الهجرة ذلك الحدث الأكبر في مسيرة التاريخ الإسلامي كانت خير دليل على تحمل الرعيل الأول المسئولية، تلك المسئولية التي لا يصلح لحملها إلا الرجال الأشداء، الذين تركوا لأجلها الوطن وبذلوا الغالي والنفيس لأجل هذا الدين وهذه الدعوة المباركة، لينعموا بالفتح والسعة التي وعدهم ربهم إياها: «وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً»، وأصبح للمسلمين دولة في المدينة بعد أن سامتهم قريش صنوف العذاب، فكانت الهجرة بداية لمرحلة جديدة في عمر الدعوة الإسلامية. والهجرة هي سبيل الأنبياء وسنتهم من قبل نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فهذا أبو الأنبياء سيدنا إبراهيم عليه السلام يدعو قومه إلى التوحيد الخالص والعقيدة الصحيحة فيتآمرون عليه، فيترك بلده الذي ضاق به، ويودع أهله الذين تآمروا عليه، ويفر من كوثى في سواد الكوفة إلى حران ثم إلى الشام، والقرآن الكريم يقص علينا ذلك فيقول: (فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الأَسْفَلِينَ وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي)، وخرج سيدنا لوط مهاجرًا مع عمه إبراهيم عليهما السلام لما آمن بدعوته وأيقن هلاك قومه: (فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)، وموسى عليه السلام تآمر عليه فرعون، وضيَّق عليه في دينه، فيأتيه الأمر من الله بترك هذا البلد التي لم يستطع تبليغ الدعوة فيها ويهاجر بقومه إلى حيث يستطيع عبادة الله وأداء رسالته فقال تعالى: (فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلاً إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً إِنَّهُمْ جُنْدٌ). ولقد عاش رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكة؛ ذلك البلد الأمين، وقضى فيها طفولته وشبابه وقدرًا من شيخوخته، وكانت شاهدة على ذكرياته المليئة بمآثر عظيمة، منها حرب الفجار التي وقف فيها ضد الظلم، وحلف الفضول وما به من شيم وفضائل، حتى إنه قال عنه صلى الله عليه وسلم: «ولو دعيت به في الإسلام لأجبت»، ومنها المروج التي كان يرعى فيها أغنامه، وزواجه بأحب الناس إلى قلبه السيدة خديجة رضي الله عنها، ويوم اشتراكه في بناء الكعبة المشرفة وإنهائه النزاع بين المتخاصمين، حتى ذلك الاسم الذي أطلقه عليه أهل مكة الصادق الأمين، كل هذه الذكريات خلقت رابطًا قويًّا بينه وبين وطنه، إلى أن تآمر عليه قومه وحاولوا قتله وتربصوا به الدوائر لإثنائه عن دعوته، لكنه جاهدهم وتذكر كلمة ورقة بن نوفل:«ليتني أكون حيًّا إذ يخرجك قومك»، ويتذكر سؤاله له مستنكرًا: زأو مخرجي هم؟» فيجيب ورقة إجابة الواثق المتأكد: «نعم، لم يأتِ رجل قط بمثل ما جئت به إلا عُودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصرًا مؤزرًا». وهاجر النبي صلى الله عليه وسلم رغم حبه لمكة وتعلقه بها في رحلة كانت فرقانًا بين الحق والباطل مخلفًا وراءه مالاً وجاهًا وملكًا وعدته إياه قريش لتثنيه عن دعوته لكنه أبى، وخرج بعدما أخبره الله تعالى بمكر قريش به، وتبييتهم النية لقتله، واختيارهم من كل قبيلة شابًّا جلدًا لقتل النبي صلى الله عليه وسلم، وخرج النبي من بيته وقريش مجتمعين على باب داره ليقتلوه وهو يتلو: (وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ)، بعد أن ترك التراب فوق رءوسهم، واصطحب رفيقه إلى الغار أبا بكر الصديق رضي الله عنه ليعطينا درسًا آخر في الثقة بوعد الله ونصرته حينما أخبره أبو بكر: «والله يا رسول الله، لو أنَّ أحدهم نظر إلى موقع قدمه لأبصرنا»، فأجابه النبي صلى الله عليه وسلم مطمئنًا له: «ما ظنُّك باثنين الله ثالثهما»، فهذا مثال للصدق والثبات والثقة بالله تعالى، ويقين بأن الله تعالى لن يتخلى عن عباده المخلصين لدينه وقت الشدائد، وهذا هو حال أهل الإيمان. وترك النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه مكة، تلك البقعة الصغيرة، نصرة لدين الله، فأبدلهم الله ملك الدنيا عوضًا عن هذا الترك، لأن من ترك شيئًا لله أبدله الله خيرًا منه، فأسسوا دولة في المدينة التي نصرت الدعوة، والتي لم تكن تُعرف بشيء من الفضل عن غيرها من البلدان قبل أن تشرف بهجرة النبي صلى الله إليها وهجرة الوحي إلى ربوعها. وأصبح للمسلمين دولة بعد المرحلة المكية، ووضع النبي صلى الله عليه وسلم فيها أركان الدولة العظيمة، التي كانت تحتضن المسلمين والمسيحيين واليهود، فأسس المسجد الذي يُعدُّ مكانًا للعبادة يقيمون فيه شعائرهم التي حرمتهم إياها صناديد قريش، ومقرًّا للحكم تتخذ فيه القرارات، ومدرسةً يتعلمون فيها أمور دينهم، وآخى بين المهاجرين والأنصار، لتزيح عن نفوسهم العصبية والقبلية (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ). كما قَبِل النبي صلى الله عليه وسلم بوجود من لا يَدين بالإسلام في المدينة، بل عقد معهم المعاهدات، منها أنه أقر اليهود فيها على دينهم وأموالهم وشرط لهم واشترط عليهم, عاهدهم على السلم والدفاع عن المدينة وقت الحرب والتعاون التام فيما بينهم، ليعطي درسًا في الوحدة الوطنية غاية في الرقي ظل ولا يزال إلى يوم القيامة. لم تكن رحلة الهجرة من مكة إلى المدينة تركًا للوطن وتضييعًا له، إنما كانت في واقع الأمر حفاظًا عليه، وضمانًا له، حتى وإن بدا الأمر في صورة الترك والإعراض، لأنه صلى الله عليه وسلم عاد إليها بعد بضع سنين عزيزًا منيع القوة دون أن يستطيع أحد ممن تربص به ولاحقه أن يدنو إليه بسوء، بل إنها كانت ميلادًا لدولة الإسلام ونصرًا لدعوة النبي صلى الله عليه وسلم. لمزيد من مقالات د شوقى علام