ملامح التعديل الوزاري المرتقب .. آمال وتحديات    الحق اشتري.. انخفاض 110 ألف جنيه في سعر سيارة شهيرة    رئيس الإكوادور يعلن حالة الطوارئ بسبب أزمة انقطاع الكهرباء ويتخذ قرارا عاجلا    ترتيب هدافي الدوري الإيطالي قبل مباريات اليوم السبت 20- 4- 2024    ترتيب الدوري الإسباني قبل مباريات اليوم السبت 20- 4- 2024    عقوبة صارمة.. احذر التلاعب فى لوحات سيارتك    حبس المتهم بقتل سيدة لسرقتها بالبساتين    مشتت وفاصل ..نصائح لتحسين التركيز والانتباه في العمل    تشكيل تشيلسي المتوقع أمام مانشستر سيتي بكأس الاتحاد    بايدن: إنتاج أول 90 كجم من اليورانيوم المخصب في الولايات المتحدة    عيار 21 يسجل الآن رقمًا جديدًا.. أسعار الذهب والسبائك اليوم السبت بعد الارتفاع بالصاغة    7 أيام في مايو مدفوعة الأجر.. هل عيد القيامة المجيد 2024 إجازة رسمية للموظفين في مصر؟    فودة وجمعة يهنئان أسقف جنوب سيناء بسلامة الوصول بعد رحلة علاج بالخارج    الإفتاء: التجار الذين يحتكرون السلع و يبيعونها بأكثر من سعرها آثمون شرعًا    شعبة المخابز: مقترح بيع الخبز بالكيلو يحل أزمة نقص الوزن    بيان عاجل من الجيش الأمريكي بشأن قصف قاعدة عسكرية في العراق    تراجع سعر الفراخ البيضاء واستقرار البيض بالأسواق اليوم السبت 20 أبريل 2024    اندلاع مواجهات عنيفة مع قوات الاحتلال في بلدة بيت فوريك شرق نابلس    ابسط يا عم هتاكل فسيخ ورنجة براحتك.. موعد شم النسيم لعام 2024    الوزيرة فايزة أبوالنجا    سفيرة البحرين بالقاهرة: زيارة الملك حمد لمصر تأكيد على التكامل الإستراتيجي ووحدة الصف بين البلدين    داعية إسلامي: خدمة الزوج والأولاد ليست واجبة على الزوجة    ميدو يكشف احتياجات الزمالك في الميركاتو الصيفي    كوريا الشمالية تختبر صاروخا جديدا للدفاع الجوي    هل يتم استثناء العاصمة الإدارية من تخفيف الأحمال.. الحكومة توضح    GranCabrio Spyder| سيارة رياضية فاخرة من Maserati    رسميا.. سعر الدولار مقابل الجنيه المصري اليوم السبت 20 إبريل 2024 بعد الانخفاض الأخير    نشرة منتصف الليل| الأرصاد تكشف موعد الموجة الحارة.. وهذه ملامح حركة المحافظين المرتقبة    بركات: مازيمبي لديه ثقة مبالغ فيها قبل مواجهة الأهلي وعلى لاعبي الأحمر القيام بهذه الخطوة    ملف رياضة مصراوي.. إغماء لاعب المقاولون.. رسالة شوبير.. وتشكيل الأهلي المتوقع    سيف الدين الجزيري: مباراة دريمز الغاني المقبلة صعبة    كرة يد.. تعليمات فنية مطولة للاعبي الزمالك قبل مواجهه الترجي التونسي    بصور قديمة.. شيريهان تنعي الفنان الراحل صلاح السعدني    خالد منتصر: ولادة التيار الإسلامي لحظة مؤلمة كلفت البلاد الكثير    "شقهُ نصُين".. تشييع جثة طفل لقي مصرعه على يد جاره بشبرا الخيمة (صور)    أهالى شبرا الخيمة يشيعون جثمان الطفل المعثور على جثته بشقة ..صور    ضبط نصف طن لحوم فاسدة قبل استعمالها بأحد المطاعم فى دمياط    9 مصابين في انقلاب سيارة ربع نقل في بني سويف    "محكمة ميتا" تنظر في قضيتين بشأن صور إباحية مزيفة لنساء مشهورات    تجليس نيافة الأنبا توماس على دير "العذراء" بالبهنسا.. صور    بجوائز 2 مليون جنيه.. إطلاق مسابقة " الخطيب المفوه " للشباب والنشء    حدث بالفن| وفاة صلاح السعدني وبكاء غادة عبد الرازق وعمرو دياب يشعل زفاف نجل فؤاد    إياد نصار: لا أحب مسلسلات «البان آراب».. وسعيد بنجاح "صلة رحم"    نسرين أسامة أنور عكاشة: كان هناك توافق بين والدى والراحل صلاح السعدني    يسرا: فرحانة إني عملت «شقو».. ودوري مليان شر| فيديو    انطلاق حفل الفرقة الألمانية keinemusik بأهرامات الجيزة    بعد اتهامه بالكفر.. خالد منتصر يكشف حقيقة تصريحاته حول منع شرب ماء زمزم    3 إعفاءات للأشخاص ذوي الإعاقة في القانون، تعرف عليها    انفجار في قاعدة كالسوم في بابل العراقية تسبب في قتل شخص وإصابة آخرين    أعظم الذكر أجرًا.. احرص عليه في هذه الأوقات المحددة    أدعية الرزق: أهميتها وفوائدها وكيفية استخدامها في الحياة اليومية    العميد سمير راغب: اقتحام إسرائيل لرفح أصبح حتميًا    آلام العظام: أسبابها وكيفية الوقاية منها    باحث عن اعترافات متحدث الإخوان باستخدام العنف: «ليست جديدة»    مرض القدم السكري: الأعراض والعلاج والوقاية    متلازمة القولون العصبي: الأسباب والوقاية منه    «هترجع زي الأول».. حسام موافي يكشف عن حل سحري للتخلص من البطن السفلية    نصبت الموازين ونشرت الدواوين.. خطيب المسجد الحرام: عبادة الله حق واجب    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



«مبارك» فى مذكراته: تفاصيل «الصدام الرهيب» مع طيران العدو فى حرب أكتوبر
انفراد «الوطن» تواصل الانفراد بنشر «كلمة السر»: مواجهات فى الجو.. لم تعرف المستحيل
نشر في الوطن يوم 06 - 10 - 2013

لماذا تنشر «الوطن» مذكرات محمد حسنى مبارك فى حرب أكتوبر؟!.. سؤال لابد أن يتبادر إلى الذهن فى ظل الأوضاع السياسية المتوترة منذ ثورة 25 يناير حتى اليوم.. قد يبدو الأمر للبعض محاولة لإعادة تجميل الرجل القابع فى إقامته الجبرية بمستشفى «المعادى العسكرى».. غير أن الصحافة تجيب عن هذا السؤال دائماً من مساحة مسئوليتها أمام قرائها: إنها الحقيقة التى ينبغى أن يعرفها الجميع.. الحقيقة من وجهة نظر كاتبها.. ولكل شخص منا الحق فى اتخاذ وجهة النظر التى يؤمن بها..! خاضت «الوطن» منافسة حقيقية وحامية مع صحف عديدة من مصر على هذه «المذكرات».. ولأنها اعتادت الانفراد لقارئها المحترم بالمضمون الحصرى.. فازت بها وبمقدمة مبارك بخط يده.. ونحن إذ ننشرها إنما نقدمها للقارئ بمناسبة مرور 40 عاماً على نصر أكتوبر المجيد، الذى كان مبارك أحد رموزه.. أياً كان خلافنا أو اتفاقنا معه أو عليه.. ليس هذا فقط.. وإنما مع انفرادين آخرين يمثلان إضافة جديدة لذاكرة التوثيق لهذا الحدث العظيم. الأول هو مذكرات أحمد أبوالغيط وزير الخارجية الأسبق بعنوان «شاهد على الحرب والسلام» التى سبق ونشرتها «الوطن».. والثانى المذكرات الشخصية للمشير أحمد إسماعيل وزير الحربية فى حرب أكتوبر التى دوّنها بخط يده، ولم تُنشر من قبل، وتواصل «الوطن» غداً نشر حلقاتها. إنها حرب أكتوبر وقصة البطولات المصرية التى نوثقها للأجيال الحالية والقادمة.. وإذا كان الكثيرون -ونحن منهم- يختلفون مع فترة حكم مبارك، فإن هذا لا يعنى طمس تاريخ هذه الحرب المجيدة التى خاضها الجيش المصرى العظيم، وكان «مبارك» خلالها قائداً للقوات الجوية التى صنعت أعظم بطولات هذه الحرب. و«الوطن» تواصل الانفراد بنشر هذه المذكرات.
