لقد ذخرت السنة النبوية بالكثير من النصوص ذات الطابع القصصي لترشد الناس نحو مبادئ الدين وتعاليمه السامية, متعاونة في هذا مع وسائل الدعوة الأخري في إيجاد الفرد الصالح والمجتمع السليم, كما أسهمت القصة في التأكيد علي كثير من مبادئ العقيدة والعبادة والأخلاق, بحيث يمكن لأي إنسان فضلا عن أن يكون عالما أن يستلهم من نصوص السنة القصصية الصحيحة ماينفعه في دينه ودنياه. ولم يكن غريبا أن تحتذي السنة النبوية بالقرآن الكريم في اشتمالها علي عدد كثير من القصص, فقد استحوذت القصة علي جانب كبير من توجيهات القرآن الكريم, وأسهمت في تأسيس قواعد الدين وتوضيح معالمه, يقول الله تعالي: نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن وإن كنت من قبله لمن الغافلين,( يوسف:3) وفي بيان الغاية من سوق القصص في القرآن يقول سبحانه: فاقصص القصص لعلهم يتفكرون,( الأعراف:176), ويقول: لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ما كان حديثا يفتري ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء وهدي ورحمة لقوم يؤمنون, يوسف:111, وإنما اتجه القرآن الكريم إلي أسلوب القصص في ترسيخ مبادئ الدعوة لما له من فوائد في تحقيق المراد من هداية العباد, فضلا عن رغبة العربي في القصص واستملاحه لها, فقد اورد الزمخشري في تفسير قوله تعالي: ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم ويتخذها هزوا,( لقمان:6), أن النضر بن الحارث كان يشتري كتب الاعاجم ويحدث بما قريشا ويقول: إن محمدا يحدثكم بحديث عاد وثمود وأنا أحدثكم بأحداث رستم وبهرام والأكاسرة وملوك الحيرة, فيستمحلون حديثه ويتركون استماع القرآن,( تفسير الكشاف:239/3). وكان لجوء القرآن الكريم إلي استخدام القصة كأسلوب من اساليب الدعوة مشجعا لكل من ارتبط بالقرآن لينهج نهجه في توظيف القصة لخدمة الدعوة, وبدا هذا واضحا في سنته صلي الله عليه وسلم فقد ظهر تأثره صلي الله عليه وسلم بقصص القرآن في سلوكه وأخلاقه, ومن أمثلة ذلك ماورد: أنه صلي الله عليه وسلم قسم يوم حنين الغنائم فآثر ناسا, فقال رجل: والله, إن هذه القسمة ماعدل فيها, وما أريد بها وجه الله, فقال عليه الصلاة والسلام, فمن يعدل إذا لم يعدل الله ورسوله؟ رحم الله موسي فقد أوذي بأكثر من هذا فصبر,( صحيح البخاري1148/3). كما ظهر اقتداؤه صلي الله عليه وسلم بالقصص القرآني في طريقة عرضه, فكان يختار القصص من تاريخ السابقين ليشرح لنا مايريد من المعاني بالأمثلة التي تجسد الواقع في صورة الماضي المعروف سلفا ليرسخ في ذهن المتلقي فلاينساه. وإنما كان هذا الاهتمام البالغ بالقصة لما لها من اثر واضح في التوجيه والتربية وايصال المفاهيم, إذ الإنسان يولع بالقصص ويميل بفطرته إليها, وإذا ماقص عليه جزء من قصة حرص علي متابعة أحداثها ليعرف مدي ماوصلت إليه, فغريزة حب الاستطلاع تعلق عين السامع وأذنه وانتباهه بشفتي القصصي البارع استشرافا لمعرفة ماخفي من بقيتها, ومما يدل علي هذا الميل الفطري نحو القصة والرغبة في تتبع أحداثها ماورد عنه صلي الله عليه وسلم أنه لما ذكر قصة موسي مع الخضر قال: وددنا لو أن موسي صبر فقص الله علينا من خبرهما,( صحيح البخاري1347/3). والقصص أسلوب تربية عملية يشد من أزر المتمسكين بالحق والثابتين عليه, أسوة بمن سبقوهم علي الطريق, ومن ثم كان النبي صلي الله عليه وسلم يوجه أصحابه إلي استقراء تاريخ الثابتين علي الحق إذا أراد أن يقوي عزائمهم, ويشد من أزرهم في مواجهة الصعاب. فعن خباب بن الارت قال: شكونا إلي رسول الله صلي الله عليه وسلم وهو متوسد بردة في ظل الكعبة, قلنا له: ألا تستنصر لنا؟ ألا تدعو لنا؟ قال: كان الرجل فيمن قبلكم يحفر له في الأرض فيجعل فيه, فيجاء بالمنشار فيوضع علي رأسه, فيشق اثنتين, ومايصده ذلك دينه, ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه من عظم أو عصب وما يصده ذلك عن دينه,( صحيح البخاري1322/3). إن القصة أداة سهلة الفهم تحظي بالقبول من العامة والخاصة علي السواء, ومن ثم فقد لازمت الإنسان منذ وجوده, ومازالت تؤدي دورها في عالمنا المعاصر بصورة كبيرة جعلتها صاحبة المكانة الأولي في عالم الأدب اليوم, وما من شك هنا ان إقبال الناس علي القصص النبوي وتعلقهم بأحداثها يعمق مضامينها في نفوسهم ويمكنهم من الاستيعاب الجيد والتأثر بالأحداث واستخراج العبر والعظات, فضلا عن إستنباط الأحكام الشرعية والقيم النبيلة من السنة النبوية والتي لاتختلف لدي الإنسان عبر الزمان والمكان. المزيد من مقالات د. علي جمعة