هذا الرجل الجليل الذي تعرفت عليه في أكثر من بلد, بل في أكثر من قارة, وكنت أصغي إلي كلامه بحب, لأنه كان يعتمد علي الحكمة القائلة: إذا أردت أن يستمع الناس إليك فكن مختصرا فيما تريد أن تقول. كان يشفق علي مستمعيه فلا يطيل عليهم, يهمه فقط أن يبلغ الرسالة في وضوح وجلاء, حضرت له ذات يوم صلاة جمعة في الأزهر الشريف فتقدم إليه أحد الحاضرين الذين سلموا عليه, يقول له: خطبك قصيرة يا مولانا فلو كنت تطيلها؟ أجابه الشيخ علي الفور: عندما تعملون بما سمعتم اطلبوا المزيد!!. كنا نستمع إليه في مجالس رمضان بالمغرب بحضرة العاهل المغربي... كان كلامه في غاية الاختصار, وفي غاية الوضوح ولكنه في قمة الدلالة, والهدف... وتشعر بأن الرجل كان يهدف فعلا إلي الاكتفاء بابلاغ فكرة إسداء نصح, ولهذا فان الشيخ طنطاوي كان عند الناس صفحة مقروءة الكلمات, مشكولة المفردات, منقوطة الحروف! التقيت به في آسيا في عدد من المرات ولاسيما في ماليزيا واجتمعت به في أوروبا ولاسيما في لندن, وفي إفريقيا ولاسيما في السنغال. كان الرجل هو هو بعمته الأزهرية التي تحمل معها الطهر والفضل والتواضع, ببسمته المعهودة التي تحمل معها كل البشاير... عرفته علي بناتي, وعلي حفيداتي, وكان علي أن أفعل لأنني كنت حريصا علي أن يتعرف هذا الجيل علي رجال في حجم الشيخ طنطاوي, ينتسب إلي معقل جغرافي كبير هو الأزهر, منارة الدنيا, لاسيما وأنا الأب والجد أنتمي لجامع القرويين بفاس التي كان لها وسيبقي مع الأزهر, تاريخ لا تبليه الأيام..! أخذت علي نفسي زيارته كلما وجدتني بالقاهرة وخاصة عند أعمال مجمع اللغة العربية التي تصادف ربيع كل عام... يكون ذلك اعترافا بالجميل لفضيلة الشيخ الذي يسعدني بزيارة بيتي كلما ألم بالمغرب في المناسبات والمواسم... كنت أتعمد إحضار أبنائي وبناتي بل وحفيداتي كما أشرت لأعرفهم علي جيل الشيخ وليسمعوا عن اهتمامات الشيخ الذين يعرفون عن فتاويه وتصريحاته, ويرون صورته بعمامته الأزهرية, من خلال أجهزة الإعلام المرئية والمقروءة والمسموعة, كانوا يجدون فيه مثال الرجل المستنير المتفتح البصير.. كانوا يستمعون إلي آرائه بكثير من العناية... زرته ذات مرة بمكتبه في الأزهر وبمعيتي حفيدتي( اسمهان) التي تهيبت أول الأمر أن تقتحم علي الشيخ مكتبه الذي كان يعج بالزوار من كل جهات الدنيا, لكنها فوجئت بأنها تجد نفسها أمام أب عطوف خلوق, أمام استاذ كبير ومتواضع أيضا يشاركها هوايتها الصحفية ويدخل معها أجواء الصحافة ونوادر الصحفيين, وما أزال أذكر كيف أن الحديث وهو ذو شجون كما نعرف قفز بنا إلي موضوع البدع, وإلي ذكر كتاب( المدخل) الذي ألفه العالم المغربي ابن الحاج أثناء إقامته بمصر, حيث استحضر الشيخ هذا الكتاب الذي غير مجري الحديث إلي ما طرأ علي هذا العالم من تطور وتغير... كنت مدينا لصديقنا الراحل رحمه الله بالحصول علي نسخة من كتاب المفهم لما أشكل من تلخيص صحيح مسلم لأبي العباس أحمد بن عمر الأنصاري القرطبي دفين الإسكندرية عام656 1258. كانت النسخة نادرة وجاءت ندرتها من أنها كانت بخط الرحالة المغربي ابن بطوطة الذي اكتشفنا أنه كان عام727 ه1327 م بدمشق بالمدرسة العزيزية... كان بدمشق في ضيافة الشيخ نورالدين السخاوي, وليس في جنوبإيران, في أصفهان كما روي الناس خطأ عما نشر في غابر الأزمان!! كما كنا نعرفه خطأ من ترتيب رحلة ابن بطوطة الذي اتضح بعد الوقوف علي مخطوط الأزهر أنه ترتيب غلط وقع فيه الكاتب ابن جزي ناسخ رحلة ابن بطوطة! كان يروقني في شيخ الأزهر إلي جانب علمه ووقاره وهيبة مجلسه, كان يتوفر علي قدر كبير من الأريحية والدعابة والمرح شأن كبار العلماء والمشايخ ممن كانوا لا يرون فائدة لمجالسهم إذا لم تكن مصحوبة بنكتة أو طرفة يجددون بها نشاط الطلاب الذين يكونون بحاجة, بين الفينة