يصل بك «مبارك» لنهاية ما كتب فى كتابه «كلمة السر» الصادر عن «نهضة مصر»، الذى يحكى فيه كيفية إعادة بناء القوات الجوية بعد نكسة يونيو 67، مؤكداً أنه تعمد ألا يصف ما قامت به القوات الجوية فى حرب أكتوبر بأنه معجزة عسكرية يستحيل تكرارها، أو أنها كانت عبقرية نادرة الحدوث فى مجال الحرب الجوية.
لأن عصر المعجزات انتهى، ولأن الطريق الوحيد لتحقيق النجاح والأهداف المخطط لها فى أى مجال هو الإيمان بالعلم واستيعاب تكنولوجيا العصر وإتقان العمل الجاد. وهو ما يوضحه بالقول: «إذا كان عدونا الجوى قد وقع فى خطيئة الوهم بأن عملية (طوق الحمامة) -التى نفذها ضدنا صباح 5 يونيو 1967- كانت معجزة عبقرية نادرة التكرار.. فإننا -نحن الطيارين المقاتلين المصريين- قد رفضنا ذلك الزعم المغرور حين صدره العدو للعالم عقب معارك 1967، ورفضنا الاستسلام لدواعى اليأس الذى كنا معرضين له -لو أننا سلمنا بأن ما فعله العدو يومها معجزة- وانطلاقا من هذا الرفض، وإيمانا منا بأن باب العلم مفتوح للجميع، سرنا على الدرب الموصل للهدف، بعد أن وضعنا أقدامنا على الطريق الصحيح الذى انتهى بنا إلى تحقيق الضربة (صدام)».
ويستشهد «مبارك» بما دار فى ندوة عقدتها أكاديمية ناصر العسكرية العليا لدراسة حرب أكتوبر، وتحدث فيها الجنرال «أندريه بوفر»، خبير الاستراتيجية القتالية، عن رأيه العلمى فى قواتنا الجوية فى هذه الحرب بقوله: «لقد كان الدرس المهم فى حرب رمضان هو أن القوات الجوية المصرية أحسنت انتشارها وحمايتها، فتمكنت من الاستمرار فى العمليات وحرمت الخصم بذلك من التمتع بميزة كبرى هى التفوق الجوى، أو السيطرة الجوية».
ثم ينتقل مبارك للحديث عن رجال القوات الجوية الذين أفرد لهم فصلا كاملا فى كتابه شارحا ما قاموا به وكيف أنهم أصحاب الفضل فى ذلك النصر الجوى، فيقول: «عندما نتحدث عن دور التشكيلات الجوية فى حرب أكتوبر، فإننا نعنى أسلحة الطيران بأنواعها المختلفة. ونتحدث عن البطولة والإقدام والتضحية والفداء.. نتحدث عن الرجال الذين صنعوا التاريخ بجسارتهم وأرواحهم.. عن الطيارين والفنيين وأطقم وأفراد التشكيلات الجوية الذين ضحوا بأرواحهم لنصرة الوطن، ولرفعة شأن قواتهم الجوية. إنهم المنفذون لأعمال القتال والبطولة.. العاملون فى صمت.. المنفذون لما أمرتهم به قيادتهم.. الواثقون من أن قيادتهم تعمل وتخطط وتقودهم للنصر.. للعزة.. للكرامة. إنهم المنتظرون لساعة الصفر بشوق زائد، وعلى أحر من الجمر.. ليثأروا وليثبتوا المعدن الأصيل للطيار المصرى. أعنى هنا تشكيلات القوات الجوية بأنواعها، وحدات المقاتلات، وحدات المقاتلات القاذفة، وحدات القاذفات، وحدات الاستطلاع، وحدات النقل والهليكوبتر. من شاهد ما فعله هؤلاء الأبطال، خلال جميع المراحل التى سبقت استعدادهم للحرب، يفخر بأبناء مصر، الذين عملوا بتفانٍ وإتقان فى نظام دقيق وتعاون وثيق.. لقد كان لهم هدف واحد، محدد وواضح.. هو النصر».
كان على القوات الجوية فى حرب أكتوبر العمل على تحقيق عدة أهداف، أهمها:
1- توفير الحماية الجوية للقوات البرية والأهداف الحيوية بالدولة، ضد ضربات العدو الجوى وطائرات استطلاعه، بالتعاون مع قوات الدفاع الجوى المصرى.
2- القتال من أجل الحصول على التفوق الجوى المحلى.
3- تأمين أعمال قتال الأنواع الأخرى من طائراتنا ضد تدخل مقاتلات العدو طوال فترة العمليات.
4- تدمير قوات العدو المنقولة جوا.
