نسيت الأحباب .. نسيت الأصدقاء .. نسيت وجه أبي ودموع أمي .. اختفت كل التفاصيل أمام عيني .. ونسيت كل الحكايا ... لكنه يتذكر الآن وبعد مرور41 عاما علي هذه الحرب التي غيرت وجه التاريخ ان حرب اكتوبر 73 هي مصر الحقيقية جيشا وشعبا وخلقا ويقول.. كنا خمسة ضباط على مستوى القوات المسلحة المصرية تم تكليفنا بالقيام بأعمال التجسس العسكري واشتركت في مأموريتين للعمل خلف خطوط العدو أثناء حرب الاستنزاف وقبل عمليات أكتوبر .. كنت أرتدي جلباباً بدوياً وأطلقت لحيتي ودرست كل عادات وتقاليد البدو، وصرت كأنني واحد منهم ..كنت أشعر عندما عدت بعد انتصار أكتوبر بفرحة العائد من النار ! يقول اللواء أركان حرب مراد يوسف كنت وقتها برتبة ملازم وتم توزيعي فور التخرج للعمل كعنصر بسلاح الاستطلاع بهدف الحصول على معلومات عن الجانب الآخر في العمق وكانت مجموعة العمل تتلقى تدريبات خاصة لرفع كفاءات معينة لدينا لخدمة المهمة التي نقوم بتنفيذها، يأتي علي قائمتها أسلوب المعايشة والتعايش في منطقة تنفيذ المهمة مثل العادات والتقاليد واللغة واللهجات الخاصة بالسكان المحليين وكذلك دراسة كل ما يتعلق بالملابس والسلوك .. إلي جانب التدريب على قيادة الدبابة وقيادة الطائرة والتصرف في أي موقف قد يتم التعرض له . وفي عام 1969 تم تكليفي بالمهمة الأولى للعمل في عمق قوات العدو وتم تنفيذها خلال الفترة من نوفمبر1969 وحتى مايو 1970 نحو حوالي 6 شهور ونصف أثناء حرب الاستنزاف وكانت المهمة تتمثل في مراقبة مطارات العدو وتدريباته الجوية في العمق و التحركات على المحاور الرئيسية ورصدالمعسكرات المدرعة للعدو وتدريباتها في العمق . وكيف كنت تعيش داخل معسكرات العدو للحصول على معلومات دون أن يشعر بك أحد ؟ كنت وزميلي نتسلل داخل المعسكر لمدة يومين أوثلاثة أيام و كان الاختباء يتم صباحاً ..علي ان يتم تنفيذ المهمة ليلاً سواء جمع خرائط أو تصوير أماكن وكنا نعيش ونختبئ في سيارة تم تدميرها ،أما أسلوب الاختباء فكان يتم باستخدام (الشوال) وخاصة في المواقع الموجودة في بطن الجبل .. كنا نقلب الشوال على ظهره ونرتديه ونختبئ في أقرب مكان .. فكنت أرى امامي كل شيء واضحاً من خلال ثقوب (الشوال) بينما الجانب الآخر لا يراني وكأن هناك كتلة من (الحجر ) في وسط الجبل. ما هي الصعوبات التي واجهتها أثناء تنفيذ هذه المهمة؟ الحرص الشديد للجانب الإسرائيلي في تأمين مواقعه خاصة المواقع المحتلة، ومناطق التدريب حيث كان يستخدم أحدث وسائل التأمين بكل دقة ،وكذلك أيضاً مقاومة الطبيعة واختلاف الفصول الجوية ومهاجمة الحيوانات والحشرات القاتلة مثل ( الطريشة ، والثعبان والعقرب، الضبع والذئب وغيره ) . وكيف كنت تحمي نفسك من مخاطر الطبيعة .. ؟ بالنسبة للعقارب كانت الوقاية تتم من خلال عمل دائرة على محيط المكان الذي نتواجد به من خلال رماد النار ومعروف ان العقرب لا يقترب من الرماد .. أذكر موقفاً لا أنساه عند تنفيذ مهمة على أحد مطارات العدو الحربية..حيث لم يكن معنا طعام إلا خبز جاف ومياه فقط وعشنا على الخبز لمدة ثلاثة أيام والمعروف أن المواقع العسكرية تكون في الصحراء والجبال ولذلك قررنا ان نأخذ قسطا من الراحة قليلاً .. كنت أرتدي الجلباب البدوي وخلعت الحذاء الخاص بي ووضعته تحت رأسي واستندت إلى حجر حتى ينتهي زميلي من إعداد الشاي لنا .. نظرت نحو السماء وشعرت وكأن السماء تهتز أمام عيني .. فأخبرت زميلي بما أرى.. فقال لي إن الإرهاق هو السبب..وفجأة طلب مني زميلي أن أترك حذائي الذي أستند برأسي عليه وأن أجري بسرعة شديدة أحسست وقتها بالخطر ولكني لم أكن أعرف مصدره .. جريت بسرعة واكتشفت أن الذي كنت أستند برأسي عليه ونتيجة للظلام لم يكن الا ثعبان الطريشة القاتل..و بالتالي لم تكن السماء تهتز بل كانت « الطريشة « هي التي تتحرك .. تحت رأسي .. والحمد لله لم يصيبني سوء . ما هي المعلومات التي استطعت الحصول عليها .. ؟ تم تحديد القوة الفعلية لمطارات العدو في العمق وأسلوب استخدامها بالإضافة إلي أسلوب تدريب قوات العدو الجوية على الأهداف في سيناء والمشابهة للأهداف الموجودة في عمق جمهورية مصر العربية وكذلك رصد المطارات الفعلية المستخدمة والمطارات الهيكلية وتحديد أسلوب العمل والتدريب بمعسكرات الدبابات وطريقة تنفيذ الرماية العملية ، أيضاً أعطيت إنذاراً مبكراً عن الضربة الجوية في بحر البقر . استطلاع ما قبل الحرب .. ! مع بداية التخطيط الفعلي لتنفيذ حرب أكتوبر 73 كان لابد من الحصول على معلومات في العمق المعادي بحيث تتمكن القيادات من وضع التخطيط السليم لتنفيذ حرب أكتوبر ولذلك كان لابد من معاودة نشاط عناصر الاستطلاع خلف خطوط العدو .. ما هي تفاصيل المهمة الثانية الخاصة بحرب أكتوبر .. ؟ يضيف البطل ..أثناء إدارة الحرب كانت المعلومات التي نرسلها ذات تأثير و أهمية مثل تحديد أماكن الدبابات وقد قامت الطائرات المصرية في الضربة الجوية الأولى بضربها بالصواريخ وخاصة أماكن المعسكرات المدرعة بمنطقتي المليز وتمادا في عمق سيناء كذلك تحديد أعداد الطائرات وأنواعها بالإضافة إلى رصد تحركات القوات في العمق إلى الجبهة الأمامية وأماكن تمركز القوات المتحركة من عمق إسرائيل إلى الجبهة أثناء تمركزها للراحة وإعادة ملىء الوقود وقد قامت القوات المصرية بضربها . وهل استمرالعمل خلف خطوط العدو بعد نصر أكتوبر73 .. ؟ نعم وكان دورنا يتمثل في توفير معلومات عن الخسائر الفعلية للجانب الإسرائيلي وأسلوبه في معالجة واستكمال قواته ورفع كفاءتها ؟ وأسلوب المعالجة النفسية للقوات والشعب الإسرائيلي على هذه الهزيمة . هل تسلل إليك إحساس بالقلق أو الخوف من اكتشاف شخصيتك خلف خطوط العدو ؟ يقول اللواء أركان حرب مراد يوسف .. أحمد الله الذي أنزل السكينة في قلبي وكنت أتعامل ببسالة في المأموريتين .. وكنت متفقاً مع زميلي على مبدأ لا نحيد عنه إذا تعرضنا لموقف خطر أو اشتباك مع العدو في حالة انكشاف أمرنا .. كان كل منا يحمل سلاحاً به عدد من الطلقات وفي حالة الاشتباك مع العدو ونحن على قيد الحياة لن نستسلم لهم .. ونبقي على رصاصة أخيرة في سلاح كل منا .. هو يقتلني بآخر طلقة من سلاحه ، وأنا أقتله بآخر طلقة من مسدسي الشخصي .. ! فوجئت بزميلي يقول لي .. اضربني أنت الأول .. أنا ما اقدرش أقتلك .. أنت قائدي .. والحمد لله تمت المأمورية بنجاح . دعني أسألك ألم يتسلل الخوف الي قلبك ..كيف ذهبت إلى عمق قوات العدو وكيف عدت.. ؟ كانت أخطر مرحلة في تنفيذ المهمة هي مرحلة عبور قناة السويس ..سابحاً ، وذهبت إلى إسرائيل سيراً على الأقدام ، وكذلك عدت سيراً على الأقدام أيضاً حتى وصلت إلى قواتنا الموجودة في السويس .. انتابني الإحساس بالخوف مرة واحدة .. خاصة أثناء العودة بعد الحرب لتغيير أوضاع قواتنا وعبورها قناة السويس واحتلالها لمواقع في سيناء . كنت أخشى الوقوع في حقل ألغام قواتنا أو قيام قواتنا بفتح النيران علينا أنا وزميلي اعتقاداً منهم بأنني أحد العناصر المعادية . وكيف عدت .. ؟ كنت أرتدي الجلباب والملابس البدوية الخاصة بمنطقة مهمة العمل وتم الانضمام للكتيبة السادسة مشاة – الفرقة 19 ميكانيكي الموجودة بسيناء أمام مدينة السويس واستقبلني قائد الفرقة اللواء أركان حرب يوسف عفيفي وأفراد الفرقة بفرحة غامرة ... لا أنساها حتى اليوم .. وكيف احتفظت بسرية المهمة حتي عن اسرتك؟ اخبرت والدي بانني مسافر الي روسيا في بعثة دراسية لمدة شهرين وعندما امتد غيابي الي سته اشهر استبد به القلق واصيب بذبحة صدرية ولم يفارق الفراش لمدة 8 سنوات حتي وفاته . البطل في سطور لواء أركان حرب مراد يوسف حلمي مراد خريج الكلية الحربية عام 1968 . سلاح مخابرات حربية واستطلاع ، وحاصل على المرتبة الأولى في جميع الفرق التعليمية من رتبة الملازم حتى رتبة العميد تدرج في وظائف القوات المسلحة اعتباراً من قائد مجموعة استطلاع خلف خطوط العدو حتى قائد المنطقة الحدودية مع إسرائيل. حاصل على نوط الشجاعة العسكرية من الطبقة الأولى، ووسام النجمة العسكرية.