هل يمكن أن تعبر العلاقات المصرية الإثيوبية حدود الحواجز التى يفرضها ملف المياه، وهل يمكن أن تشكل المساعى المصرية لبناء الثقة مساحة لتدعيم ركائز التعاون بين البلدين، وهل يمكن أن تمثل المباحثات حول سد النهضة مدخلاً ونقطة إنطلاق نحو صيغة أعمق وأوسع لإدارة التعاون المائى فى حوض النيل؟ تساؤلات تفرض نفسها على واقع ومستقبل العلاقات المصرية الإثيوبية، فرغم الحديث عن أهمية التعاون وعدم التوقف عند العقبات التى يثيرها ملف المياه وضرورة النظر للعلاقات فى إطارها الكلي، إلا أن الملاحظ أن ملف المياه بكل تقاطعاته وتطوراته قد فرض إيقاعه على مسار العلاقات قديماً وحديثاً وكذلك سيكون الحال مستقبلاً. فقد ظلت إثيوبيا الأعلى صوتاً من بين باقى دول النهر تجاه أى خطوة مصرية خاصة بسياساتها المائية، ولذا فالتحسن الحالى فى العلاقات على مستوى الحوار بين البلدين، ودورية انعقاد اللجنة الوطنية الثلاثية التى عقدت جولتين حتى الآن (الأولى فى أديس أبابا خلال الفترة 20-22 سبتمبر 2014 والثانية فى القاهرة خلال يومى 16- 17 أكتوبر 2014) بعد فترة من الجمود والخلافات لا يلغى حالة الترقب لتقرير المكتب الاستشارى الدولى الذى سيوكل له إعداد دراستين حول تأثيرات سد النهضة الفنية والبيئية والاقتصادية. فلا شك أن نتائج التقرير سوف تلقى بالكثير من الظلال على مسار التعاون المائي، ورغم كون التقرير يمكن أن يمثل آلية جديدة لحسم الخلافات الفنية، إلا أن نتائجه وتوصياته لا تضمن تحقيق مبدأ الاستخدام المنصف والعادل الذى تطرحه إثيوبيا مقابل مبدأ الحقوق التاريخية الذى تستند إليه مصر والسودان، ولا يلغى التحركات الإثيوبية نحو بناء سدود جديدة، ولا يغير سياسة الأمر الواقع التى تحرص عليها إثيوبيا بتحويل اتفاق عنتيبى الذى ترفضه مصر إلى واقع. مرونة إثيوبيا فملف سد النهضة وسيناريوهاته المتعددة سوف تكون كاشفة ليس فقط لحجم مرونة إثيوبيا فى التعامل مع مخاطره وتأثيراته السلبية كما تشير لذلك الدراسات والبحوث المصرية، ولكنها أيضا ستكون كاشفا لحجم استعداد إثيوبيا لانتهاج أطر تفاوضية جديدة تأخذ فى الاعتبار قاعدة عدم الإضرار، وكاشفة كذلك لحدود رغبتها فى مراجعة طموحاتها الإقليمية والتى تتقاطع بالضرورة مع المصالح المصرية التاريخية فى هذه المنطقة. وبالتالى فمن الضرورى ونحن نتحدث عن محدد التعاون المائى كركيزة لمستقبل العلاقات بين البلدين، أن نوضح أنه بدون إعادة فتح ملف مبادرة دول حوض النيل، وفك قرار تجميد النشاط المصرى فى المبادرة، وإعادة التفاوض حول نقاط الخلاف التى يثيرها اتفاق عنتيبى (حصة مصر، الإخطار المسبق، وآلية التصويت على المشروعات) والوصول إلى اتفاق جماعى لإدارة عملية التعاون المائى واستخدامات مياه نهر النيل من خلال اتفاق قانونى ومؤسسى سوف تظل الخلافات قائمة، بل يمكن القول إن وتيرة الصراع حول مورد المياه سوف تزداد بالقدر الذى لا يعطى فرصة