ولذا ومع فجر يوم الأحد 7 أكتوبر، كانت قواتنا الجوية على يقين من أن العدو سيوجه هجماته الجوية ضد قواعدنا الجوية، وكانت مقاتلاتنا جاهزة ومستعدة تماما، بالتعاون مع وسائل الدفاع الجوى. وهو ما يحكى عنه «مبارك» قائلاً: «بالفعل حدثت الهجمة الجوية المعادية الأولى فى الساعة السابعة صباح يوم 7 أكتوبر، بقوة تزيد على ثمانين طائرة، جاءت على ارتفاعات منخفضة جدا؛ إذ كان العدو يظن أنه قادر فى عام 1973 على تحقيق النجاح الذى حققه عام 1967.. لكنه فوجئ بأعداد ضخمة من مقاتلاتنا يقودها الطيارون المصريون الأبطال، تهاجمه بعنف من كل اتجاه، وتمكنت مقاتلاتنا بالتعاون الرائع مع وسائل دفاعنا الجوى من شل العدو ومنعه من تحقيق أى هدف من أهدافه، وأجبرته على التخلص من قنابله وصواريخه مع ذرى الريح فى الحقول والصحارى، وعاد الجزء الذى نجا من طائرات العدو بالخيبة، مكتفيا بالفرار ذعرا. فى هذه الضربة الانتقامية، كان العدو يوجه هجومه ضد سبعة مطارات وضد وسائل دفاعنا الجوى فى العمق، لكنه فشل فى الوصول إلى أهدافه.. عدا عدد محدود من طائراته، أمكنها الوصول إلى مطارين فقط من مطاراتنا وتلقفتها وسائل دفاعنا الجوى، من صواريخ ومدفعية مضادة للطائرات، ولقنتها درسا قاسيا، لاذت على أثره الطائرات المعادية بالفرار. ثم نفذ العدو هجمة جوية أخرى فى الواحدة والنصف من اليوم نفسه، ولقنته مقاتلاتنا درسا آخر، فلم تصل هذه المرة طائرة واحدة معادية إلى هدفها، وعادت كالقطيع المذعور دون تنظيم، مخلفة وراءها خسائرها الكبيرة من طائرات الفانتوم».
ومر يوم 8 أكتوبر دون أن يجرؤ العدو الإسرائيلى على تكرار الهجوم الجوى على مطاراتنا، لكنه عاد لضربها يوم الثلاثاء 9 أكتوبر، غير أنه لم يقوَ إلا على ضرب مطارين فقط. بعدئذ تركز مجهود مقاتلاتنا المصرية فى صد الهجمات الجوية المركزة للعدو. التى تكثفت من اتجاه الشمال والشمال الشرقى والجنوب الشرقى، التى كان العدو يحاول القيام بها بغرض شل قواعدنا الجوية ومطاراتنا، لإخراج قواتنا الجوية من المعركة، حتى يتسنى للعدو التعامل بحرية، باستخدام قواته الجوية ضد قواتنا البرية، وضد شبكة دفاعنا الجوى للقضاء عليها تدريجيا من الأجناب اتجاهى الشمال والجنوب. لكن لعبت المقاتلات أروع أدوارها فى سد الثغرات التى أحدثها العدو فى شبكة الدفاع الجوى، خصوصا فى قطاع بورسعيد، حتى استعادت كفاءتها القتالية، ثم فى منطقة الثغرة فى الدفرسوار وعلى الجانب الأيمن للجيش الثالث فى فترات محددة، كما نجحت مقاتلاتنا فى تنفيذ هذه المهمة بصورة منقطعة النظير، بفضل وسائل الإنذار المتوافرة، ولم تستطِع طائرات العدو إصابة طائرة واحدة من طائراتنا على الأرض، ولم يتعطل أى من مطاراتنا إلا لفترات محدودة للغاية على الرغم من سبع محاولات حاولها العدو حتى يوم الاثنين 15 أكتوبر لقصف مطاراتنا، لكنها فشلت جميعا.
يقول «مبارك» فى مذكراته الصادرة عن دار نهضة مصر «كلمة السر»: «لم تحدث إلا بعض الخسائر الطفيفة، حدثت فى ممرات قواعدنا الجوية، وسرعان ما حاصرها مهندسو المطارات وأفراد مجموعات إصلاح الممرات وإزالة القنابل، وأعادوا مطاراتنا لحالتها الطبيعية، وليس من المبالغة فى شىء إذا قلنا إن مطاراتنا جميعها، وبلا استثناء، ظلت صالحة للطيران طوال فترة العمليات. وخلال الفترة من 16 أكتوبر حتى 22 أكتوبر قام العدو الجوى بتنفيذ ثلاث محاولات فقط وضد مطار واحد فقط فى كل مرة. وكان من الواضح أن العدو قد أيقن وتأكد من فشله فى إخراج قواتنا الجوية من المعركة الكبرى كما حدث فى حرب 1967. واستمرت وحداتنا المقاتلة فى تنفيذ مهامها بكفاءة عالية وبجرأة تفوق الوصف، طوال 22 يوما فى قتال شرس. وبعد فشل العدو المتتالى، ومع تطور الجيب المعادى (الثغرة) فى الدفرسوار، وبعد أن تم للعدو استعواض خسائر طائراته من أمريكا، حاول الحصول على التفوق الجوى المحلى بالمنطقة، لمعاونة قواته بالجيب وحمايتها، وضرب قواتنا البرية. إلا أنه وجد فى مقاتلاتنا خصماً عنيداً منعه من تحقيق أهدافه، وقاتلته بإصرار وعزم، وكثرت فى تلك الفترة المعارك الجوية، وزادت وطأتها، حتى إن بعضها استمر لأزمنة قياسية».
حدث هذا رغم فارق القدرات فى الطائرات وعددها، لكن كان مقاتلونا يتعاملون بمبدأ الند بالند. على سبيل المثال رغم الفارق الكبير بين قدرات «الميراج» و«الميج 17» فإن الأخيرة تمكنت من إسقاط عدد من طائرات «الميراج»، ونشرت الصحف العالمية وقتها صور هذه الطائرات «الميراج» وهى تتهاوى مشتعلة بنيران «الميج 17». ليس هذا فقط، لكن إسرائيل عوّضت خسائرها الضخمة فى الطائرات والمعدات من خزانة السلاح الأمريكية التى أمدتها بطائرات «فانتوم» معدلة وصواريخ وقنابل موجهة ذات كفاءة عالية، فى الوقت الذى لم تعوض قواتنا الجوية بشىء من خسائرها، وهو ما ساعد القوات الإسرائيلية على التسلل إلى منطقة الثغرة بالدفرسوار، كما يقول «مبارك»، وهو ما زاد الطيارين المصريين تمسكا بإيمانهم وصمموا على الصمود والتغلب على هذا التفوق الآلى بروحهم العالية، وكان القتال مستميتا.. وكان التنسيق بين مقاتلاتنا القاذفة، ومقاتلاتنا فعالا ودقيقا.. وكانت ضرباتنا مركزة اعترف العدو بعنفها ونتيجة هذا القصف، تم تدمير أعداد ضخمة من الدبابات المعادية، وفقد العدو أعداداً كبيرة من القتلى ومعبرين من معابره فى منطقة الدفرسوار.
