يمر العالم العربى حاليا بمرحلة تحول انتقالى بالغة الصعوبة والتعقيد تتشابك فيها التحولات العالمية والدولية مع المتغيرات المحلية السياسية والاقتصادية والثقافية. ويتم ذلك فى مشهد عربى بانورامى يزخر بالتناقضات حيث يتزامن القديم والجديد والوافد والموروث دون تفاعل حقيقى وتهيمن فيه السياسة على الثقافة وتتسع الفجوة بين التقليدى والعصرى فى مختلف مجالات الحياة وتخضع فى مجمله لطغيان الثقافة الاستهلاكية التى تمارسها القوى العالمية المسيطرة على وسائل الإعلام المرئى والمسموع وتساندها الحكومات العربية التى لا تزال تحكم قبضتها على وسائل الإعلام من حيث السياسات ومصادر المعلومات وملكية وسائل الإعلام وتشريعيا من خلال ترسانة قانونية محكمة. ورغم التحسن النسبى فى أوضاع حرية الصحافة فى بعض الدول العربية استجابة للضغوط الداخلية أحياناً وللخارجية غالباً إذ اتسعت هوامش حرية الرأى فى العديد من الصحف العربية فى إطار الأفق الرحب الذى اتاحته الفضائيات لكن يظل هذا التحسن النسبى محدوداً. فهناك صراع دائم بين تيار الإصلاح المطالب بإطلاق الحريات خصوصاً حرية الصحافة وبين التيار المعادى للحريات والمتغلغل داخل نسيج النظم العربية الحاكمة الذى يسعى بدأب لتشديد القبضة الحديدية على حرية الصحافة والإعلام بحجة حرمان الإرهابيين من الدخول للرأى العام أو بذريعة حماية الأمن القومى. والواقع أنه لا يمكن للإعلام أن يقوم بدوره التنويرى سياسياً وثقافياً واجتماعياً دون إطار ثقافى – اجتماعى يساعد على ترسيخ قيم الممارسة الديمقراطية ومبادئها – هذا ويشير المشهد الثقافى فى العالم العربى إلى وجود ثلاثة أنواع من الثقافات تتداخل وتتلاقح: 1- ثقافة الخضوع والاستكانة الناتجة عن الطبيعة الأبوية السلطوية للمجتمع العربى البطريركى. 2- ثقافة التبعية التى تكرس التقليد والاقتباس من الثقافة الغربية بشقيها الأنجلوفونى والفرانكوفونى وتسود هذه الثقافة بين النخب السياسية والثقافية وتترسخ من خلال وسائل الإعلام المرئى والمقروء والمسموع. 3- ثقافة المشاركة التى تعد ركيزة اساسية للممارسة الديمقراطية وتشهد تراجعاً ملحوظاً فى العالم العربى. وهذا يعنى أن أنماط الثقافة السائدة تسير فى اتجاه لا يشجع الممارسة الديمقراطية الحقيقية بل يساند الممارسة السياسية والإعلامية التى تقوم على التعددية الشكلية والتى لا تسعى إلى ترسيخ حقوق المواطنة السياسية والثقافية والإعلامية. وهنا يجب التنبيه إلى ضرورة حماية الثقافة ذاتها من سطوة السوق وسيادة الطابع الاستهلاكى التجارى ومحاولات المستثمرين ورجال المال الذين يسعون إلى تسليع الثقافة من خلال المسلسلات والمنوعات والإعلانات وتهميش الثقافات الجادة، وتضاف إلى ذلك التحديات المعلوماتية التى تشير إلى تدفق المعلومات فى العالم العربى لا يزيد عن كونه حقيقة تكنولوجية أكثر من حقيقة ثقافية واجتماعية فالمعلومات لا تصل للجموع العريضة من المواطنين فى الريف والحضر بسبب انتشار الفقر والأمية والقيود الأمنية والحكومية ولذلك يعتبر التدفق الحر للمعلومات وسيلة لتدعيم الصمت لدى غالبية الشعوب العربية الذين يلجأون إلى البرامج الرياضية والترفيهية وسائر أشكال التخدير وتزييف الوعى مثل البرامج الحوارية التى يتحرك معظمها فى دائرة المسموحات الأمنية ومصالح رجال المال. وتجسد الإنترنت جُماع التناقضات والمزايا التى تميز عصر المعلومات، فقد حققت الانتشار والتفوق على جميع الوسائل الإعلامية الأخرى ولكن الواقع كشف عن كثير من المخاطر المستحدثة مثل الفجوة الرقمية التى تتوج الفجوات الاجتماعية والثقافية فضلاً عن الإرهاب الرمزى والابتزاز المعلوماتى وطغيان النزعة الترفيهية وترويج الأفكار العنصرية والتعصب الدينى ولعل أخطر شئ استخدام الانترنت فى الترويج للإرهاب (6000 موقع يروج للإرهاب و900 موقع جديد سنوياً) وتشير الدراسات إلى أن الشعوب العربية لا تزال تشغل مواقع المستهلكين للمنتجات المعلوماتية الغربية بسبب غياب البنية التحتية المعلوماتية فى مجالات التعليم والتدريب والبحث العلمى كما أن عمليات نقل التكنولوجيا الاتصالية لم يستفد منها سوى رجال البنوك والتكنوقراط والمعلنين علاوة على تمركز وسائل الإعلام فى العواصم وحرمان أهالى الريف والبوادى من الصحف مع ندرة الإذاعات المسموعة والمرئية فى الأطراف والمناطق النائية. ولا يمكن إغفال أزمة الإعلاميين العرب والتى ترجع إلى غياب برامج التأهيل والتدريب وغياب الديمقراطية داخل المؤسسات الإعلامية وإنتشار الشللية وعدم توافر وتفعيل ضمانات ممارسة المهنة (التشريعات والقوانين ومواثيق الشرف) مضافاً إلى ذلك التأثير السلبى للإعلانات والمعلنين وضعف النقابات الإعلامية أو غيابها، وهناك غياب الإعلام المعبر عن منظمات المجتمع المدنى بسبب ضعف هذه التنظيمات وتبعيتها للحكومات العربية وغياب المفهوم التنموى للعمل الأهلى وعدم قدرة العاملين فى هذا المجال على تجاوز الطابع الدعائى للإعلام عن أنشطتهم. والسؤال المطروح ما العمل لمواجهة هذه التحديات التى تحاصر الإعلام العربى وتحول دون تفعيل حق المعرفة للمواطنين؟ لا شك أننا فى حاجة إلى نشر وتفعيل ثقافة المشاركة فى جميع مجالات الحياة فى العالم العربى بدءاً بالأسرة والمؤسسات التعليمية والثقافية والإعلامية. لمزيد من مقالات د. عواطف عبدالرحمن