لمكونات أخرى للتعاون. تجاوز الاختزال ولذا ربما يكون من الضرورى الاستفادة من عامل الوقت المتاح حالياً وحتى صدور التقرير (كما هو متوقع فى مارس 2015) فى تجاوز عملية اختزال قضية التعاون الجماعى فى حوض النيل فى قضية سد النهضة، وذلك من خلال تحرك مصرى لدعم مبادرة التعاون الجماعى عبر تفعيل آليات التعامل مع مشروعات تقليل الفاقد لتحقيق زيادة إيراد النهر، وطرح موازنات السد العالى مع الخزانات الأخرى وبناء تصورات متكاملة لجملة السدود على طوال النهر وربطها بسياسات الطاقة بين دول الحوض، الأمر الذى يسهم فى تحقيق التوازن المصلحى للجميع، لا أن يكون سد النهضة بلونة اختبار للسلوك المصرى من جانب بعض دول المنابع الأخرى التى تريد بناء سدود أخري. فنجاح إثيوبيا فى تحويل اتفاق عنتيبى لواقع بالشروع فى بناء سد النهضة، يتطلب عدم اقتصار السلوك المصرى التركيز على ملف المياه والحوض الشرقى فقط رغم أهميته كمورد رئيسى لحصتنا من المياه، بل يتطلب الأمر تعظيم فوائد التعاون مع إثيوبيا وباقى دول حوض النيل. بعبارة أخري، إن الواقع يشير إلى قدرة البلدين على الالتقاء فى منطقة وسط لإدارة أزمة سد النهضة ولكن لا تزال تلك القدرة غير كافية لتحقق طموحاتهما التنموية، فرغم المساعى التى يبديها الطرفان على فترات متباعدة فلا تزال الرؤى لأطر التعاون مستندة إلى معايير وأولويات تفتقر للتكامل، وهنا تجدر الإشارة الى ضرورة استيعاب خبرة التعاون وتجاوز منهاج إدارة الأزمة الى منهاج اشمل يضع أسسا لعلاقات تعاون راسخة. خبرات سابقة فالتعاون بين البلدين ليس بالأمر الجديد ولكنه أيضاً محدود، فقد تمت أول دراسة لبحيرة تانا على يد بعثة من مصلحة المياه المصرية فى عام 1915 ثم قامت بعثة مصرية أخرى بعمل مسح للبحيرة فى الفترة الممتدة من 1920-1924. وكان هناك اقتراح بإنشاء سد على البحيرة فى بداية الثلاثينيات لولا الغزو الإيطالى لإثيوبيا الذى أوقف العمل فى هذا المشروع. ومنذ ذلك التاريخ لم يشهد البلدان أطراً للتعاون الذى ظل دائماً عند مستوى الحد الأدني، حتى فى اتفاق عام 1991 الثنائى الذى لم يتجاوز سمة إعلان مبادئ. ولذا تبدو خبرة التعاون التى يغلب عليها سمة السلبية فى مجملها، حاكمة حتى الآن، ليبقى التساؤل حول إمكانية أن تمثل هذه الخبرة دافعا لعدم إضاعة المزيد من الفرص، فالحرص المصرى على عدم التفريط فى حصتها ( 55.5مليارم3) والمحافظة على حقوقها التاريخية لم يحل دون تزايد رغبتها فى تكثيف خطوات التعاون مع دول الحوض بشكل عام وإصرارها على جذب إثيوبيا لمنطقة التعاون الجماعى تاريخياً حتى ولو بصفة مراقب، كما تعكسه تجارب مشروع الدراسات الهيدرومترلوجية لحوض البحيرات الإستوائية فكتوريا والبرت عام 1967، وتجمع الأندوجو عام 1983، وأخيراً تجمع التكنونيل عام 1992. كما يحسب لمصر حرصها على استمرار الحوار والمحادثات وتجنب التصعيد تجاه أزمة سد النهضة ومن قبل اتفاق