على قارعة الطريق الصحراوى، يتمتم السائق سيد، بآيات قرآنية كى تحفظه من عفاريت الأسفلت، يستعيذ بالله من شر الدراجات البخارية البيضاء التى تهبط عليه من حيث لا يدرى ومن شر لجان المرور التى قد تقطع طريقه ومن شر الحوادث ومخاطر البلطجة. «احنا ماشيين على كف الرحمن، مصيرنا معلق على هواء العجل»، هكذا يقول محمود الذى تحولت حياته منذ 12 عاما إلى مشوار طويل لا ينتهى. يحرص محمود فى كل نقلة أن يخصص حصيلة من المصروف لإتاوات الطريق: «أنا مضطر أن أدفع حتى تمر الحافلة بأمان، فالشرطة تعلم جيدا أصول اللعبة وأننى أحصل على نسبة من ثمن النقلة.. إيقاف السيارة يعنى وقف حال بالنسبة لى ولصاحب الشركة. فإذا كان سائق الميكروباص يدفع مبلغا يتراوح بين 25 إلى 30 جنيها، فالإتاوة المفروضة على النقل الثقيل تتراوح بين 250 و500 جنيه وقد تزيد على ذلك مع زيادة البروز فى المركبة».
يفضل بعض السائقين، أن يسيروا ليلا حتى يتفادوا «كبسات» الشرطة وجشع اللجان التى تفرط أحيانا فى طلب الإتاوات وربما تفاجئهم لأكثر من مرة على الطريق. ويقول سيد إن ظلام الليل قد يخفيه عن أعين الشرطة، لكنه يزيد من وعورة ومخاطر الرحلة، فضلا عن تصاعد خطر البلطجية فى ظل الانفلات الأمنى بعد الثورة. «من فترة داهمت مجموعة من قطاع الطرق المزودين بأسلحة آلية إحدى مركبات الشركة واحتجزوا التباع والسائق والمركبة، ولم يطلقوا سراحهم إلا بعد الحصول على فدية كبيرة». يصمت سيد ثم يطرح تساؤلا: «لماذا نصبح كالمطاريد وتجبرنا الشرطة على السير ليلا، نخاف من بطشها فنقع فى براثن المجرمين؟»، لا يتوقف الأمر عند هذا الحد، فعم سيد مضطر أن يضع فى حسبانه كل مشكلات الطريق وأن يخطط لرحلاته الطويلة بشكل دقيق ليخفف من أعباء الطريق.
وأفادت دراسة أجرتها وزارة النقل بالتعاون مع وزارة الداخلية أن سيارات النقل الثقيل بنوعيه الفردى والمقطورات بلغت حوالى 55 ألف سيارة. كما أشارت الدراسة إلى أن الشاحنات وعربات النقل عموما تمثل نحو 25% من أسطول المركبات، وهى نسبة عالية جدا ولا يوجد لها مثيل حول العالم. الأمر الذى يؤدى إلى زيادة احتمالات ومعدلات حوادث الطرق، لافتة إلى أن هناك سببا آخر لهذه المشكلة يتمثل فى أن 95% تقريبا من نقل البضائع يتم على الطرق وليس اعتمادا على السكك الحديدية. وتحمل الدارسة سائقى النقل الثقيل مسئولية 90% من الحوادث على الطرق السريعة.
على أحد المقاهى المغمورة بطريق الصعيد، يوقف عم حسن، السائق الخمسينى، موتور السيارة كى يختلس قدرا من الراحة. يحتسى الشاى فى هذا المقهى «الترانزيت» الذى أعتاد أن يقابل عليه زملاء المهنة، فالجميع هنا عابرو سبيل دائمين.
بعد كوب الشاى الثقيل «المنعنع»، يقوم حسن بلف سيجارة حشيش ثم يتناول كوبا صغيرا من الكونياك وهو يقول: «لست خمورجيا ولا حشاشا، لكن الكيف لزوم الشىء. فأنا أخاف أن يغلبنى النعاس وأنا على واحد من أخطر طرق مصر والذى يحتاج لسائق محنك ومتيقظ»، ومع ذلك يبدو أن النوم يغلبه بالفعل، لذا فمع الوقت طور عم حسن بعض التقنيات التى تعينه على استكمال طريقه بينما هو يغط فى سبات عميق. فقد قام بتوصيل عصا خشبية بوحدة البنزين بالسيارة لتمكنه من السير بالسرعة نفسها حتى وهو نائم. وهو يبرر ذلك قائلا: «النوم سلطان، من يستطيع أن يقاومه؟!»، يتفق معه زميله ز، السائق الأربعينى موضحا: «لو كانت ظروف العمل أفضل من ذلك لكان حال السائق مختلفا، نحن فى صراع مستمر مع الوقت».
