التى انسحبت منها قوات الاحتلال عقب اتفاق أوسلو . ويتمثل العائق الثانى أمام انتفاضة فلسطينية ثالثة فى استمرار الانقسام بين الضفة الغربية وقطاع غزة، حيث يستهلك الانقسام والخلافات العميقة بين السلطة الفلسطينية وحركة فتح من ناحية، وحركة حماس من ناحية أخرى، معظم مجهودات الفلسطينيين، ويؤدى إلى تفريغ جانب من غضبهم تجاه إسرائيل، كما أن غياب التواصل بين شطرى فلسطين يعنى وقوف الضفة وحدها فى مواجهة إسرائيل، فى أى انتفاضة محتملة ضد الاحتلال . والعائق الثالث هو غياب قيادة فلسطينية كاريزمية تقود الشعب الفلسطينى، مثلما كان الحال فى الانتفاضتين الأولى والثانية، حيث كان الجميع وبلا استثناء يعتبرون الرئيس الراحل ياسر عرفات (أبوعمار) رمزا لفلسطين، ولم يجرؤ أحد خلال الانتفاضتين على تخوينه، كما أن منظمة التحرير الفلسطينية، وعلى رأسها فتح، كانت تهيمن وحدها على الساحة الفلسطينية خلال الانتفاضة الأولى، التى تفجرت فى عام 1987 رغم أن قادتها كانوا يعيشون فى الخارج، ولم تكن السلطة الوطنية الفلسطينية قد تأسست بعد وشهدت تلك الانتفاضة الظهور الأول لحركة حماس، وهى الحركة التى أصبح لها دور رئيسى فى الانتفاضة الثانية، التى تفجرت عقب اقتحام زعيم المعارضة الإسرائيلى آرييل شارون المسجد الأقصى المبارك فى 28 سبتمبر 2000 وكان أيضا للمنظمة دور كبير فى الانتفاضة الثانية، ولكن الأوضاع تغيرت باستشهاد القادة الكبار، وعلى رأسهم أبوعمار وزعماء حماس المؤسسون، ومنهم الشيخ أحمد ياسين، والدكتور عبدالعزيز الرنتيسى، والدكتور إبراهيم المقادمة، والمهندس إسماعيل أبوشنب وأصبح كل فصيل يحاول إقصاء الآخر والاستئثار وحده بالمشهد السياسى الفلسطينى، ووصل الأمر إلى تخوين الرئيس الحالى أبومازن والتقليل من شأنه، مما يقلل من احتمالات تفجر انتفاضة ثالثة لعدم إمكانية تشكيل قيادة موحدة لها . ويجب الأخذ فى الاعتبار أن الثمن الغالى الذى بدأ الإسرائيليون فى دفعه للفلسطينيين منذ تفجر الانتفاضة الثانية، وتكرر فى الاعتداءات الإسرائيلية على غزة، يجعل من مسألة اتخاذ قرار بتفجير انتفاضة ثالثة أمرا صعبا، بل شبه مستحيل، حيث إن الفلسطينيين، ورغم التضحيات الكبيرة التى دفعوها فى الانتفاضة الثانية، لم يحصلوا على مايريدون، وهو إجبار الاحتلال على الانسحاب إلى حدود الرابع من يونيو 1967 على الأقل بل إنهم خسروا الأراضى التى كانوا قد حرروها بموجب اتفاقات أوسلو بعد الانتفاضة الأولى، علاوة على تدمير مدنهم المتبقية وسقوط قرابة 4500 شهيد، واعتقال الآلاف من المواطنين بمن فيهم أطفال ونساء وعجائز وأصبحت حياتهم أكثر صعوبة بسبب جدار الفصل العنصرى والطرق الالتفافية ويجب ألا ننسى أن الرئيس الحالى محمود عباس “أبومازن “ لايؤمن بجدوى أى انتفاضة مسلحة، لإدراكه أنها لن تجلب إلا الدمار، وهو موقف يتبناه بعد أن رأى بأم عينه تجربة الرئيس الراحل أبوعمار مع الانتفاضة الثانية، وكيف أنها قضت عليه وعلى مكتسباته من اتفاق أوسلو. ومن المؤكد أن أبومازن يملك أقوى سلاح لمعاقبة إسرائيل على اعتداءاتها على القدس وغيرها من الأراضى الفلسطينيةالمحتلة، وهو قرار حل السلطة الوطنية الفلسطينية، وقد بدأ أخيرا التلويح به، حيث ألمح أكثر من مرة إلى أنه إذا لم تقبل إسرائيل بإقامة دولة فلسطينية على حدود الرابع من يونيو 1967، فإنه سيلجأ لإعلان حل السلطة الفلسطينية، وإلغاء اتفاقات أوسلو، وبالتالى يضع الاحتلال أمام مسئولياته طبقا للقانون الدولى، وهى توفير جميع احتياجات المناطق المحتلة، سواء فيما يتعلق بالغذاء، أو الماء، أو الدواء ،أو حرية الحركة، وجميع الحقوق الأخرى، وبالتالى يضطر الجنود الإسرائيليون لدخول المناطق الفلسطينية المكتظة بالسكان ليصبحوا صيدا سهلا للمقاومين، كما كان الحال فى الانتفاضة الأولى .