إن تحولات الواقع الثقافي العربي ما هي إلا صدى لتحولات الثقافة الغربية, لكن «بالضرورة» هناك مفارقة بين التحولات التي تجري في الواقع العربي, والتحولات التي تجري في الغرب, ذلك أن تحولات الغرب رد فعل للتحول الحضاري والثقافي, بينما التحولات العربية مجرد نقل لتحولات الغرب, وربما يفسر لنا ذلك كيف أن مراحل التحول في العالم العربي لم تبدأ إلا بعد انتهاء زمنها في الغرب, وهو ما يدعونا إلى متابعة المساحة الزمنية لهذه التحولات هنا وهناك لتوثيق مقولة أننا كنا نقلة لا مبتكرين. بدأت (الكلاسيكية) في الغرب مع عصر النهضة القرنين الخامس عشر والسادس عشر الميلاديين, واستمرت سيطرتها الإبداعية والنقدية حتى قامت (الرومانتيكية) على أنقاضها في القرن الثامن عشر واستمرت سيطرتها إلى القرن التاسع عشر, حيث جاءت (الواقعية) في نهاية القرن, واستمرت إلى أوائل القرن العشرين, ومع بداية هذه القرن فرضت (الحداثة) حضورها إلى منتصف الأربعينيات , لتبدأ مرحلة (ما بعد الحداثة) باسطة نفوذها إلى زمن التسعينيات من القرن العشرين, إذ في هذا الزمن ظهرت مرحلة طارئة مجاوزة ما سبقها من مراحل, هي مرحلة: (بعد ما بعد الحداثة) التي استمرت حتى لحظة الحاضر. أما في العالم العربي فقد بدأت (الكلاسيكية) بعد غيابها في الغرب, أي في أخريات القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين, ثم جاءت (الرومانتيكية) في عشرينيات القرن واستمرت سيطرتها الإبداعية والنقدية حتى منتصف الأربعينيات , لتتدخل (الواقعية) باسطة سيطرتها حتى بداية السبعينيات, حيث فرضت (الحداثة) حضورها إلى بداية التسعينيات, وتزاحمها في سلطتها مرحلة (ما بعد الحداثة) التي مازالت مسيطرة حتى لحظة الحاضر, أي أن الواقع العربي لم يدخل بعد مرحلة (بعد ما بعد الحداثة). ولابد أن نعي أن هذا التحديد الزمني هنا وهناك, تحديد تقريبي , إذ إن المراحل تتداخل أحيانا, كما أن كل مرحلة كانت تحمل إرهاصا بالمرحلة القادمة. والمهم أن مجمل هذه التحولات في الغرب كانت صدى للتحول الحضاري والثقافي كما سبق أن ذكرت إذ جاءت الكلاسيكية مع عصر النهضة الأوروبية التي قامت على إحياء التراثين: اليوناني والروماني, مع الاحتكام للعقل المنطقي وفصل الأجناس بخواصها الفارقة, ثم جاءت الرومانتيكية صدى للثورة الصناعية, وإعلاء الذات الفردية, والاحتكام للعاطفة, ثم تبعتها الواقعية بوصفها صدى للثورة العلمية وتوابعها الحضارية والثقافية لكشف سلبيات الواقع. لقد بدأت الحداثة (modernis) في الغرب مع نهاية القرن التاسع عشر, واستمر حضورها الفاعل حتى منتصف الأربعينيات تقريبا, وكانت بدايتها موازية لرفض الواقع الذي وازاه إبداع يعتمد المحاكاة والمماثلة, لأن العقيدة الجمالية الحداثية ترى أن للإبداع عالمه الخاص, وخصوصيته تكمن في تنافيه مع هذا الواقع, ومع هذا التنافي, ازدادت ملامح الشؤم من ناحية, وتفككت عناصر الواقع المركزية من ناحية أخرى, ثم خضع كل ذلك للشك في منجزات العلم الحديث التي أصبحت صاحبة السلطة في العالم الجديد, ومن هنا تعددت وجهات النظر, ومال الوعي الإنساني إلى (النسبية), وابتعد قدر الإمكان عن (المطلق والكلي والعام). وصاحبت الحداثة كل هذه التحولات وتوابعها التنفيذية حتى وصلت إلى ما يمكن أن نسميه: (أزمة) داخل الحداثة بين الواقع بكل محمولاته الفكرية والنفسية, وبين التطلعات المستقبلية بكل خصوصيتها المأمولة, وأخذت ملامح الأزمة في الظهور في كثير من الإحباط الذي سيطر على (جيل 1968), الذي رفض مجمل المواضعات الفنية والأدبية التي صاحبتهما منذ أخريات القرن التاسع عشر . لا شك أن هذه التحولات , كانت بمثابة تمهيد لمرحلة قادمة, هي: (ما بعد الحداثة): (postmodernism), وكانت ملامح هذه المرحلة آخذة في التجلي منذ منتصف الأربعينيات من القرن العشرين, واستمرت صاحبة السيادة الثقافية حتى زمن التسعينيات, ويؤرخ البعض لظهور هذه المرحلة بظهور (التفكيكية) وتردُد مقولات (دريدا) عن تجدد المعنى النصي مع كل قراءة, بل نظر إلى القراءة الجديدة بوصفها تفسيرا آخر للنص, مع صعوبة الوصول إلى المعنى النهائي (الذي يحسن الوقوف عليه ) كما يقول البلاغيون العرب -, وتبع ذلك فك الارتباط بين اللغة ومرجعها الخارجي والمعجمي, ومن ثم ساد (الشك والاختلاف والإرجاء) ليكون ذلك كله علامة واضحة على مرحلة ما بعد الحداثة . لمزيد من مقالات د.محمد عبدالمطلب