السيارة على الميزان يقف ز، ليضع حافلته على الميزان، ثم يدخل فى سلسلة من المفاوضات الساخنة مع المسئول عن الوزن كى يخفض له شيئا من القيمة دون جدوى. «أدفع كارت ميزان خمسمائة جنيه فى اليوم. لكى أغطى تكاليف العمل من سولار وكارت، لابد وأن أقوم بعمل أكبر عدد ممكن من النقلات، وقد أعمل لأكثر من 17 ساعة فى اليوم، لذا أحتاج أن أكون متيقظا لفترة طويلة بتناول المنبهات، فلكل دقيقة ثمن مدفوع مقدما». ويذهب السائق لأبعد من ذلك فى الحديث، فيشرح مثلا كيف يساء أحيانا استخدام السائق من قبل أصحاب الشركات، فهناك من لا يعطيهم أجرا إلا بعد أن تتم النقلة بالكامل وهو ما يعرف فى «كار السواقة» بالكومسيون الذى تتراوح قيمته بين 10 و20 جنيها فى اليوم. لذا يسير ز. على سرعة 150 كم/الساعة وهى سرعة تفوق ضعف المسموح به بالنسبة لسيارات النقل الثقيل على الطرق السريعة. السائق يصم أذنيه أمام سباب سائقى السيارات الأصغر حجما ولا يعبأ إلا بهامش الربحية التى لابد وأن يحققها فى زمن معين. ويقول «يستنزف السولار جزءا كبيرا من مصروف النقلة التى أحصل عليها من الشركة للإنفاق على أغراض رحلتى. وقد أحتاج أن أتزود بكميات إضافية من السولار فى «التانك»، لذا فميزانية الوقود لا تقل عن ألف جنيه. وهى مشكلة كبيرة أصبحت اليوم تؤرق سائقى النقل الثقيل مع شح المنتجات البترولية، فبسبب أزمة السولار الأخيرة، اضطررت أن أصف فى طابور طويل يمتد لأربعة كم حتى أحصل على ما يلزمنى وقضيت ليلتى أمام محطة البنزين خوفا من أن ينفد الوقود خلال الرحلة».
على الطريق الملتوى، قد يستيقظ عم حسن بشكل مفاجئ ليسأل تباعه: «هل مررنا على بنى مزار؟»، ويوضح أنهم حريصون على أن يظل أحد الأفراد متيقظا داخل الكابينة لمراقبة الطريق، خاصة وأنه لا توجد لافتات إرشادية تعرف بالمسافات والاتجاهات.
مع الوقت تشكلت علاقة وثيقة بين عم حسن ومركبته العملاقة التى يقضى فيها أكثر من 22 ساعة، رغم أنه من المفترض ألا يقود لأكثر من 18 ساعة مع التوقف كل 8 ساعات طبقا لقواعد المرور. فقد أصبحت سيارته بمثابة زوجته الثالثة التى تساعده فى إعالة أبنائه التسعة، بل وبيتا متنقلا يقضى تحت سقفه ليالى طوال، رغم قيظ الحر فحرارة الكابينة تزيد خمس درجات مئوية عن الطقس فى الخارج وصقيع الشتاء يتسلل إليه عبر فتحات النوافذ. ولا يجب على عم حسن أن يأكل أو يشرب من المطاعم أو المقاهى على الطريق حتى لا يصاب بتسمم غذائى أو ما شابه ذلك فتتعرض حمولته لمشكلات كالسطو أو الضياع. يلتزم عم حسن بالقواعد، فهو لا يتوقف إلا للشرب ولا يتناول سوى الأغذية الخفيفة التى يأخذها معه فى سلة الرحلات.
لسنا شياطين كشفت دراسات وزارة النقل، أن النقل الثقيل يتسبب فى 60% من حوادث الطرق بمصر، وأن المقطورة وحدها تتسبب فى 13% من هذه الحوادث، وأن 30% من سائقيه يتعاطون المخدرات. وأوضحت إحصائيات وزارة النقل أن من بين 1421 حادثة سنوية تقع على الطرق السريعة فقط يتسبب النقل الثقيل وحده فى 1364 حادثة.
لكن العديد من سائقى النقل الثقيل يرفضون هذه النظرة ويعتقدون أنها مجرد وسيلة لتشويه صورتهم أمام الشارع، يقول محمود: «لسنا شياطين الأسفلت، فنحن لا نسير إلا على سرعة لا تزيد على 70 كم. قد نكون (عمالقة) الطريق لكن نسبة حوادث الكاسحات لا تتعدى مثلا 1%، خاصة أننا نسير على يمين الطريق.. الكثير من حوادث النقل الثقيل تكون بسبب خطأ الغير، هى غالبا وسيلة من الحكومة لتبرير ما نتكبده من اضطهاد. الأمر الذى يلقى بحمولة على كاهل السائق الذى كثيرا ما لا يجد تعاطفا معه».
