رمزية البندقية الفلسطينية تحفل بالمعاني، جسدتها صورة الفدائى الملثم بالحطة الفلسطينية حاملا بندقيته الآلية، الكلاشنكوف. بالكلاشن تحول الفلسطينيون من لاجئين مغلوبين على أمرهم، وموضوع قضية إنسانية تعنى بها منظمات الأممالمتحدة (وبخاصة الأنروا) إلى شعب مناضل متمسك بهويته الوطنية مؤكدا لها، صاحب قضية تحرر وطنى أعاد فرضها فرضا على العالم بأسره. ولعلنا لا نبالغ إذ نقول أن البندقية الفلسطينية عقب يونيو 76 أعادت صناعة الهوية الوطنية الفلسطينية نفسها. غير أن لكل اختيار ضريبته، فى استراتيجيات الثورات كما فى حياة الأفراد، ولا يعنى ذلك بالضرورة سوء الاختيار أو البحث العبثى عن اختيار بلا ثمن، ولكن الوعى بالضريبة المدفوعة والعمل على تقليل آثارها ومحاصرتها إلى أقصى حد ممكن. تعددت عناصر ضريبة البندقية الفلسطينية وما ارتبط بها من استراتيجية للتحرير تناولت بعضا من ملامحها الرئيسية فى المقالات السابقة، ولكنه ضرب من الحماقة أو الانهزامية الدعوى بخطأ الاختيار نفسه، وهو بالمناسبة يذكر بمن يراجعون هذه الأيام مشاركة ثوار يناير فى مصر فى الموجة الثورية الكبرى فى 30 يونيو. السؤال الواجب هنا ليس فى صحة الاختيار، ولكن فى القدرة على معالجة ومحاصرة ما ترتب عليه من ضرائب. قدر للثورة الفلسطينية أن تدفع ثمن بندقيتها مضاعفا، فى الاعتماد الكبير على الدعم العربي، خليجيا فى المحل الأول فيما يتعلق بحركة فتح ومنظمة التحرير، وممن أطلق عليهم الدول الراديكالية العربية فى حالة اليسار الفلسطينى (عراق صدام، وليبيا القذافي، وسوريا الأسد)، وكان لكلا المصدرين الأساسيين للدعم أثمان باهظة ما لبثت الثورة الفلسطينية تدفعها حتى يومنا. عسكرة النضال الوطنى الفلسطينى كانت بدورها ثمنا لخيار البندقية الفلسطينية، ومع العسكرة تأتى البقرطة ويأتى اضعاف وتقليص الديمقراطية الداخلية فى المنظمات وفى الحركة الثورية بوجه عام، وهذه تبقى شرطا ضروريا لحيوية نضال ثورى أساسه هو الاختيار الطوعى لأوسع الناس. ومعها أيضا تبرز أخطار الفساد والإفساد، وينفتح المجال لمغامرات شديدة الضرر بالثورة وبمسيرتها من نوع خطف الطائرات وغيرها من الأعمال ذات الطابع الإرهابي، وهى التى تورط فيها بالذات جناح من الجبهة الشعبية بقيادة الراحل وديع حداد. كما كان ضعف الاهتمام بالنضال السياسى الجماهيرى تحت الاحتلال بدوره أحد المثالب المهمة لخيار استراتيجى قوامه الأساسى إطلاقا هو بناء القوى المسلحة للثورة الفلسطينية فى بلدان الهجرة المجاورة، والدفاع عنها. وقد اقتصرت هذه على لبنان بعد تصفيتها المبكرة فى الأردن، وليس بلا مغزى أن تندلع الانتفاضة الأولى (انتفاضة الحجارة) فى الأرض المحتلة عام 87. وفى الواقع، كانت استراتيجية حرب الشعب طويلة الأمد كطريق للتحرير قد وصلت إلى طريق مسدود قبل ذلك التاريخ بسنوات. فسرعان ما تبين استحالة استخدام الجنوب اللبنانى منطلقا للعمل المسلح الفلسطينى ضد الاحتلال، بسبب الضيق الشديد للمساحة الجغرافية المتاحة، مما مكن إسرائيل من تحصينها تحصينا منيعا، وفى الأساس نتيجة للاستراتيجية الإسرائيلية الثابتة فى مجابهة المقاتلين الفلسطينيين لا بالمواجهة العسكرية معهم، ولكن من خلال قتل أكبر عدد ممكن من المدنيين الذين يعيش المقاتلون فى كنفهم، والتدمير الشامل لمدنهم وقراهم ووسائل عيشهم. وكانت قد برزت رؤية استراتيجية جديدة لطريق التحرير عقب أيلول الأسود فى الأردن (سبتمبر70)، دشنها نايف حواتمة قائد الجبهة الديمقراطية فى سلسلة مقالات نشرت عام 71 فى مجلة الحرية الصادرة عن الجبهة ببيروت، بتوقيع يسارى فلسطيني. دعا حواتمة لتبنى استراتيجية ما أسماه بالحل المرحلي،داعيا لإقامة سلطة وطنية فلسطينية على أى شبر يتم تحريره من أرض فلسطين، وكان من الواضح أنه يقصد تحديدا الضفة الغربية وغزة، وهى التى يستند تحريرها إلى مشروعية دولية قوامها قرار التقسيم وقرارى مجلس الأمن 242 و338، الذان قضيا بانسحاب إسرائيل من الأراضى المحتلة بعد حرب يونيو 67. وبهذا ذهب حواتمة إلى الدفع باتجاه استراتيجية جديدة تربط بين العمل الفلسطينى المسلح واستخدام الأدوات الدبلوماسية العربية والدولية بهدف تحرير الضفة وغزة وإقامة سلطة فلسطينية على أراضيها، ومن ثم تأجيل هدف الدولة الديمقراطية العلمانية على كامل أرض فلسطين لمرحلة استراتيجية لاحقة. أثارت دعوة حواتمة صراعات أيديولوجية وسياسية حادة فى صفوف قوى الثورة الفلسطينية وفى محيطها العربي، فى حين تبناها ياسر عرفات ومنظمته الكبرى، فتح، دون إعلان صريح فى بداية الأمر. غير أن حرب أكتوبر 73 أعطت تلك الاستراتيجية زخما هائلا، حيث بدت ممكنة التحقيق فى المدى المباشر استنادا للإنجازات العسكرية للحرب، وللحراك الدبلوماسى الكثيف الذى ترتب عليها، ولحالة التضامن العربى التى ارتبطت بها، بما فى ذلك استخدام البترول سلاحا للضغط على الولاياتالمتحدة والغرب. فى ظل هذه التطورات تمت اعادة صياغة فعلية، إن لم يصرح بها، لدور وموقع القوة الفلسطينية المسلحة، حيث لم تعد فى المحل الأول أداة للتحرير من خلال العمل المسلح طويل الأمد ولكن تجسيدا وتأكيدا للإرادة السياسية الفلسطينية وأداة ضغط فى المفاوضات السياسية الجارية. من تحصيل الحاصل أن رياح ما بعد أكتوبر لم تأت بما اشتهته السفن الفلسطينية، ونستكمل. لمزيد من مقالات هانى شكرالله