في تاريخنا الثقافي الحديث أسماء عديدة من الكتاب والشعراء والنقاد، كان لهم تأثيرهم في ازدهار الأدب والفن، مثل محمد مفيد الشوباشي، الذي لا يستطيع المؤرخ الموضوعي أن يتخطاه، أو ألا يقف بتقدير بالغ أمام أعماله الأدبية والنقدية، التي نعرض لها في هذا المقال. يرتبط اسم محمد مفيد الشوباشي (1899 – 1984) في تاريخ الثقافة المصرية، بالمدرسة الواقعية في النقد والإبداع، التي نشأت في الأربعينيات، تحت تأثير الحركة الوطنية المشتعلة، والدعوة إلي الاشتراكية، والديمقراطية، والحرية. ومحمد مفيد الشوباشي لا يعتبر وحسب من أوائل دعاة هذه المدرسة، وإنما يعتبر أيضا، بما كتبه وترجمه، أحد المنظرين الأساسيين لها، وأكثرهم تمسكا بمنهجه، في مواجهة التيارات الكلاسيكية والمثالية والمحدثة، التي سادت الحركة الثقافية في هذه المرحلة، ولو أن تاريخ الواقعية في الأدب يرجع إلي القرن التاسع عشر. وقبل أن نتعرف علي هذا المنهج، أود أن أنقل لكم بضعة سطور من مقال للكاتب والشاعر عبدالرحمن الخميسي، وكان من أقرب المقربين إلي الشوباشي، كتبه تعليقا علي رواية الشوباشي «الخيط الأبيض»، ونشره في جريدة الجمهورية في 28 نوفمبر 1963، تحت عنوان «الكفاح من أجل التحرر الفكري» يقول فيها: «يعلم كل متشيع أمين لنهضتنا الأدبية الحديثة، مدي مؤازرة الأستاذ محمد مفيد الشوباشي لذلك التطور.. فهو من الناحية التاريخية، أول من نادي في مقالاته النقدية الأدبية المعروفة المنشورة في مختلف الصحف والمجلات، بأدب مستقل ينبع من واقعنا، ويستهدف تطوير ذلك الواقع، ويعاونه علي شق طريق التقدم، بل إنه يعتبر أول من أرسي المذهب الواقعي عندنا علي أسس علمية، وشيد منه صرحا متكاملا واضح المعالم..» أبرز معالم هذا الصرح تحرير الثقافة العربية من خطرين داهمين: خطر محاكاة التراث القديم، وخطر احتذاء الثقافة الغربية. وبذلك كسر الشوباشي عبادة الماضي الذي يجثم علي صدر الوطني، أو تقديس القدماء، مثلما كسر التبعية للغرب، دون قطيعة مع الاثنين، لما يحويه كل منهما من قيم نافعة للحاضر والمستقبل، تساعد علي فهم الذات، وشحذ الخصوصية، والسمو بالإنسان. ومن هنا نادي الشوباشي بنشر ذخائر التراث العربي، والتوسع في نقل المؤلفات الأجنبية إلي اللغة العربية. وتحرير الثقافة عند الشوباشي لا ينفصل عن التحرير السياسي والتحرير الاقتصادي، لأن من كانت تقاليده ومقاديره في قبضة غيره، سواء من الأسلاف أو الأجانب، فقد القدرة علي امتلاك خصوصيته القومية، وفشل في التعبير عنها، إضافة إلي أن التطور الفكري لا يمضي قط بمعزل عن التطور المادي، أو عن حضارة العصر. لابد إذن للإبداع أن يصدر عن الشخصية القومية، وعن الظروف الموضوعية المتطورة للمجتمع، لا يتغلب فيه الشكل علي الموضوع، حتي لا يفقد العمل الفني نبضه الحي، ولا يستأثر الموضوع بالاهتمام، كي لا يتحول إلي دعاية رخيصة، لا صلة لها بالفن والإبداع. أما رسالة هذا الأدب، فهي التعبير الفني الصادق عن حقائق الوجود المادي والمعنوي، وتحري الدقة في تصويره وتفسيره للصراع القائم بين القوي المختلفة، في ضوء الوعي الكوني والمكتسب بالأوضاع الاجتماعية، وتعدد