ويشير «مبارك» إلى مقال كتبه أحد مراسلى الصحف الإسرائيلية، أثناء وجوده بمنطقة الثغرة، ذاكراً فيه العبارة التالية: «أما قصف المدفعية فشىء تعوّدنا عليه، وأما هذا القصف الجوى فشىء مفزع».
وينتقل «مبارك» للحديث عن الدور الذى لعبته الطائرات الهليكوبتر فى حرب أكتوبر، مؤكداً أنها لعبت دوراً فعالاً بعد ساعات قليلة من بدء المعركة عبر نقل كتائب بأكملها لإسقاطها خلف الخطوط الإسرائيلية، وكانت هذه الوحدات من الكوماندوز المصريين، شأنها فى ذلك شأن قوات المشاة على طول القناة، مجهزة بالصواريخ المضادة للدبابات. وإمداد القوات الخاصة فى منطقة البحر الأحمر أيام 8 و11 و12 و14 أكتوبر بشكل سمح لهذه الوحدات بالاستمرار فى قتال العدو وإرباك خطوطه الخلفية. بالإضافة لاستطلاع العدو والتعامل مع دباباته فى أيام 16 و17 و18 و27 أكتوبر. وإمداد قوات الجيش الثالث الميدانى، شرق قناة السويس، بجميع ما يلزمه من احتياجات، خلال الأيام الأخيرة من عملية «الثغرة» فى الدفرسوار.. وذلك خلال يومى 25 و27 أكتوبر وقصف مستودعات بترول بلاعيم.
ثم ينتقل «مبارك» فى حديثه لتخليد أعمال ومواقف بطولية شهدتها حرب أكتوبر؛ فيقول: «إذا أردنا أن نسجل تلك الأعمال البطولية جميعها فإن الأمر سيحتاج إلى مجلدات ومجلدات حتى يمكن إعطاء كل ذى حق حقه. إن استعراض عدد من صور البطولة، لا على سبيل الحصر، بل كمجرد نماذج لما حققه مقاتلونا الطيارون خلال عمليات السادس من أكتوبر، والوفاء بالعهد الذى قطعه الرجال على أنفسهم، أن يكون لمصرهم الغالية -ولأمتهم العربية جمعاء- درع جوية تحميها. لا بد من وقفة أمام التاريخ.. ليس فيها افتعال.. أو تصنع.. فأمام الموت.. وأمام التضحية بالنفس يصعب ذلك كله. لا بد من وقفة إجلال أمام موقف لا ينسى، لبعده الإنسانى أولاً، ولمدلوله الحضارى والقومى ثانياً».
يتوقف «مبارك»، القائد العسكرى، هنا ليحكى لنا كيفية تلقيه نتائج الضربة الجوية الأولى فى يوم السادس من أكتوبر، فيقول: «كنت أتلقى التمام من القواعد الجوية والمطارات، التى اشتركت فى تنفيذ الضربة الأولى (صدام)، وعلمت أن شهيدى هذه الضربة الناجحة هما: المقدم طيار كمال والرائد طيار عاطف. ورغم سعادتى البالغة بالنتائج الرائعة التى حققتها (صدام) ضد العدو، فقد كان ألمى بالغا لفقد الطيارين اللذين كانا -رحمهما الله- من أكفأ طيارى القتال المصريين. أسرعت بإبلاغ نتائج (صدام) للقيادة العامة للقوات المسلحة، وكنت أعلم أن الرئيس السادات -بوصفه القائد الأعلى- قد اتخذ مكانه على رأس هيئة القيادة فى مركز العمليات الرئيسى لقواتنا المسلحة قبل أن تبدأ عمليات السادس من أكتوبر، وكان علمى بهذه الحقيقة سببا فى إحساسى بالحرج وأنا أبلغ المغفور له المشير أحمد إسماعيل بنتائج الضربة الجوية وباسمىّ الشهيدين».
عاطف السادات
يقول «مبارك» فى كتابه «كلمة السر»: «إن عاطف السادات، فى البدء والنهاية، طيار قاتل كغيره من رجال سلاح الجو المصرى له ما لهم من حقوق وعليه ما عليهم من واجبات، وألمنا لفقده هو نفس الألم الذى يعتصرنا لفقد غيره من شهداء قواتنا الجوية، لكن أنور السادات بشر فى النهاية، ومن حقه أن يشعر بأحاسيس غيره من البشر، عندما يفاجَأ الأخ الأكبر بنبأ استشهاد أخيه الأصغر، الذى كان بالنسبة له فى مكانة الابن العزيز.. لا شك أن هذا الإحساس بالحرج، والفهم الإنسانى للطبيعة البشرية، والتقدير المرهف لحساسية الموقف، هو الذى دفع المشير إلى احتباس خبر استشهاد عاطف السادات عن شقيقه أنور السادات بضعة أيام. موقف إنسانى من المشير أحمد إسماعيل، لعله أراد به أن يجنب القائد الأعلى امتحانا صعبا فى اللحظة التى كان على الرئيس السادات أن يتحمل فيها مسئوليته التاريخية وهو يقود خير الجنود وأشرف الرجال، فى اللحظة التى يواجهون فيها قدرهم وقدر أمتهم العربية وشعبهم المصرى، ليجيبوا عن السؤال الرهيب، الذى ظل يتردد -منذ عام 1967- فى أعماق الشخصية العربية، سؤال رهيب يقول: هل نحن موجودون، أم غير موجودين؟ وفى مواجهة هذا السؤال المصيرى، فليس من الحكمة أن يتعرض القائد الأعلى لأى اهتزاز -حتى لو كان عاطفيا تمليه الطبيعة البشرية، ورابطة التراحم الأسرى بين الأخ الأكبر وأخيه الأصغر- هكذا قرر المشير أن يحبس الخبر عن قائده الأعلى حتى تتضح معالم الموقف العسكرى على الجبهة تماما، وعندما سنحت الفرصة، أعلن المشير الخبر لقائده الأعلى، ليجد نفسه أمام تصرف لا يصدر إلا عن إنسان له عمق أنور السادات، وشخصيته متكاملة العناصر، عميقة الأبعاد. حزن الرئيس حين أُبلغ بخبر استشهاد عاطف السادات فى الضربة الأولى. لقد كان حزن الأخ الأكبر (أنور) على أخيه الأصغر (عاطف) عميقا.. لكن لمحة الحزن التى أطلت من عينيه يومها -وشهدها كل الحاضرين فى غرفة العمليات الرئيسية- خالطها، ثم طغى عليها فى النهاية، إشعاع من العاطفة الأبوية الشاملة، التى ظللت كل المقاتلين واحتضنت كل الشهداء، وأطلقها الرئيس فى عبارته المؤثرة: «كلهم أولادى».