والأخري, إلي ذكر ما يحلو... والاشارة هنا إلي قول الشاعر كيف أسلو!!. كنا نتبادل النكت خفيفها وكثيفها, رقيقها وغليظها! وأحيانا تساق النكت بأساليب لا يشعر بها من حوالينا!! واللبيب تكفيه الإشارة كما يقول مشايخنا! عشرات هي الدوائر التي كانت تستوقفنا في لقاءاتنا وخاصة منها ما يقع في بعض المجالس العلمية بين المبتدئين من الطلاب وبين أساتذتهم الذين يفاجئون ببعض الفهوم الغريبة العجيبة, كما يفاجأون أيضا بأصوات بعض طلابهم الذين كانوا يختفون وراء صمتهم!! حكيت له ذات يوم عن السيدة التي اشتكت زوجها لأحد القضاة, كان زوجها يعنفها! وأظهر له أثر العنف علي جسمها, ما دعا القاضي لاحضار الزوج الذي أخذ يشكو, بدوره, من نشوز زوجته التي رأي أن يطبق عليها ما ورد في القرآن الذي يأذن للزوج أن يعض زوجته الناشز..! لقد فهم الزوج أن الأمر في الآية لا يتعلق بالوعظ, ولكنه يتعلق بالعض, فأخذ يعض, مما سبب للزوجة ما سبب!! وقد حكي لي هو بالمقابل حكاية من هذا النوع وكنا علي مائدة عشاء في بيت السفير المصري بالمغرب. حكي لنا عن فترة من أيام حكم الرئيس عبدالناصر... حكي عن مرحلة قام فيها الرئيس ببعض الاصلاحات في الادارة المصرية عندما قام بعملية سميت وقتها بعملية العزل, بمعني أن الرئيس أعطي تعليماته بأن يعزل عددا من الموظفين الذين لا يحسنون أداء وظيفتهم...! أو كما قال! حينئذ رأي بعض المذيعين, أظن في( صوت العرب), أن يعزز رأي السيد الرئيس في قراره, فساق حديثا ورد علي هذه الصيغة: كنا نعزل علي عهد رسول الله..! لقد فهم المذيع أن العزل الذي يقصد الرئيس هو العزل الذي أمر به النبي عليه السلام, والذي هو شيء آخر لا يمت بصلة للعزل الذي أرادته الحكومة المصرية! وقد أضحكنا هذا الفهم العجيب الغريب مما فتح الشهية لإيراد قصص ملعونة الأمر الذي أجاب عنه شيخنا بقصص ألعن!! وكل هذا كان يتم والشيخ علي ما هو عليه من ضبط نفس ورباطة جأش, حاضر بكل ما تدل عليه كلمة الحضور من معني, وكانت الأحداث لا تقرأ علي وجهه, فهو ضابط لنفسه, مالك لأعصابه متحكم في قسمات وجهه... إن ما جمعته عن أستاذنا الجليل من ممتع القول وجميل الكلام يتجاوز هذه المساحة من الورق بكثير, وحسبي أن أقول هنا إن الرجل كان خفيف الدم, خفيف الروح والظل, في الوقت الذي كان فيه شديدا في قول الحق, قويا في الدفاع عما يؤمن بأنه حق, غير هياب من الذين ينتقدونه, يعتقد أنهم يعبرون عن وجهة نظر لهم تخصهم من قريب أو بعيد مرددا في كل هذا نصيحة ابن سعيد الذي اقتبس منها الشاعر الفرنسي الشهير لافونطين قصته الشهيرة.. القصة تتلخص في أن رجلا من عقلاء القوم, كان له ولد, فقال له يوما: يا أبي! ما للناس ينتقدون عليك أشياء وأنت عاقل؟ ولو سعيت في مجانبة تلك الأشياء سلمت من نقدهم, فقال: يا بني! أنت لم تجرب الأمور! إن إرضاء الناس جميعهم غاية لا تدرك, وأنا أوقفك علي حقيقة ذلك, وكان عنده حمار, فقال له: اركب هذا الحمار وأنا أتبعك ماشيا, فبينما هما كذلك, إذ قال رجل: انظر, ما أقل أدب هذا الغلام... يركب ويمشي أبوه! وحينئذ قال له والده, انزل سأركب أنا, وامش أنت خلفي, فقال شخص ثان: انظر هذا الشخص, ما أقل شفقته! ركب وترك ابنه يمشي! فقال له والده: اركب معي, فقال شخص ثالث: أشقاهما الله تعالي! انظر كيف ركبا علي الحمار وكان في واحد منهما كفاية! فقال الوالد: انزل بنا, وقدما الحمار أمامهما وليس عليه راكب! فقال شخص رابع: لا خفف الله تعالي عنهما, انظر, كيف تركا الحمار فارغا وجعلا يمشيان خلفه! فقال يا بني, سمعت كلامهم, وعلمت أن أحدا لا يسلم من اعتراض الناس علي أي حال كان! رحم الله أخانا الدكتور محمد سيد طنطاوي, وأعان خلفه العلامة الجليل الشيخ الطيب علي تحمل العبء الذي كان يذكرنا دائما بنصيحة ابن سعيد ومن سار علي درب ابن سعيد..