يتفق جان صابر مع محمود أحد مؤسسى رابطة الكاسحات تحت التأسيس ويضيف: «لماذا يضعون كل البيض فى سلة واحدة؟ فعندما تقوم هيئة النقل أو شرطة المرور بإجراء دراسة فهى تقوم بوصف كل المركبات الكبيرة بالنقل الثقيل، بينما لا تصنف بشكل دقيق أية نوعية من الحافلات هى التى تسبب فى الحوادث.. المقطورات تتسبب فى الغالبية العظمى من هذه الحوادث، ولا تمثل نسبة الحوادث الناجمة عن الكاسحات أكثر من 1%. وهو ما قد يظلم بعض سائقى الحافلات الأخرى خاصة وأن الكثير من الناس يجهلون الفروق بين مركبات النقل الثقيل».
هنا فى جراج الحاج محمود على، الموجود فى بداية طريق مصر إسكندرية الصحراوى، يتنوع الناس دخولا وخروجا. يقول خالد هنداوى، السائق الأربعينى: «الشغلانة كلها شقا، من التحميل حتى التسليم، والمضايقات ليل ونهار». يشارك الحاج محمود، صاحب الجراج، جزءا من حياة السائقين الذين يتوقفون لديه. هو الآخر كان قد بدأ حياته كسائق مثل والده وجده، اللذين تزين صورهما جدران مكتبه. ثم أيقن بفطرته الصعيدية أن النقل هو قلب مصر بسبب المركزية الشديدة التى تتسم بها البلاد، فتوسع فى المهنة وقام بتطويرها بعد أن استجلب لجراجه «الكاسحات»، وهى مركبات أكثر حداثة وطولا عن التريللات والمقطورات التى عمل عليها جده وأبوه. «هذه المهنة تحتاج لصبر كبير، لذا فقد حرصت على انتقاء سائقى الجراج بعناية من بين أبناء قريتى بسوهاج لأننى أعتقد أن الصعيدى بطبعه صبور.. ربما يرجع ذلك للطبيعة الجغرافية القاسية ونقص الخدمات». ويضيف: «هناك أطوال مختلفة من المركبات لابد وأن يمر عليها السائق عندما يبدأ العمل على سيارات النقل الثقيل، خاصة أنها تحتاج سائق على دراية بالطريق فى إطار سيارة لها أبعاد ضخمة وبروز، لذلك يحصل العديد من سائقى المركبات الثقيلة على دورات خاصة فى كيفية التعامل مع أخطاء الغير».
يمر إذا كل سائق نقل ثقيل بخطوات متتالية، بداية من «الفردانى» أى النوعية الأولى من تلك المركبات الضخمة والتى لابد أن يتمرن على قيادتها السائق المبتدأ، وتتكون من عربة واحدة لا يتعدى طولها ستة أمتار وتنقل حمولة تصل لعشرة أطنان. وكل عامين يتدرج السائق فى المهنة وعندما يحصل على رخصة الدرجة الثانية يستطيع قيادة مركبات أكثر طولا وأثقل حمولة مثل «التريللا» التى يبلغ طولها 17 مترا وعرضها 2.6 مترا، ويستمر فى التطور حتى يصل إلى قيادة الكاسحات التى يبلغ عرضها 8 مترا وطولها 19 مترا فارغا (بينما قد يصل طولها بعد التحميل إلى 30 مترا). يلتقط محمود على خيط الحديث قائلا: «التحميل نفسه يحتاج لفن وخبرة لضمان أن يكون مركز ثقل الحمولة فى مكان محدد لحفظ التوازن وحتى لا تتأثر الحركة والسرعة، فتحميل الكاسحة مثلا يختلف عن اللوادر أو الأوناش أو المقطورات».
بمجرد أن ينتهى السائق هنداوى من تحميل سيارته، يبدأ فى تخيل المسار الممكن أن يسلكه دون مشاكل. «هناك طرق بها كبارى يبلغ طولها 5 أمتار، بينما يمتد بروز الطرد الذى أنقله لأكثر من ذلك». فعندما يبدأ أى سائق عمله، لابد وأن يدخل الحضانة، على حد تعبير الحاج محمود على، أى أن يتعلم من شيوخ المهنة أسرار القيادة وإمكانيات كل مركبة ودهاليز الطرق المختلفة.