اتجاهات الفكر والإلهام. وعلي الرغم من وضوح هذه الرؤية، فمن المعروف أنه أسيء فهم الواقعية بقصد وبغير قصد، وتعرضت منذ بدايتها للازدراء من كل الأجيال، حتي أصبحت مرادفة للضعف والسطحية والتشاؤم، في الشكل والأسلوب والمضمون. وعملت تيارات ونظريات الحداثة المفتوحة، غير المفهومة للغالبية المثقفة، علي تفويضها من جهة، كما عملت التيارات والنظريات المحافظة، من جهة مقابلة، علي هذا التفويض. وساعد علي ذلك أن ثورة يوليو 1952 كانت ذات اتجاه قومي، تتخوف من الانفتاح علي الثقافة الغربية، أو من السير في الاتجاه العالمي، الذي يعتبر العالم دولة واحدة. كما كانت الثورة تتخوف من مبدأ الالتزام، الذي يهيئ للكتاب الصدام مع السلطة، كقوة معارضة، ويدفع السلطة إلي الصدام مع المثقفين، بسبب عدم الثقة بهم وقد دفع الشوباشي الثمن فادحا في السبعينيات. ولكن مهما قيل عن هذه الواقعية، وعن الأبعاد التي طرحها الشوباشي بوضوح شديد، فقد كانت مرحلة مهمة بحقها الذاتي لا تقتفي أثر الغير، بمثل ما كانت مرحلة مهمة من مراحل العبور والتحول، لا يمكن شطبها كما تشطب الأبنية المقامة علي الرمال، وقد شملت هذه الواقعية كل الأصعدة، وليس صعيد الأدب والفن وحده. وتكفي الإشارة هنا إلي أن الواقعية هي التي حمت الثقافة العربية من الانحراف نحو الجمال المطلق، الخالي من كل معني، وحفظت للواقع مكانه في الإبداع الخصب غير المصطنع، وفي الخبرات الجمالية، فلم يعد من السهل علي أحد الإعراض عن المادة، أو نفي الصلة بين الحياة والفن، أو دحض مبدأ الاختيار والموقف، والتماس الكتابة من الكتب، أو من شرفات الأبراج العاجية، بعيدا عن مواجهة العالم. وأحسب أيضا أنه لم يعد من المقبول من أحد الاستخفاف بالوجدان العام، لصالح الوجدان الذاتي وحده، أو التسليم بامتياز طبقة علي طبقة، أو فئة علي فئة، أو عدم الاحتفال بالقوانين الموضوعية لظواهر الحياة. وبالإضافة إلي ذلك، قدمت الواقعية الدراسات المنهجية عن الأدب العربي والآداب الأجنبية، برؤية مخالفة لكل الرؤي السابقة في النقد الأدبي، وصححت الكثير من المقاييس السائدة، وعقدت المقارنات بين الثقافات، وعرَّفت بأعلام الفكر والأدب والفن علي مدي العصور، ودافعت عن حرية الكتاب، وعن وحدة العقل البشري، والثقافة الإنسانية. ورغم أن الشوباشي لم يتحمس للشعر الجديد، فقد كان للواقعية فضل عظيم في تحطيم العمود التقليدي القديم، الذي لم يعد يتلاءم مع إيقاع أو حساسية العصر، ومهدت الأرض ليكون لنا من هذا الشعر تراثا نضرا، يضاهي نضارة الشعر العالمي في جميع اللغات. وقد فعلت الواقعية بالقصة والمسرح ما فعلته بالشعر. وقبل هذا وبعده، ما كان يمكن للأدب المصري أن يشتد ساعده ويتخلص من كلاسيكياته ورومانسيته، ومن ترفعه عن الأدب الشعبي، ويمتلك الحقائق العلمية، النفسية والاجتماعية والروحية، إلا من خلال هذه الواقعية التي يمثل الشوباشي أحد أعلامها في الوقت الذي تجاوزت فيه الثقافة المصرية الكثير من مفاهيمها، دون أن يقلل هذا التجاوز من قيمتها التاريخية، أو من آثارها الباقية، التي تتساوي في القيمة مع كل إبداع جميل، في العالم القديم والحديث.