بطولات الرجال
ينتقل «مبارك» بعد الحديث عن عاطف السادات وخبر استشهاده، فى اليوم الأول للحرب، للحديث عن بطولات رجال القوات الجوية التى هدمت الغرور الإسرائيلى. فيقول: فى السادس من أكتوبر، وأثناء الضربة الأولى المركزة التى حطمت روح الطيران الإسرائيلى وأعادته إلى حجمه الطبيعى، أصيبت طائرة المقاتل الطيار (نجيب...) بدانة مدفع مضاد أطارت غطاء كابينة الطائرة وأصابته هو بجروح سطحية فى وجهه، لكنه لم يبلغ عن الحادث ولم يطلب العلاج، بل بدأ بمجرد هبوطه فى قاعدته إجراءات التزود بالوقود والذخيرة ليشترك فى باقى طلعات ذلك اليوم، ولم يكتشف أمره إلا بعد أن حققت الضربة أهدافها وسمح للطيارين بالقليل من الوقت والراحة قبل بدء المهمة التالية.
وفى نفس اليوم أيضا وفى نفس العملية، حدث نفس الشىء للمقاتل الطيار (فوزى...) أثناء عودته بعد ضرب مطار بير تمادا، لكن أمره اكتُشف لحسن الحظ فصدرت له الأوامر الصارمة بالراحة جبريا، لكنه بعد 24 ساعة تقدم بتظلم أقرب إلى الرفض منه إلى الرجاء، نوه فيه بأنه سيقضى ما بقى من حياته فاقدا احترامه لنفسه لمرور يوم وليلة من عمر المعركة دون أن يفعل شيئا، حتى إذا ما أجيب إلى طلبه، حرص بعد عودته من كل عملية على المشاركة فى العملية التى تليها، وكأنما يعوض ما فاته من عمليات.
ويحدث نفس الشىء، وما أكثر ما حدث للمقاتل الطيار (حسن...) فى الثامن من أكتوبر؛ فبعد أن تمكن من إسقاط طائرة للعدو، أصيبت طائرته بصاروخ معادٍ أثناء عودته، فوثب بالمظلة وعاد سيرا على قدميه إلى حيث التقطته قواتنا الأرضية وأعادته سالما إلى قاعدته قبل الغروب. وكان حتماً أن يحال إلى القومسيون الطبى ليحدد المدة الكافية لعلاج الكدمات والجروح التى أصيب بها.. وأحيل فعلا رغم إلحاحه فى طلب إعفائه من ذلك، لكنه لم يكف عن التوسل للأطباء حتى يطلقوا سراحه كما كان يقول فأجيب إلى طلبه بعد 24 ساعة ليشترك فى عدة عمليات ناجحة قبل أن يحظى -بعد ذلك- بلقاء ربه شهيد إيمانه وحبه لوطنه.
ويحكى «مبارك» عن لون آخر من ألوان الإصرار وروح القتال التى جعلت من مقاتلى القوات الجوية مضربا للأمثال قائلاً: «عندما رزق المقاتل الطيار (فهمى...) بمولودته الأولى، وبادرت قيادته بمنحه إذناً ليراها ويطمئن على سلامة الأم، رفض ابن السادسة والعشرين أن يبعد عن قاعدته ولو لساعات، خشية أن تفوته المساهمة فى إحياء مهرجان الانتصارات الذى أقامه مع زملائه ابتداء من السادس من أكتوبر. وتمخض هذا التكالب على الاشتراك فى العمليات، من جانب الطيارين، عن ابتكار الكثير من الحلول لبعض المشكلات؛ فالمخالفات الصغيرة مثلا، التى لا تخلو منها قاعدة جوية أو غير جوية، أمكن القضاء عليها تماما، وبين الطيارين بالذات، بجزاء طريف ابتكره أحد قادة القواعد لينتشر بين القواعد جميعا، هو الحرمان من طلعة أو أكثر من طلعات القتال. كانت المشكلة الدقيقة التى عاناها القادة أثناء الحروب الجوية ممثلة فى حتمية اختيار الطيار المناسب للعملية المناسبة من حيث هى تدمير أهداف جوية أو اكتساح مدرعات أو ما إلى ذلك، حتى ابتكر قادة القواعد حلا طريفا للمشكلة يتلخص فى استدعاء الطيارين جميعا إلى غرفة عمليات القاعدة لتلقينهم تفاصيل العملية، فى نفس الوقت الذى يجرى فيه تجهيز العدد المطلوب فقط من الطائرات للطلعة وهى داخل دشمها، حتى إذا ما انتهى التلقين وهرع الطيارون كلٌّ إلى دشمه، حظى البعض بالمهمة وعاد الباقون ضاحكين حيث يجدون الدشم التى حددت لهم خالية بلا طائرات».
إلى هذا الحد هانت الأرواح فى سبيل الحصول على المجد للبلاد. إلى هذا الحد كان الرجال يسارعون للشهادة أو النصر يعرفون مسئولياتهم الواجب أداؤها؛ لذا لم يكن ابتكار حل المشكلات وقفاً على القادة؛ فقد ابتكر المقاتلون الطيارون لأنفسهم حلا لمشكلة المشكلات فى القتال الجوى، هى مواجهة العدو والدخول فى المعركة الجوية بلا ذخيرة. وهو ما يقول عنه «مبارك»: «الحل المبتكر جاء عفواً، وأما السبيل إليه فكان روح القتال الكامنة فى طيارينا؛ إذ اهتدى طيارونا المصريون إليها فى أول مناسبة برزت فيها المشكلة بالمناورة فى الجو وركوب الطائرات المعادية بتشكيل الطائرات المصرية فكانت طائرات العدو تسارع بالهرب من صواريخ لا وجود لها. وهو الحل الذى قام به الطيار نجيب وسبق الحديث عنه فى ابتكار تمتزج فيه الشجاعة بالسخرية المصرية اللاذعة من العدو».
ويواصل «مبارك» حكيه عن بطولات الرجال فيقول: «فى الثامن عشر من أكتوبر خرج تشكيل من 4 طائرات بقيادة المقاتل الطيار (حيدر) ومعه كل من (محب ورضا وفتحى)، فى مهمة لتدمير عدد من الأهداف الحيوية فى عمق سيناء، لتعترضه أثناء العودة بعد أدائه لمهمته مقاتلات العدو، وهو على بُعد 40 كيلومترا شمال العريش، وإذا كان التشكيل المصرى قد بوغت وهو بلا ذخيرة للدفاع؛ فقد كان فى هذه المرة بلا وقود يكفى للمناورة الخداعية ثم العودة إلى قاعدته؛ لذا أصدر قائد التشكيل، المقاتل الطيار (حيدر...) أمره إلى زملائه بمواصلة العودة إلى القاعدة دون اشتباك، وانفصل هو عن التشكيل واتجه رأسا صوب العدو، وراح يشغله بالكر والفر وهو أعزل تماما، حتى تمكنت مقاتلات العدو منه بعد عناء، فأسقطته شهيدا مضحيا بحياته ثمنا لحياة زملائه».
