جاءت تداعيات حرب أكتوبر 73 لتؤذن ببداية النهاية لامتلاك الثورة الفلسطينية لرؤية استراتيجية جديرة بهذا المسمى. استراتيجية الحرب الشعبية طويلة الأمد لتحرير كامل التراب الوطني الفلسطيني وبناء الدولة الديمقراطية العلمانية تراجعت في أعقاب أيلول الأسود وقد أنهى إلى غير رجعة الوجود الفلسطيني المسلح على نهر الأردن، وهو الذي شكل الشريط الحدودي الأطول مع الأراضي الفلسطينية المحتلة، ومن ثم الأرض الوحيدة الأكثر ملاءمة لتحقق تلك الاستراتيجية. كما لم يكن لانتقال السلاح الفلسطيني إلى لبنان ليقدم حلا للمأزق، فالحدود اللبنانية مع إسرائيل شديدة الضيق، فضلا عن تماسها مع الشمال الإسرائيلي وليس مع الضفة الغربية كما في حالة الأردن، مما ينزع عن العمل الفدائي غطاءه الضروري تماما، وهو الاحتضان من قبل سكان يتبنون قضيته، فيعدو المقاتلين سمكا في ماء، كما يقال. شكل هذا المأزق الأرضية الجوهرية لبروز ثم سيادة استراتيجية الحل المرحلي، كما كان يطلق عليه وقتها، ألا وهو بناء السلطة الوطنية على أي شبر يحرر من الأرض الفلسطينية، والمعني به تحديدا الأراضي المحتلة بعد يونيو 67، أي الضفة الغربية وغزة، والمعززة مشروعيتها بالقرارات الدولية والإجماع العربي المفترض. كان من الطبيعي أن تعطي حرب أكتوبر وما حققته من انجازات عسكرية زخما كبيرا لذلك التحول الاستراتيجي، وقد تمفصل مع أسفرت عنه الحرب من تحركات دبلوماسية. وفي إطار تلك الاستراتيجية الجديدة لم يعد الوجود الفلسطيني المسلح الكبير في لبنان أداة مباشرة للتحرير ولكن أداة ضغط من أجل التحرير، تضاف إلى ما أحدثته الحرب من تحريك للقضية، ومن تضامن عربي وسلاح بترولي وما بدا من دعم دولي لمبدأ الإنسحاب من الأراضي العربية المحتلة بعد 67. تبددت مقومات تحقق الاستراتيجية الفلسطينية الجديدة كالسراب، ليبقى النقاش حول ما كان ممكنا وتم تبديده أو ما كان موهوما وتبين وهمه نقاشا أكاديميا غير ذي أهمية تذكر في نقاشنا الحالي. وكان قد جاء الدور على السلاح الفلسطيني في لبنان، ولم يعد مجرد أداة ضغط من أجل التحرير وإنما عنصر جديد بالغ الأثر في المعادلة اللبنانية الهشة والمبنية على أرض من محاصصة طائفية مدعومة دوليا وإقليميا. قصة الحرب الأهلية اللبنانية يطول شرحها، وهي ليست موضوعنا على أية حال، ولكن من الضروري التعرض لوجه رئيسي من أوجهها الحافلة بالتعقيد، وهو الوجه المتعلق مباشرة بالثورة الفلسطينية وخياراتها الاستراتيجية. أندلعت الحرب على أيدي قوى اليمين المسيحي اللبناني (تنظيم الكتائب المستوحى تاريخيا من الفاشية الفرانكية في أسبانيا) وذلك في مسعى مدعوم أقليميا ودوليا لحسم حالة ازدواج السلطة المتنامي بسبب وجود السلاح الفلسطيني على الأرض اللبنانية، أي في اطار مسعى لتكرار ما كان قد سبق أن حدث في الأردن وأيلوله الأسود. غير أن هذا المسعى قوبل هذه المرة بصعود قوى لبنانية وطنية وتقدمية تمردت على صيغة المحاصصة الطائفية التي قام عليها النظام اللبناني، ورأت في الوجود الفلسطيني المسلح حليفا أكيدا في مسعاها لبناء لبنان ديمقراطي علماني وتجسيدا لارتباطها بالقضية الفلسطينية. وفي غمار العام الأول من الحرب الأهلية في لبنان، وشهد تفكك الدولة اللبنانية، بدا وقد أعيد طرح إمكانية استعادة استراتيجية الكفاح المسلح طويل الأمد عبر أرض محررة، هي الأرض اللبنانية وذلك بالتحالف مع القوى الوطنية والتقدمية اللبنانية، وإن أصبح الهدف عند القوى الفلسطينية الأكبر والأكثر قوة ونفوذا هو تحرير الضفة والقطاع وليس كامل التراب الوطني الفلسطيني كما كان من قبل. لم يكن لتلك الإمكانية أن تغير بطبيعة الحال من حقائق الجغرافيا والديموغرافيا، ويصعب تصور كفاح مسلح ناجز عبر الحدود شديدة الضيق بين لبنان والشمال الإسرائيلي. ثم جاء الغزو السوري للبنان عام 76 مؤكدا ومكرسا للبعد الأهم في المأزق الاستراتيجي للثورة الفلسطينية، ويمثل في أن صعود حركة التحرر الوطني الفلسطيني تواكب مع انحدار بل وسقوط حركة التحرر الوطني العربية. دخلت القوات السورية لبنان تحت مظلة عربية ومتحالفة مع ميلشيات اليمين المسيحي اللبناني لتدمر تلك الإمكانية البازغة إلى غير رجعة، وذلك عبر معارك ضارية مع قوى الثورة الفلسطينية والحركة الوطنية اللبنانية شملت مذبحة مروعة في مخيم تل الزعتر راح ضحيتها آلاف المدنيين الفلسطينيين وفقراء اللبنانيين، رجالا ونساء وأطفال. ورغم الصمود والقتال البطولي للفلسطينيين وحلفائهم في الحركة الوطنية اللبنانية، جاءت الاتفاقات السياسية بما هو أدنى كثيرا من حقائق موازين القوى العسكرية على الأرض، لتضع التواجد المسلح الفلسطيني في لبنان تحت حصار مميت، ومنشأة لاحتلال عسكري وسيطرة سياسية دامت حوالي ربع قرن شهدت انحطاط الحرب الأهلية اللبنانية من حرب سياسية ذات مسوح طائفية لحرب طائفية صرف. الغزو الإسرائيلي للبنان في يونيو 82 يسجل لحظة النهاية التاريخية للثورة الفلسطينية أو بالأحرى لتلك الموجة الثورية العاتية التي انطلقت على أيدي الشعب الفلسطيني المقاتل من رماد هزيمة 67. تعجز الكلمات عن استدعاء ملحمة الصمود والبطولة، بشاعة وهمجية الغزاة، خسة ودناءة الخيانة. ينتهي الوجود المسلح الفلسطيني في أخر معاقله، ويرحل المقاتلون الفلسطينيون رحيلا دراميا مدميا للقلوب، ليلقى بهم في تونس واليمن والسودان، ولتتحول البندقية الفلسطينية إلى طيف هائم، إلى محض ذكرى لما كان ولما كان ممكنا أن يكون. لمزيد من مقالات هانى شكرالله