لم يعد السكوت ممكنا بعد ان اصبح بطل حوادث الطرق فى مصر بشكل شبه يومي، واحدة من سيارات النقل الثقيل ، سواء كان ذلك على الطرق الداخلية بالمدن، او تلك الواصلة بين المحافظات، ومعلوم للجميع بشاعة تلك الحوادث وكم الضحايا التى تخلفها، واذا كانت مصر تحتل المراكز الاولى فى عدد حوادث الطرق على مستوى العالم، فان 60% من تلك الحوادث سببها النقل الثقيل ، وفق ما أكدته تقديرات خبراء المرور. عدد من قائدى السيارات الملاكى كشفوا لنا عما يتعرضون له يوميا على الطرق السريعة من سلوكيات تكاد تودى بحياتهم بسبب رعونة سائقى النقل الثقيل، من سرعة متهورة ، والقيادة فى الحارة اليسرى بدلا من اليمني، والحمولات الزائدة ، والقيادة عكس الاتجاه، واحيانا يستولون على حارات الطريق بالكامل، فيتعطل المرور، بل ان احدهم قام بالصعود فوق الجزيرة الوسطى فى الشارع ليعبر الى الطريق المعاكس هربا من احدى لجان الشرطة ، فقام بالاصطدام بسيارة ملاكى كانت على الطريق ، ولولا العناية الالهية لفقد صاحب السيارة حياته! طرحنا أسئلتنا» الغاضبة» على عدد من سائقى النقل الثقيل، فلم ينكروا علينا غضبنا، بل ايدونا واعترفوا بالاخطاء، لكنهم كشفوا لنا ابعادا اخري، لابد ان يضعها المسئولون فى الحسبان، حتى لا نخسر المزيد من الضحايا.. «الحاج حلمي» يعمل سائقا للنقل منذ 35 عاما ، ولخص كل ما يحدث من تجاوزات ومخالفات لسائقى النقل فى «غياب الخبرة» ،فيقول:» قبل ان ابدأ القيادة، تعلمت على يد اسطوات فى المهنة، وألممت بمبادئ الميكانيكا والكهرباء وقواعد المرور، اما الان فلا احد يعلم شيئا عن السيارة التى يقودها، ويجهل مكوناتها وطريقة عملها، فالان مساعد السائق «التباع» يعمل لمدة عامين، ويعتقد انه تعلم المهنة ويبدأ هو فى قيادة سيارة، ولا يهم الحصول على الرخصة، ولو صادفه ضابط المرور يقول له «ادفع 50 جنيها مقابل محضر مصالحة»! الامر الثانى الذى يشير اليه الحاج حلمى هو منظومة الترخيص التى يصفها بأنها» خاطئة» وتعد سببا رئيسيا فيما نحن فيه، فيقول:» «الواسطة» تحل كل المشاكل، فالقانون يقول لابد ان يعرف السائق القراءة والكتابة، فيحضر شهادة محو امية «مضروبة» ولا يتم اختباره، فى حين انه لابد ان يكون حاصلا على الاقل على الشهادة الاعدادية حتى يكون قادرا على قراءة اللافتات الارشادية ، اما الناحية الصحية والنفسية فحدث ولا حرج، فالحصول على رخصة مهنية سهل للغاية ، فى حين انه لابد ان يمر السائق باختبارات دقيقة وعنيفة، ولا يجتازها بسهولة، وكذلك عند التجديد، ولابد ان يكون هناك كوميسيون طبى كامل». ويعترف الحاج حلمى بأن هناك الكثير من سائقى النقل يتعاطون المخدرات وهؤلاء حتما وراء معظم الحوادث، ويكشف قائلا:» السائق عندما يذهب لتجديد الرخص - كل ثلاث سنوات- ،يمتنع عن التعاطى لمدة 15 يوما، فتظهر نتائج التحليل سليمة، ثم يعود للتعاطى من جديد، واذا كان على الطريق ومعه مخدرات او سلاح ،يخبره زملاؤه ممن سبقوه بان هناك كمينا او لجنة، فيعدل طريقه ويهرب ، و اذا كان يقود بسرعة عالية يخفف سرعته قبل الكمين ثم يعود من جديد، وهكذا فالتحايل لا ينتهي». ورغم انه يرى ان 60% من حوادث النقل الثقيل سببها قائد السيارة، الا ان الحاج حلمى يرى ايضا ان هناك مشاكل تتعلق بالطرق والمطبات التى يبنيها الاهالى بعشوائية، والاضاءة المعدومة ليلا، وغياب اللوحات الارشادية على طرق السفر ، وتساءل:» هل يعقل ان يكون هناك اكشاك على رصيف الطريق الدائري؟!