بين حملات التشهير والافتراء والشماتة وقد وصل بها القبح والابتذال مداه، وصيحات المجد للمقاومة، بكل ما قد تنطوى عليه من سذاجة أو خطل فى أحيان، يضيع السؤال الأهم: كيف ينتصر الفلسطينيون، الشعب الأكثر بسالة وصمودا وإصرارا على التحرر فى عالم اليوم؟ لحظة الحرب والمذبحة ليست هى لحظة التأمل فى الخيارات الاستراتيجية ومأزقها. إنها لحظة التضامن والدعم بكل ما فى الوسع والإمكان، وإلا فلنصمت. أما أولئك بيننا الذين رأوا فيها لحظة مناسبة للافاضة المتعالمة فى مثالب حماس أوغيرها من المنظمات السياسية الفسطينية فالأكثرهم أجندات لا صلة لها بمصلحة الشعب الفلسطينى وبتوقه للتحرر، والآن وقد توقفت آلة القتل والتدمير ولو إلى حين، فلربما آن أوان طرح السؤال مع الإقرار المسبق بأن ليس فى وسعنا، أو من حقنا، تقديم الإجابة الشافية عنه، ليس فقط بحكم الجنسية أو الابتعاد عن أرض المعركة، ولكن، وفى المحل الأول، لأن الإجابة على سؤال الاستراتيجية تقدمها الشعوب المناضلة فى سياق نضالها، ولا يقدمها كاتب ما، أى من كان، ويصدق هذا فى حالة الثورة الفلسطينية كما فى حالة الثورة المصرية، وعنوان المأزق الاستراتيجى يضمهما بعمق، بقدر ما تضمهما البطولة والتضحية وتوق لا يلين للحرية. استخدمت عن قصد فى عنوان هذا المقال عبارة انزوت منذ زمن، ألا وهى عبارة الثورة الفسلطينية، وكانت قد خرجت كالعنقاء من رماد هزيمة يونيو 67 محلقة فى السماء العربية تملؤها أملا وإصرارا على الصمود ومواصلة مسيرة التحرر. ويعود مسعاى لإعادة الاعتبار لمقولة الثورة الفلسطينية لسببين أساسيين، أولهما أن زمن الثورة قد عاد إلى الأرض العربية بعد طول خمود وانكسار، وأظن أنه باق رغم عنفوان وضراوة الثورة المضادة بمختلف أصنافها الدينية وغير الدينية، وأرى فيما تتسم به هذه من همجية وجنون سكرات موت وليس علامات حياة. أما السبب الثانى والأهم، فيعود لأن مقولة الثورة تنطوى ضمنا وإجبارا على تحققها، أى انتصارها، أما مقولة المقاومة، على الأقل فى استخدامها الشائع بيننا منذ بضعة عقود، فقد صارت تطرح كمجرد معادل للانكسار والاستسلام، وهى من ثم قد تكون مقاومة يائسة أو مقاومة انتحارية (على طريقة على وعلى أعدائى) أو مقاومة لا تؤخر ولا تقدم أو تؤخر ولا تقدم. المقاومة فى ذاتها تعبير عن إرادة شعب وصموده واستبساله، أما توجهها ورؤاها وطرائقها فتصوغها قوى سياسية وأيديولوجية تضطلع بقيادتها، وفقا لمقتضيات شديدة التنوع والتعقيد، وقد تدفع بالمقاومة إلى أمام، أو ترديها فى مقتل. إرادة المقاومة جديرة تماما بالتمجيد، أما طريقها فهو موضوع للنقد والنقد الذاتى والمراجعة والمحاسبة، ومعياره الجوهرى هو السير قدما بهدف التحرير. البندقية الفلسطينية هى العنوان الأول للثورة الفلسطينية، ولمولد حركة فتح بقيادة ياسر عرفات فى منتصف الستينيات. وحتى لحظتها كانت الرؤية الاستراتيجية للتحرير الوطنى الفلسطينى متجسدة فى مشاركة الشعب الفلسطينى فى الشتات العربى فى تحقيق الثورة العربية، وبظفرها وتحقيق الوحدة العربية الشاملة تحين ساعة التحرير. وكانت حركة القوميين العرب (متحالفة مع مصر عبدالناصر) هى التيار الفكرى والسياسى الأهم اطلاقا بين صفوف الشعب الفلسطينى. تأخرت ساعة الصفر، فنشأت حركة فتح لتطرح رؤية استراتيجية بديلة، وهى أن الكفاح المسلح الفلسطينى من ِشأنه أن يلعب دور المفجر لكل من الثورة العربية ولساعة التحرير على أيدى الجيوش العربية، فلم يعد الانتظار ممكنا، وبات على الفلسطينيين أنفسهم أخذ زمام المبادرة، وهى التى طورت بعد هزيمة 67، لتطرح الثورة الفلسطينية كطليعة للثورة العربية. حركة القوميين العرب بدورها كانت بصدد الانعطاف يسارا، لينشأ فى صفوفها تيار جديد يتمايز عن الناصرية ويتوجه نحو الماركسية، أبرز رموزه نايف حواتمة (فلسطين)، محسن ابراهيم (لبنان) وعبد الفتاح إسماعيل (عدن)، وذلك فى زمن تقدم فيه الثورة الفيتنامية والكوبية نموذجين لطريق مختلف للتحرير، يضع الكفاح الشعبى المسلح فى موقع الصدارة، فى ظل لحظة تاريخية تشهد انبعاثا جديدا لليسار فى أنحاء العالم، بما فيه البلدان الرأسمالية المتقدمة. على هذه الخلفية تجىء هزيمة يونيو، وصدمتها العاتية، لتنبثق منها رؤية استراتيجية فيها الصريح وفيها الضمنى (المصرح به أحيانا). الصريح هو الكفاح الشعبى المسلح طويل الأمد حتى التحرير، ونموذجه الأتم كفاح الشعب الفيتنامي. أما الضمنى (المصرح به أحيانا) فهو التعامل مع أرض دول الجوار الأضعف والأكثر هشاشة (الأردن ثم لبنان)، كأرض محررة وكقاعدة إنطلاق للعمل المسلح ضد العدو (فيتنام الشمالية نموذجا). واقع الحال أن الوجود الفلسطينى المسلح كان من شأنه حتما أن يخلق وضعا من إزدواج السلطة قوامه التوازن بين السلطة المسلحة للمقاومة الفلسطينية من جهة، وسلطة الدولة المضيفة بما تملكه من قوى قسر وهيمنة وعلاقات أقليمية ودولية، من جهة أخرى، فكان ازدواجا يبحث عن حسم. أما الهدف الاستراتيجى النهائي، فأعيد صياغته فى شعار الدولة الديمقراطية العلمانية على كامل الأرض الفلسطينية، وقوامها المواطنة المتكافئة لشعب من المسلمين والمسيحيين واليهود، وهو ما عكس تلمسا لحقيقة أن شرطا ضروريا لانتصار الثورة الفلسطينية هو كسب تعاطف أو قبول كتلة حرجة من سكان إسرائيل، فضلا عن الرأى العام العالمى، ولم يكن أيهما ليقبل بالإلقاء باليهود فى البحر، كما كانت تطنطن الإذاعات العربية قبلها. وكان أن واجهت هذه الاستراتيجية مأزقا مستحكما على كافة الأصعدة، نواصل نقاشه فى مقالات قادمة. لمزيد من مقالات هانى شكرالله