العمليات الخاصة
يقول «مبارك» فى كتابه «كلمة السر»: كثير من الناس لا يعرف عن العمليات الخاصة إلا اسمها. قد لا يعرف الكثيرون أنها واجبات ينفرد كل منها بوضع خاص، سواء من حيث التعرض للمخاطر أو من حيث الآثار المترتبة على النجاح أو الفشل فى أداء العمليات الخاصة بالبر أو البحر. مسئوليات جسام تتطلب من المقاتل الطيار أسمى مستويات الإخلاص للعمل والصدق فى الأداء والشجاعة فى مواجهة الخطر. تلك عناصر توافرت بغزارة فى مقاتلينا الطيارين طوال معارك أكتوبر التى قامت أكثر ما قامت على العمليات الخاصة التى عُهد بها لسلاحنا الجوى فأثبت كفاءة عالية فى هذا النوع من عمليات القتال التى خضناها للمرة الأولى فى تاريخنا؛ ففى السادس من أكتوبر، وبينما الضربة المركزة الأولى تفتح أبواب الجحيم وتصلى العدو ناراً من الجو، كانت عدة تشكيلات من تسع عشرة طائرة هليكوبتر ضخمة، بقيادة المقاتلين الطيارين «شمس...» و«رفيق...» و«زكى...» و«محمود...» و«سعيد...» و«عمر...» و«حسن...» و«سمير...»، تسقط جنود الصاعقة البواسل شمال قلعة الجندى وشرق رأس سدر ووراء الممرات، للعمل خلف خطوط العدو بما يربكه ويوقعه فى الحيرة التى حطت من روحه. تلك القوات التى تم إنزالها لا يزال العالم يتغنى بإنجازاتها؛ لأن معظمها لم يعد إلا بعد شهور ثلاثة من بدء العمليات، وقد كانت نقطة الانطلاق الأولى فى هذه العملية البطولية هى نجاح طائراتنا فى توصيل هذه القوات إلى أهدافها. كان بديهياً أن تجد هذه القوات الخاصة حاجتها من الذخيرة والغذاء والماء، وكان الحل عند سلاحنا الجوى الجديد، الهليكوبتر؛ فعن طريق العمليات الخاصة أقام هذا السلاح جسرا لإمداد قواتنا البرية الخاصة حيثما وُجدت عبر طرق جوية عجز العدو عن اكتشافها، ابتداء من الثامن من أكتوبر، وفى تشكيلات سريعة الحركة بقيادة مقاتلين طيارين كانت خبرتهم بهذه العمليات جليلة الأثر تتصاعد باستمرار، من أمثال المقاتلين الطيارين «عمر...» و«حسن...» و«بهى...» و«أبوشهبة...» و«سمير...» وغيرهم. نوع آخر من العمليات الخاصة اضطلعت به طائراتنا الهليكوبتر، تجاوز مجرد إبرار القوات الخاصة وإمدادها، إلى تدمير الأهداف أيضا؛ ففى الحادى عشر من أكتوبر عندما تقرر الحد إلى أقصى درجة ممكنة من نشاط مدرعات العدو بحرمانها من البترول، عصب الحرب الميكانيكية.. انطلقت أربعة تشكيلات من طائرات الهليكوبتر بقيادة كل من المقاتلين الطيارين «شمس...» و«رفيق...» و«أحمد...» و«على...» فى الصباح، ثم تلتها أربعة تشكيلات أخرى بقيادة كل من «جلال...» و«محمد...» و«سيد...» و«محسن...» إلى حيث دمرت مستودعات البترول بسيناء، فحرمت العدو بهذه العملية التدميرية الناجحة من مصدر حيوى للوقود.
بمثل تلك الروح فى القتال بين طيارينا وذلك المستوى من التدريب والكفاءة، تمكن هؤلاء الطيارون من تحقيق أعمال تعتبر قياسية فى مجال الحروب الجوية. منها على سبيل المثال عدد الطلعات الجوية فى اليوم الواحد. كان الرقم القياسى 4 طلعات حققها طيارو سلاح الطيران البريطانى، أثناء مطاردة قوات المحور، وهى فى انسحابها التاريخى من شمال أفريقيا. وقد تخطت قواتنا الجوية المصرية هذا الرقم ولأكثر من مرة بعدد من الطلعات وصل إلى 6 طلعات كان يحققها الطيار الواحد فى اليوم الواحد، دون أى بادرة من بوادر الإجهاد أو الإرهاق. كذلك فى مجال إسقاط الطائرات الأكثر تفوقا أثناء القتال الجوى، بلغ طيارونا الذروة، لا فى عدد ما أسقطوا من طائرات معادية أكثر تفوقا من طائراتهم فحسب، بل على مدار حرب بدأت دون أن يدرى أحد متى سيقدر لها أن تنتهى. كما حقق العشرات من طيارينا أرقاما قياسية فى عدد إسقاط الطائرات المعادية الأكثر تفوقا.
ويتحدث «مبارك» عمّا يعتبره قياسا فى أكثر من مجال من مجالات الحروب الجوية، فيقول: كان ينتاب بعض الطيارين حالة من فقدان الصبر، والاستجابة للحماس وروح القتال، عندما ينجح العدو فى الوصول إلى إحدى قواعدنا الجوية، فما من مرة هوجمت القاعدة التى يعمل منها كل من المقاتلين الطيارين «ضيف الله...» و«المنصورى...»، إلا وهرعا إلى طائرتيهما وانطلقا تحت القصف، إلى حيث يشتبكان مع العدو الجوى فى معركة إن لم تنته بإسقاطه، فبإرغامه على التخلص من حمولته المدمرة بإلقائها فوق الحقول، والعودة هاربا دون أن يحقق أهدافه ضدنا. ولا أنسى ما دأب عليه كل من المقاتل الطيار: «فهمى...» و«نصر...» و«عادل...» و«تحسين...» و«شكرى...» من عدم فتح نيرانه على عدوه، بعد التمكن منه، إلا وهو على أقرب مسافة ممكنة منه، لدرجة أن شظايا العدو فى كثير من المرات، إثر انفجارها فى الجو، أصابت طائراتهم إصابات لم تعقها عن مواصلة الطيران.