، ومن المسئول عن ذلك سوى اجهزة الدولة؟!». فضلا عن تعدد الجهات المسؤولة عن الطرق فى مصر، وبالتالى لا توجد جهة واحدة لمحاسبتها عند وقوع خطأ، بل ان افتتاح اى طريق جديد يكون «تحصيل حاصل» دون اى فحص لمدى مطابقته للمواصفات الفنية المطلوبة. مع ذلك دفتر المخالفات ليس هو الحل، هكذا يؤكد الحاج حلمى ويقول:» صاحب السيارة «يحمّل زيادة «حتى يتمكن من تعويض الخسارة الناجمة عن الغرامات والرسوم التى يتم دفعها دون مقابل خدمة على الطريق،وفى النهاية رفع قيمة الغرامات لن يقلل الحوادث، والتجربة اثبتت ذلك، فالسائق يدفع الغرامة، ويعود لنفس الخطأ، والحل من وجهة نظرى هو الحبس الفوري، كما يجب تغيير اماكن «الكمائن» لا ان تكون ثابتة، فيحفظها السائق ويتمكن من الافلات منها ، ووزارة الداخلية للاسف كل همها تجميع « موارد للصناديق». وفى نهاية حديثه فان الحاج حلمى الذى كان ضحية لحوادث الطرق بسبب عيب فنى فى السيارة ادى الى انكسار «الدريكسيون» اثناء القيادة،يتمنى ان تكون هناك مدارس لتعليم القيادة المهنية، فحتى الان لا توجد اى منها فى مصر. الثورة والفوضي الحاج مصطفى يعمل منذ اربعين عاما فى مجال النقل الثقيل، واتفق مع سابقه فى اسباب حوادث النقل مؤكدا ان السبب الرئيسى هو غياب الرقابة على الطرق ويدلل على كلامه قائلا:» قبل الثورة كان هناك صرامة ورقابة وفى جميع الاوقات، ولا انسى انى كنت قادما من اسيوط على الطريق الغربى فى الثانية بعد منتصف الليل، ومع ذلك كان هناك ردار، وفوجئت به، والغرامة 150 جنيها تدفع بشكل فوري، كما كانت هناك متابعة للحمولات،فكانت السيارات التى تحمل البضائع من ميناء الاسكندرية لا تخرج الا اذا كانت ملتزمة بالحمولة المقررة ، اما الان فلا توجد ردارات، وتسير سيارات النقل «مهرمة» ويتطاير منها الرمل والزلط الذى يؤذى سيارات الاخرين، كما لم يعد هناك اى احترام لقواعد المرور سواء من النقل او الملاكى او الميكروباص او الاجرة». الحاج مصطفى كان يعمل «خراطا ميكانيكيا» وعندما تم 21 عاما استخرج رخصة قيادة مهنية فكانت لديه فكرة عن تركيب السيارة وطريقة عملها ، وهو ما ساعده فى عمله كسائق، ويقول:» للاسف الكثيرون دخلوا على المهنة ممن لا دراية لهم بالقيادة ، فقديما كان من يعمل بتلك المهنة محدودى العدد ومعروفين ولديهم خبرة، اما الان «فالعيال» يدخنون «الجوزة» اثناء القيادة ويتعاطون المخدرات ليتمكنوا من مواصلة القيادة لساعات طويلة ، فيكون السائق مستيقظا لكنه فى الحقيقة لا يدرى ما يحدث حوله». ويوضح الحاج مصطفى لمن يندهشون من السرعة الجنونية التى يقود بها سائقو النقل، فيقول:» السيارات الجديدة «عفية» وأكثر متانة من السيارات الملاكي، فنجد السيارة محملة 100 طن وتجرى على الطريق ،لان امكاناتها تمكن السائق من ذلك، ولديه كل وسائل الأمان.. لكن ما يعيب عليه الحاج مصطفى هو تصميم الطرق اذ يرى انها سبب رئيسى فى وقوع الحوادث خاصة لمن يسيرون عليها للمرة الاولي، ولا يعرفون عيوبها، سواء فى تصميم المنحنيات والملفات، فتتسبب فى التصادمات او فى انفجار اطارات السيارة، بل انه فى مكان ما على الطريق الزراعى ، يجد السائق الطريق قد انقطع فجأة ويجد فى مواجهته «مصرفا» للمياه، فاما ان يتدارك الخطا بسرعة ، او ان يسقط فى المصرف، خاصة لو كان يسير