عنتيبى بل إن السياسة المصرية وتحركاتها بدت أكثرا ميلا للاحتواء عبر طرح بعض الأفكار المرتبطة بتمويل السد والسعة التخزينية (أن يكون 14 مليار م3 وليس 74 مليار م3) وعملية تشغيله. فى المقابل، فإن تغيير إثيوبيا لموقفها ونهجها التفاوضى بالمشاركة الفعالة فى مبادرة دول حوض النيل، لاسيما فى ظل دور للبنك الدولى والمنظمات الدولية لدعم هذه المبادرة، لم يقابله تطور إيجابى على مستوى التعاون بل برزت اتجاهات ومحاولات ساعية إما لفرض أمر واقع على مصر أو استبعادها من معادلة التعاون فى حوض النيل، وهو ما يمكن استيضاحه من المفارقة التى يعبر عنها المنهج التفاوضى الاثيوبي، فما بين مضمون رسالة لا تتحدث عن حقوق مصرية ولكن على مخاوف يمكن التعامل معه، وإصرارها على استمرار العمل بالسد، والضغط بعامل الوقت، وبين السعى لإظهار قدر اكبر من المرونة فى التعامل مع التحفظات المصرية المرتبطة ببناء الثقة كهدف لتسهيل عمل اللجنة الوطنية الثلاثية عبر توفير ضمانات تتعلق بالمعلومات والبيانات الخاصة بالسد، كما تشير نتائج المحادثات، وهى مفارقة تعكس النهج الاحادى الذى تتبناه اثيوبيا للتعامل مع أزمة السد ومن قبل خلال مبادرة دول الحوض، فالرفض الاثيوبى للحقوق المصرية المكتسبة يمثل احد أهم ركائز موقفها التى لم تتغير حتى الآن. الركائز الخمس الأمر الذى يقودنا لأهمية توافر الإرادة السياسية فى البلدين، حيث برزت التأثيرات السلبية لغياب هذه الإرادة منذ عام 2007 بعد انتهاء المفاوضات الفنية ودخولها فى حلقة مفرغة لم يستطع الفنيون تجاوزها، الى أن ساهم اللقاء الذى جمع الرئيس المصرى عبد الفتاح السيسى ورئيس الوزراء الإثيوبى هيلى ماريام ديسالين على هامش القمة الأفريقية فى مالابو عاصمة غينيا الاستوائية، فى توفير قوة الدفع المطلوبة لعقد الجولة الرابعة (25 26 أغسطس 2014) بعد فترة انقطاع دامت نحو 8 أشهر منذ انتهاء الجولة الثالثة (يناير 2014) كما ساهم اللقاء فى تفكيك بعض عناصر أزمة الثقة ووضع آليات للتحرك، وهو ما انعكس بوضوح فى البيان الختامي، الذى رسم الملامح العامة لمنهاج المحادثات والتعامل مع أزمة بناء سد النهضة ومسار التعاون فى كافة المجالات. فقد ركز البيان على خمس ركائز أساسية، هي: استئناف المفاوضات الثلاثية حول سد النهضة. تشكيل لجنة عليا تحت إشرافهما المباشر لتناول جميع جوانب العلاقات الثنائية والإقليمية فى المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأمنية. التزام الحكومة الإثيوبية بتجنب أى ضرر محتمل من سد النهضة على استخدامات مصر من المياه والتزام الحكومة المصرية بالحوار البناء مع إثيوبيا، والذى يأخذ احتياجاتها التنموية. احترام مبادئ الحوار والتعاون كأساس لتحقيق المكاسب المشتركة وتجنب الإضرار ببعضهما البعض وأولوية إقامة مشروعات إقليمية لتنمية الموارد المالية لسد الطلب المتزايد على المياه ومواجهة نقص المياه واحترام