حدث ما يوقفني عن سياق الكتابة الذي انشغلت به طيلة الأسابيع الأخيرة. فقد رحل- بعد صراع لم يطل مع المرض- العالم الجليل الدكتور عبد الحافظ حلمي. وبرحيله فقد مجمع اللغة العربية واحدا من أعلامه الأفذاذ الثقات, في العلم واللغة والثقافة, والخلق الرضي السمح, والصفاء الإنساني النقي, والأستاذية الرصينة التي لا يشوبها تصنع أو ادعاء أو استعلاء. وفقدت الجمعية المصرية لعلم الحيوان رئيسها, والجمعية المصرية لتعريب العلوم منشئها ورائدها وقدوتها. وفقدت الحياة العلمية المصرية رائد علم الطفيليات في الجامعات المصرية والعربية والعميد الأسبق لكلية العلوم في جامعة عين شمس, ونائب رئيس مركز الأبحاث للتاريخ والفنون والثقافة الإسلامية في تركيا. ولقد أتيحت لي معرفة الفقيد الكبير عن كثب منذ أكثر من خمسة وعشرين عاما, عندما لفتني بشخصيته العلمية الآسرة, ولغته العربية الفصيحة, وتمثله الفريد لثقافة علمية شديدة العمق والأصالة وثقافة إسلامية عصرية, بالغة النفاذ والشفافية, في عدد من برامج الإذاعة والتليفزيون. وحين شرفت باستضافته عدة مرات في البرنامج التليفزيوني الأمسية الثقافية الذي كنت أعده وأقدمه أسبوعيا- علي مدار ثلاثين عاما- أدركت عمق حاجتنا- في مصر وفي العالم العربي والإسلامي- إلي مثل هذا العالم, في أفقه الفكري الواسع المستنير, وفضائه الثقافي الذي يتنقل بين جزئياته في سهولة بالغة, رابطا بينها في نظام معرفي شامل, وحجج صحيحة المنطق شديدة الإقناع, ولغة لانت له وسلست, فأصبحت حاملة خطابه العلمي والفكري إلي الناس في غير مشقة أو إعنات. وحين شرفت بزمالته في مجمع اللغة العربية, أكرمني بدعوته لأكون العضو اللغوي في لجنة علوم الأحياء والزراعة, التي كان مقررها الأستاذ الدكتور محمود حافظ رئيس المجمع- رحمه الله- والذي أصر علي أن يكون الدكتور عبد الحافظ مقررها في حياته, منذ عدة سنوات, وأن يكون- وهو رئيس المجمع- عضوا فيها. وكسبت من سنوات العمر ثلاثة عشر عاما قضيتها إلي جواره في هذه اللجنة العلمية, أنهل من فيض علمه ومعرفته الواسعة بشتي العلوم, وأقترب أكثر وأكثر من وجدانه الإنساني الرحب, وصداقته العقلية والفكرية الثرية, وشخصيته الإنسانية السمحة. بالإضافة إلي السنوات الثلاث الأخيرة التي جمعتنا فيها لجنة تحديث المعجم الوسيط, نلتقي أسبوعيا ونتحلق من حوله, وهو واسطة العقد, يفيض علينا من علمه, ويستوقفنا كثيرا في استدراكاته اللغوية وخطراته النافذة, ونتعلم ونغتني في كل أسبوع بمزيد من عطائه الذي لا يتوقف. وحين أقعده المرض عن الحضور إلي المجمع والمشاركة في لجانه ومجلسه في الأسابيع الأخيرة, آثر- شأنه شأن طالب العلم وباحثه ومثله الأعلي- أن يبعث إلينا في موعد كل لجنة بما أنجزه من أعمالها في بيته, حتي لا ينقطع مدده أو تتوقف مشاركته, وهو يدرك مدي احتياجنا إليها وإليه كلما التقينا وهو غائب عنا. لم أره يسعي مرة واحدة إلي أن يكون له في مجمع اللغة العربية وضع غير وضع العضوية, ولم ينشغل قط بأن يكون له وضعه المختلف, ولو شاء لاختاره الجميع وقدموه رئيسا أو نائبا أو أمينا عاما, لكنه كان يصنف وجوده المجمعي بأنه الحرص علي العضوية الجادة العاملة في خدمة العلم, لا أكثر ولا أقل. في الكتاب التذكاري الذي أنجزته عنه جمعية علم الحيوان, في يوم الوفاء له بمناسبة بلوغه الخامسة والسبعين- وكان صدوره في مارس/ أبريل عام2002- وأشرف علي جمع مادته وتحريرها الدكتور/ منير الجنزوري وراجعه الدكتور حافظ شمس الدين- الخبيران المجمعيان الآن- وكان لي شرف الإسهام فيه, قلت عنه: لا أظن أنني عرفت- من بين علمائنا المصريين- عالما يذكرنا بالسلف الصالح في كل شيء كالعالم الجليل الدكتور عبد الحافظ حلمي. حين شرفت بمعرفته أدركت حجم ما يمثله من فضائل علي المستويين الإنساني والعلمي, ورأيت في خلقه السمح الرضي, وتواضعه الجم, وعلمه الموسوعي وتعمقه النادر في تخصصه, واتساع آفاقه المعرفية لقضايا التعريب واللغة والعقيدة والإيمان, صورة لذلك السلف الصالح, الذي قرأنا عنه كثيرا ولم يتح لنا أن نراه, فجاء الدكتور عبد الحافظ حلمي, لنري فيه أمة وحده, وعالما جليلا صاحب رسالة ودور وموقف, وأفقا رحبا من آفاق الاستنارة والعقلانية, وحربا علي التخلف والجمود والانغلاق. وهو في علمه حيث ينبغي للعالم الحقيقي أن يكون: متابعة وانفتاحا واستزادة, لا يحده سقف, ولا تحول بينه وبين غاياته البعيدة عقبة أو خشية من جهد. حماس الشباب يملؤه, وعزيمة طالب العلم تدفعه, وإيمانه بالدور والرسالة يجعل ليله موصولا بنهاره, من أجل ما يراه فرضا وفريضة. وهو في مجمع اللغة العربية ضميره اليقظ, وعقله الواعي والمتابع, وحجته الساطعة الواثقة, أحرص ما يكون علي أدب الحوار الرفيع, وسمت العالم الذي لا يدل بعلمه, وإنما يبذله- عن طواعية ورضا- للآخرين, آملا أن ينتفعوا به ولا يضيعوه. وهو العالم الذي يأخذ للأمر كامل عدته, ويتكلم- حين يتكلم- عن بينة وبصيرة, ويضرب المثل بعد المثل, علي الجهد الذي يجب بذله من أجل المعرفة, ونشدان الحقيقة, واكتمال النظر إلي الموضوع الواحد من زواياه المتعددة. وهأنذا- بعد رحيله منذ أيام قليلة- أبكيه وأفتقد فيه صحبة رفيعة دامت حتي بلوغه السادسة والثمانين, وهو يفيض علينا من علمه وإنسانيته, رمزا مضيئا باقيا, ووجها أصيلا مشرقا, للعالم الذي ينتفع به الناس وتزدهر به الحياة. يرحمه الله. المزيد من مقالات فاروق شوشة