ليلا ولا توجد اضاءة. ويعتقد الحاج مصطفى ان هناك بعض الاجراءات التى يتم اتخاذها الان من شانها بالتوسع بها- ان تقلل من الحوادث، فالطرق الجديدة يتم تزويدها بكبارى علوية للتبديل الى الطريق المعاكس ،بدلا من فتحات» اليوتيرن» ، كما ينبغى أن توجد لجانا على الطريق الدائرى لتحليل بول سائقى النقل، حتى يتم كشف متعاطى المخدرات فورا، ولابد من تعميم تلك التجربة على جميع الطرق، بالاضافة الى ضرورة عمل مسارات مخصصة للنقل الثقيل. التدريب غائب من جانبه يشخص لنا ممدوح السيد- رئيس جمعية النقل البري- مكمن الخلل فى منظومة النقل البرى التى تضم 3 عناصر اساسية، لو اختل احدها اختلت المنظومة كلها، وهى المركية والطريق والعنصر البشري، فيقول:» لو بدأنا بالطريق، سنجد ان 85% من طرق مصر مفردة ، فى حين ان الطرق الطويلة لابد ان تكون مزدوجة، اى يوجد طريق للذهاب واخر للاياب، ومن المؤكد ان جميع الطرق المفردة خطرة، وتزيد من احتمالية وقوع الحوادث، كما ان هناك مشكلة اخرى وهى ان هناك اكثر من جهة مسؤولة عن انشاء الطرق فى مصر ، هى وزارة النقل والاسكان والمحليات، وما ادراك ما المحليات، فهناك غش وعدم مراعاة للمواصفات الفنية فى التنفيذ ، ولهذا فطرقنا تنهار فى سنوات قليلة بينما من المفترض ان تتحمل لعقود، مع اجراء الصيانة الدورية اللازمة». ويتابع السيد:» لو انتقلنا الى المركبة سنجد انه احيانا يكون هناك غش فى قطع الغيار، فتكون هناك عيوب فى صناعة اطارات السيارة او فى الفرامل، اما العنصر البشرى وهو اساسي، فمشكلته انه غير مدرب، فنجد اغلبهم كانوا سائقى ميكروباص، فيتخيلون انهم قادرون على قيادة سيارة نقل ثقيل، ويضطر سائق النقل للقيادة بسرعة جنونية، لان « المعلم» يريد نقل كمية معينة من البضاعة خلال فترة قصيرة، فيعمل لمدة 17 او حتى 20 ساعة فى اليوم، حتى يقطع مسافة 1200 كم مثلا، لا يستريح خلالها الا مرة واحدة لانه ملتزم بنقل الكمية خلال زمن محدد، فيضطر الى تعاطى المنبهات والمخدرات، وفى ظل هذا الوضع لابد من وقوع الحوادث». وينتقل السيد لمسألة لحصول على الرخصة، فيؤكد:» لم يعد الامر بنفس صعوبة الماضي، فقديما كانت رخصة قيادة «اتوبيس» يتم منحها بعد خمس سنوات من القيادة، يكون طالبها حصل على خبرة كافية، اما الان فيحصل احدهم على رخصة مهنية الدرجة ثالثة فالثانية ثم الاولى بشكل تلقائي، كما ان معظم سائقى النقل الان من «الشباب الصغير» فالكبار اما مرضوا وتوقفوا عن العمل، او رحلوا عن الحياة اصلا». رئيس جمعية النقل البرى طالب فى ختام حديثه بان تقوم الدولة بمسئوليتها فى التدريب عبر مراكز تقوم بتأسيسها، ويقول:» لا يوجد لدينا سوى المركز المصرى للقيادة الامنة وهو مخصص لتدريب سائقى الاتوبيسات السياحية، اما النقل الثقيل فلا يوجد اى جهة مسئولة عن تدريب سائقيه».. لم نتوجه بأسئلتنا الى مسئولى المرور او الطرق ، فالاخيرة، لا نعلم تحديدا من هو «صاحبها» فى ظل تعدد الجهات المسئولة عنها .. ولم يكن هدفنا سماع تبريرات او دفاعا من المسئولين، عن طرق نسير فيها جميعا ونعلم عيوبها جيدا، ولم نرغب فى التعرف الى «جهود» ادارات المرور، والتى هى فى الحقيقة بلا نتيجة ملموسة ، بل هدفنا كان عرض ابعاد المشكلة على لسان «اصحاب الخبرة» ، فربما ينتبه احد المسئولين لما طرحوه من حلول من شانها الاسهام فى تقليل ضحايا وخسائر حوادث الطرق فى مصر..