مبادئ القانون الدولى والاستئناف الفورى لعمل اللجنة الثلاثية حول سد النهضة. تنفيذ توصيات لجنة الخبراء الدولية، واحترام نتائج الدراسات المزمع إجراؤها خلال مختلف مراحل مشروع السد. ورغم أن البيان حمل العديد من الجوانب الايجابية إلا أن المحاذير والمخاوف المحيطة بالمحادثات حول السد تظل قائمة ولم تنهيها جولتا المباحثات، التى أثارت العديد من التساؤلات حول الخيارات المصرية والبدائل وحجم تكلفتها. وبالتالى لابد من استمرار الإرادة السياسية الداعمة لتوسيع أطر التعاون واستثمار ما يمتلكه البلدان من مقومات التعاون والبعد عن تسييس القضية كمداخل لا غنى عنها لبناء ركائز قوية للعلاقات الثنائية، وعدم الاكتفاء بإدارة أزمة السد، فتوافر هذه الإرادة فى إطارها الواسع يمكن أن يوفر فى نفس الوقت مدخلاً فاعلاً نحو إيجاد تجمع إقليمى يستند إلى التوازن المصلحى عبر تنمية إيرادات وتدفق النهر، لاسيما وأن الدراسات تشير إلى إمكانات تحقيق هذا المبدأ من خلال مشروعات بعينها، مثل: تنسيق مواعيد التخزين فى بحيرة تانا والرصيرص، وببناء سد وخزان فى جامبيلا فى اثيوبيا لتحزين مياه الفيضان فى نهر البارو ثم إخراجها إلى نهر السوباط فى فصل الجفاف، فهناك الكثير من المشروعات التى يمكن تنفيذها لرفع كفاءة الاستفادة من مياه النهر، حيث تظل المشكلة ليست فى ندرة المياه ، ولكن فى كفاءة ادارتها وتوفير الموارد الكافية والمناخ الملائم للتعاون. رؤية استراتيجية وهكذا، تبدو أهمية اللحظة الراهنة فى بلورة رؤية استراتيجية تستند إلى عدد من المقومات، أولها يتعلق بتجاوز حدود أزمة سد النهضة إلى مواجهة التحدب المائى من منظور ثلاثية الأمن (المائى والغذائى والإنساني) وثانيها تغليب فرص التعاون الثنائى من خلال تحديد نقاط التماس المتشابكة بين المصالح والأدوار والمسئوليات تجاه قضايا القارة الإفريقية وتعقيدات العلاقات الثنائية، وثالثها تقليل الوزن النسبى لمخاطر عدم التوصل إلى اتفاق قانونى ومؤسسى يحكم التعاون المائى فى حوض النيل، رابعها، الموازنة بين كون المياه عامل حياة لمصر وكونه مرجحا لمشروعات تنموية إثيوبية. فقضية المياه وإن كانت قد شكلت فى الماضى أداة ضغط على العلاقات المصرية الإثيوبية فإنها سوف تشكل تحدياً فى الحاضر والمستقبل، فلا مفر من كون قضية المياه بحكم تماسها مع قضية الأمن المانى والقومى لمصر، سوف تحكم الإطار الكلى لشكل العلاقات الثنائية ولن تجدى فى هذه الحالة تلك المحاولات الساعية لفك الارتباط بين مخاطر عدم التعاون المائى ومسار العلاقات المشترك. بمعنى أدق إن فرصة اللحظة الراهنة لتغليب فرص التعاون الثنائي، تفرض صياغة متكاملة لشكل ومستقبل التعاون المائي، تتجاوز معها خلافات اتفاق عنتيبى وتعيد النظر فى دروب العلاقة العضوية التى يجسدها نهر النيل بالقدر الذى يتجاوز الميراث التاريخى المقيد للواقع المعاصر والمحجم لفرص التعاون المستقبلية.