لا ينسى «مبارك» الإشارة لقوات كانت مهمتها تسهيل مهام هؤلاء الطيارين فيشير إلى معلومة حربية مفادها أن كل طيار يطير فى الجو، يقابله بين 18 و20 مهنة تخدمه على الأرض. بين متخصصين فى الإعداد الهندسى للطائرة، وآخرين لتأكيد سلامتها وتحميل لأسلحتها وتزويدها بالوقود والذخيرة وصيانة أجهزتها المختلفة. كما يسهر على تأمين سلامة الطائرة ملاح لتوجيهها على شاشات الرادار، ومراقب جوى لتنظيم إقلاعها وهبوطها من برج المراقبة، وخلف هؤلاء مهندسون وميكانيكيون وعمال فى مهن فنية عديدة يصلحون ما يصيب كل طائرة من أعطال. وآخرون قابعون فى مخازنهم، لإمداد الأسراب والورش بما يلزمهم من عتاد أو مهمات أو قطع غيار، وآخرون فى مكاتبهم، يديرون دولاب العمل فى أجهزة التخطيط ووحدات التنفيذ.
وهو ما يقول عنه: كل هؤلاء كانوا بمثابة خلية النحل، لا يكل فرد فيها عن العمل، وشأن كل خلية لها طلائع.. يصنعون النصر بالتضحية بأرواحهم، ويعطون الحياة صفة الاستمرار بهذه التضحيات. كان كل من هؤلاء يفكر فى سلامة الطائرة وسلامة الطيار وسلامة الممر قبل أن يفكر فى نفسه، ومن ثم شحذت هممهم، فجاءت نتيجة الأعمال التى قاموا بها خلال المعارك وفق ما نعرف الآن. وكما ذكرت المقاتلين الطيارين فإننى أذكر بعضا من بطولات غيرهم، لا من باب الفخر والإعجاب، ولكن من باب التذكرة والاستفادة.. كان الأعداء يستهدفون دشم الطائرات، وكانوا يستهدفون الممرات لتعطيلها توهماً منهم أنهم قادرون على تكرار ما حدث فى 5 يونيو 1967، وتساقطت بعض القنابل على الممرات، وتساقط الكثير من صواريخ العدو وقنابله بعيدا عن الممرات والدشم. لكن لم يتعطل مطار واحد أكثر من ساعات معدودة، استكمل بعدها قدرته على الدفع بطائراته إلى سماء المعركة التى فوجئت بها إسرائيل. ولقد تمخضت خسة إسرائيل فى لحظات اليأس عن استخدام القنابل الاهتزازية، التى تنفجر بمجرد حدوث أى حركة بجوارها؛ لذا لعبت البسالة المصرية دورها، حتى لا تهتز القنابل أو تنفجر أمام طائرة أو أمام دشمة بجوارها. كمثال على بطولات أبنائنا أذكر رئيس الوحدة المسئول عن إزالة القنابل وتطهير الممرات منها، وهو يغادر مكتبه فى القاهرة، وينطلق إلى إحدى القواعد الجوية التى تساقطت فيها القنابل حول الممر، ليباشر التطهير بنفسه، ويظل يواصل الليل بالنهار لأن القنابل كانت تعد بالعشرات، وكان بعضها غائصا فى الطين على بُعد أمتار، فظل يواصل الحفر وراءها حتى تم نزع كل ما أسقطه العدو من قنابل، وتم تأمين المطار. قائد وحدة تطهير آخر تقدم نحو موقع سقطت فيه قنبلة، فتنفجر فيه لأنها كانت من النوع الاهتزازى، ويتقدم من يليه فى الرتبة، فيلقى نفس المصير، ثم يتقدم من يليه، وهكذا.. حتى أصبحت الوحدة تحت قيادة ملازم.. وأخيرا تم التطهير، دون أن تتوقف العمليات؛ لأن الجميع كانوا مؤمنين بحتمية مبدأ جديد اسمه «الاستمرار». أذكر سائق وحدة ميكانيكية تقدم من الممر، وعرف أن عددا من زملائه لقوا حتفهم وهم يطهرون الممر من قنابل اهتزازية، فيسرع بعربته نحو قنبلة باقية كانوا يشيرون إليها، ويلقى نفس مصيرهم، حتى لا يستمر تعطيل الممر عن الطيران. ويتمزق جسده، مع أجزاء العربة، وتتوقف حياة البطل الشهيد، لكى تستمر قواته الجوية فى الحياة.
ويواصل «مبارك» الحديث عن همم الرجال الأبطال الحقيقيين الذين لا يذكر أسماءهم كاملة، أو لا يذكرها على الإطلاق، لكنه يعلم بما قاموا به فيخلد مواقفهم. فيحكى عن دور أبطال آخرين كانوا خلف عدم تعطل أى مطار أكثر من بضع ساعات، فيقول: كانت هناك عملية إعداد فورى واستعدادات وتحضيرات خاصة يطلق عليها مهندسو الممرات «الخلطة الساخنة»، والأسمنت سريع الشك. لم يكن العدو يدرى أن مصر كلها تحارب، وأن مصر كلها تساند جيشها. كانت الخلطة الساخنة تُصنع فى كل موقع وبجوار كل مطار، وتقوم بتجهيزها شركات ومواقع عمل مدنية كانت على أهبة الاستعداد، وسواعد مدنية كان أصحابها لا يقلون فدائية واستعدادا للبذل عن المقاتلين الرسميين. وكانت أجهزة نقل متخصصة تعمل لإحضار هذه «الخلطة الساخنة» على وجه السرعة، لردم ما فى الممرات من حفر، وفى كل قاعدة جوية أو مطار توجد وحدة لديها آلاتها ومعداتها وضباطها وجنودها، المسئولون عن إعادة تجهيز الممرات. هؤلاء ضربوا أروع أمثلة النشاط، ومواصلة الليل بالنهار، لجعل الممرات جاهزة لإقلاع الطائرات وهبوطها باستمرار، وخلال ثغرة «الدفرسوار» تركزت غارات الأعداء على أحد مطارات شرق الدلتا، وتساقطت عليه مئات القنابل، وتعطلت ممراته أحيانا، لكن كان العدو يعطله ليلا، ليصبح فيجده وقد عاد صالحا، وأقلعت منه الطائرات لتهاجمه. لقد كان مهندسو المطارات يعملون ليلا على أضواء العربات. كم كانت تعوق أعمالهم القنابل المهتزة، لكنهم كانوا دائما ذوى عزيمة، وكان نتاج ذلك كله ممرات صالحة على الدوام، تضمن لسلاحهم الجوى تحقيق شبح يرعب إسرائيل اسمه «الاستمرار» فى المعركة من بدايتها إلى نهايتها.
