إذ نستأنف نقاشنا المأزق الاستراتيجى للثورة الفلسطينية من واجبنا أن نؤكد بداية أن إننا إزاء قضية التحرر الوطنى الكبرى فى عالمنا اليوم، ولعلها القضية الأعقد والأكثر استحكاما وصعوبة منذ بداية عهد ما بعد الاستعمار فى عقب الحرب العالمية الثانية، وتشاء المفارقة التاريخية أن تأتى التجربة الاستعمارية الأشد وطأة فى زمن كانت فيه بلدان المنطقة والعالم الثالث بأسره بصدد إزاحة السيطرة الاستعمارية المباشرة عن كاهلها فى إطار من تشكلها القومى وصياغتها لدولها القومية فى كل مكان. انبثقت الثورة الفلسطينية كما سبقت الإشارة عن هزيمة يونيو 67 ردا على الهزيمة وتأكيدا لاضطلاع الشعب الفلسطينى نفسه بمهمة تحرره الذاتي، وطرحا لطريق استراتيجى جديد للتحرير، بديلا للرؤية الاستراتيجية السائدة منذ الخمسينيات، وهى التى طرحت تحقيق الوحدة العربية الشاملة سبيلا لتحرير فلسطين على أيدى الجيوش العربية. هذا ويمكننا إعادة تلخيص الطريق الاستراتيجى الجديد للتحرر الوطنى الفلسطينى فى محاور أساسية أربعة: أولها، وهو الذى لعبت حركة فتح دور الريادة فيه، هو اضطلاع الشعب الفلسطينى نفسه بمهمة التحرير مدعوما من الشعوب العربية، ليستبدل بتصور الوحدة العربية سبيلا لتحرير فلسطين، طرح تحرير فلسطين طريقا لتحقيق الوحدة. كما تمثل المحور الثانى فى طرح حرب الشعب طويلة الأمد، بداية بتكتيكات حرب العصابات،والمستوحاة وقتها من تجارب الصين وفيتنام وكوبا، باعتبارها الأسلوب الأمثل للتحرير، بديلا للجيوش النظامية العربية، ولتصور لحظة صفر ما تقوم فيها تلك الجيوش بمهمة التحرير. أما المحور الثالث فتمثل فى النظر لدولتى اللجوء الفلسطينى الأكبر (الأردنولبنان)، كساحات انطلاق للعمل الفلسطينى المسلح ضد الاحتلال الإسرائيلي، وكنوع من الأرض المحررة تبنى عليها القوة المسلحة الفلسطينية المستقلة وينطلق منها العمل الفدائى عبر الحدود، مستفيدا ضمنيا إن لم يكن صراحة من الهشاشة النسبية للدولة فى هذين البلدين، على الأقل فى السنوات الأولى بعد الهزيمة. وتمثل المحور الرابع فى صياغة الهدف النهائى للتحرر الوطنى الفلسطينى فى شعار: الدولة الفلسطينية الديمقراطية العلمانية كدولة لكل سكانها، مسلمين ومسيحيين ويهودا، وهو ما عكس إدراكا أوليا لكل من أهمية التفوق الأخلاقى للقضية الفلسطينية من ناحية، ولضرورات كسب أو تحييد كتلة حرجة من يهود إسرائيل، فضلا عن الرأى العام العالمي، من ناحية أخري، بإعتبارهما شرطين ضرورين للتحرير. غير انه سرعان ما دخلت هذه الاستراتيجية فى مأزق مستحكم على جميع أصعدتها، وبخاصة فى عنصرها الأهم إطلاقا، وهو المتعلق بميدان انطلاق العمل المسلح نفسه، أو أرضه المحررة. فقد كان من المحتم للوجود المسلح الفلسطينى على الأراضى الأردنية بداية ثم لبنان بعدها، وبقدر نموه واتساعه وصلابة عودة أن يخلق حالة من ازدواج السلطة لم يكن لسلطة دولة أن تطيقه طويلا، وبخاصة فى حالة دول تشكلت فى إطار التقسيم الاستعمارى للمنطقة، معتمدة اعتمادا تاما على روابطها الغربية، ولا طاقة لها أو رغبة فى الدخول فى صدام مع الدولة الصهيونية. حاولت حركة فتح، وقد صارت الحركة الكبرى على الساحة الفلسطينية، أن تتفادى الصدام المحتوم بطرح شعار عدم التدخل فى الشئون الداخلية للدول العربية بوجه عام، والدول «المضيفة» للمقاومة بوجه خاص، غير انه فى حالة كل من الاردن ثم لبنان لم يكن هذا الشعار غير انكار للوقائع على الأرض، حيث شكلت فتح وغيرها من المنظمات الفلسطينية سلطة مسلحة غير خاضعة لسلطة الدولة «المضيفة» وتحظى بولاء قسم كبير من سكان البلد، وتبسط سلطتها على قسط غير صغير من أراضيها. كانت المنظمات الفلسطينية اليسارية المنحدرة من حركة القوميين العرب (الجبهة الشعبية بقيادة جورج حبش والجبهة الديمقراطية بقيادة نايف حواتمة) أكثر إدراكا لحتمية الصدام ولكن لا يبدو أن أيا منهما امتلكت تصورا قريبا من التبلور لكيفية معالجته، أو حسمه، لتجد نفسها أمام مفارقة بدت وقد أعادت وضع عربة «الثورة العربية» (على الأقل فى دولتى اللجوء) أما حصان «الثورة الفلسطينية». ليس فى وسعنا هنا الخوض فى التفاصيل الحافلة لتجربة الأردن، انتهاءً بمجزرة أيلول الأسود وتصفية الوجود المسلح الفلسطينى هناك، وليس فى وسعنا بالأحرى الخوض فى التجربة الأكثر تعقيدا فى لبنان، حيث تداخل الوجود الفلسطينى المسلح مع هشاشة صيغة دولة المحاصصة الطائفية بما تشمله من روابط عميقة للدولة والطوائف والطبقات اللبنانية إقليميا ودوليا، لتدفع بالبلاد لحرب أهلية دامت قرابة 15 عاما، وضعت أوزارها خمس سنوات بعد أن قامت إسرائيل، متحالفة مع اليمين اللبناني، بمجازر تصفية الوجود المسلح الفلسطينى هناك عام 82. كانت حتمية ازدواج السلطة فى دولتى اللجوء هى المأزق الأهم لاستراتيجية الثورة الفلسطينية هذه، غير انها لم تكن المأزق الوحيد. التكافؤ السكانى بين الفلسطينيين والإسرائيليين، والتفوق العسكرى والتنظيمى والتكنولوجى الساحق للدولة الصهيونية كغرس غربى فى قلب الأرض العربية، والدعم الغربى غير المحدود لإسرائيل، والتراجع الشامل لحركة التحرر الوطنى العربية، فضلا عن الصغر المتناهى للساحة الجغرافية للصراع، هذه العوامل وغيرها كثير كان من شأنها أن تحيط استراتيجية للتحرير قوامها حرب الشعب طويلة الأمد بمعوقات كبرى تشرف على الاستحالة. نقاش الاستراتيجية يتسم بالبرودة مع الأسف، ولكن يبقى انه فى ظل استراتيجية حرب الشعب هذه، سجل الشعب الفلسطينى ملحمة تاريخية مجيدة تحفل بأسمى آيات البطولة والتضحية والصمود، ونتابع. لمزيد من مقالات هانى شكرالله