ويأتى الكتاب على ذكر سلاح آخر للعدو تمثل فى إلقاء قنابل تحوى مئات من الكرات المعدنية، التى تتناثر فى شتى الاتجاهات عند حدوث الانفجار، فتصيب عددا كبيرا من الأفراد. وهى القنابل التى أطلق عليها جنودنا اسم «قنابل الجوافة»، تشبيها لكراتها ببذور هذه الثمار. ورغم إصابتها لعدد كبير من رجالنا فإن حركة العمل فى أى قاعدة أو مطار لم تتوقف ولو للحظات. كانت تلك القنابل تسقط بالقرب من حظائر الطائرات ودشمها، لكن كان الرجال أقوى منها. وعندما وُجد كثير منهم أن بعض البلى المتناثر يمكن أن يصيب الطائرات داخل الدشم، تمخضت أذهانهم عن أفكار مبتكرة غاية فى البساطة، تمثلت فى بعض شكاير الرمل وصناديق الخشب المملوءة بالرمال، وحموا بها الطائرات. ولقد ضرب كثيرون منهم أروع المثل فى التضحيات.
يقول «مبارك»: كان من هؤلاء: المقاتل «شاكر...»، الذى لمح قنبلة تتدحرج فى منزلق نحو إحدى الدشم، دون أن تنفجر، فهَمَّ فى سرعة خاطفة إلى التقاطها بيديه، وجرى بعيدا عن الدشمة إلى أرض فضاء مجاورة ليلقى بها، وهو يعلم أن انفجارها موقوت، وما كاد يعطيها ظهره، بعد أن أبعد الخطر، حتى دوى صوت الانفجار عاليا، وهو لم يكد ينبطح على وجهه ليتفادى الشظايا إلا فى اللحظة الأخيرة، والمقاتل «شبل...» الذى كان يتعاون مع لفيف من زملائه على إدخال إحدى الطائرات إلى دشمتها، ليحكموا إغلاق الباب عليها حماية لها من قنابل الجوافة، لكن القنابل لاحقتهم، وسقطت إحداها قرب الدشمة، فأصر المقاتل «شبل» على أن يتقدم زملاؤه حتى يغلقوا الباب على الطائرة وبقى هو ليسحب القنبلة بحبل بعيدا عن الطائرة. أما المقاتل «شافعى...» فقد كانت له هواية غريبة، وهى جمع قنابل الجوافة، ولقد أفلح فى جمع ما يزيد على ستمائة قنبلة منها بعد نزع مفجراتها، وبذلك أصبح سرها معروفا، ولم تخِفه القنابل المهتزة ونجح فى نزع طبات سبع منها. وذاع صيته فى المنطقة، إلى حد أن استدعته إحدى وحدات الدفاع الجوى القريبة لتأمين قنبلة كبيرة زنة الألف رطل، سقطت بجوارها على عمق أكثر من مترين فى الأرض. وأسرع العملاق المصرى «شبل» ليؤمن وحدة الدفاع الجوى، التى تسهم بجهدها الحيوى فى خلق الشبح الذى أطار النوم من عيون جنرالات الجو الإسرائيليين.
وينتقل «مبارك» للحكى عن مهام الصيانة للطائرات خلال حرب أكتوبر فيقول: لم يكن غريبا علىّ، وأنا أباشر مهمتى -كقائد للقوات الجوية خلال حرب أكتوبر- أن ألاحظ أن عمليات «التمام» التى كانت تتلقاها قيادة القوات الجوية لم يكن بينها فى أى يوم «بند» عدم صلاحية للطائرات بسبب تأخر الإصلاح لمدد طويلة. ومن ثم كانت نسبة صلاحية الطائرات على الدوام أعلى من المتوقع باستمرار. كان وراء هذا عيون ساهرة من مهندسى الصيانة وميكانيكيى وعمال ورش الإصلاح، سواء فى القواعد الجوية والمطارات أو فى الورش الخلفية. هؤلاء واصلوا الليل بالنهار فى إنجاز الإصلاحات، وليس فى ذلك فى حد ذاته بطولة؛ لأن ذلك عملهم وواجبهم، لكن عنصر البطولة يكمن فى إنجاز هذه الإصلاحات فى أوقات أقل ما توصف به أنها غاية فى القِصَر إلى حد يصعب تصديقه.
استخدم مهندسو الصيانة وسائل مبتكرة فى إصلاح الطائرات، منها على سبيل المثال ما حدث فى إصلاح الثقوب الصغيرة التى أحدثتها الشظايا فى الطائرة، فلم تكن تعالج بالسمكرة بل باستخدام لدائن لاصقة. ومعدات الرفع والتحميل التى لا تتوافر إلا فى الورش الرئيسية المجهزة، أمكن ابتكار ما يقوم بعملها داخل دشم الإصلاح وورش المطارات بوسائل لا تتسم إلا بالبساطة، لكنها تؤدى إلى تحقيق نفس الفعالية المطلوبة والمؤدية إلى سرعة الإنجاز فى أقصر حيز زمنى ممكن.
ويحكى «مبارك» عن مواقف يتضح فيها حجم الإحساس بالمسئولية وأهمية عنصر التوقيت والفداء فيقول: وصل بلاغ من إحدى القواعد ليلا بأن طائرة غير صالحة فى حاجة إلى قطعة غيار صغيرة الحجم، وأن صلاحية الطائرة متوقفة عليها، وبعد أن تم صرف القطعة المطلوبة، تحرك أحد المقاتلين بها لتوصيلها، وكان لزاما عليه أن ينتقل بعربة وعلى بعد 4 كيلومترات من القاعدة، وتعطلت العربة فواصل الجرى حتى بلغ القاعدة لتكون الطائرة صالحة قبل مطلع الشمس. كذلك سقطت قنبلة أمام باب دشمة كان المقاتل «حمدى...» يجرى فيها إصلاح طائرة، فيتفتق ذهنه عن سحب الطائرة من الباب الخلفى للدشمة بواسطة عربة التزويد بالوقود. وعندما يحدث الانفجار، تكون نتيجته إتلاف بعض الجدران فقط. والمقاتل «زناتى...» تسقط قرب ورشته قنابل صغيرة كثيرة العدد، ويعرف أنها ستنفجر بعد قليل، لكنه يمضى فى جمعها فى خوذته بسرعة ويسرع إلى إلقائها فى حفرة حتى لا يتعطل إصلاح الطائرات. أما المقاتل «أبوناسو...» فقد كان متخصصا فى إصلاح كوابل التليفونات، وتحت قصف من وابل القنابل لم يتأخر عن إصلاح كل الكوابل الموصلة إلى الدشم، لتكون الطائرات دائما جاهزة لتلقى أوامر الإقلاع فور صدورها. بهذا استحقت قواتنا الجوية التقييم المنصف الذى أعلنه الفريق أول محمد عبدالغنى الجمسى، نائب رئيس الوزراء وزير الحربية القائد العام لقواتنا المسلحة، عندما أعلن أن «القوات الجوية هى التى بدأت الحرب وهى التى أنهتها».


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.