د. سيد البحراوي يؤرقه دائما وقوع المفكر العربي في شرك التبعية الذهنية للغرب, وهو ما يجعله عاجزا في اعتقاده عن إضافة لبنة تحسب له في مجمل الإنتاج الفكري وبعد دراسات لتراثنا النقدي والمناهج الوافدة وأثرها في ثقافتنا المعاصرة, خرج علينا د.البحراوي بما يعرف بمنهج محتوي الشكل ليقدم حلا مقترحا لأزمة النقد يتضمن مقولات نظرية وأدوات إجرائية قادرة من وجهة نظره علي دراسة هذا الموضوع لتجاوز التناقضات المنهجية الناجمة عن التبعية الذهنية للنموذج النقدي الغربي. وفي حوارنا معه توقفت عند عدة نقاط جديرة بالتأمل: أولا أنه يري النقد الأدبي علما, فإذا كان كذلك, فإن الخصوصية التي ينادي بها تتعارض مع شمولية وكونية العلم, الأمر الثاني فكرة التجاوز, فهو يري أن نظريته قد جبت كل ما قبلها وألغت ما حولها, وأن المبدعين يجب أن يكتبوا في إطار تعاليمها وهو أمر قاتل للإبداع والنقد معا.. لكني أترك الحكم لقارئ هذا الحوار الثري والمثير. { ما الذي دعاك للبحث عن منهج جديد وسط زحام المناهج النقدية الحديثة؟ {{ في فترة السبعينيات كان الصراع في المناهج النقدية حادا بين المناهج الشكلية الأوروبية التي بدأت تنقل عبر المجلات الأدبية والكتابات, وبين الدراسات المهتمة بمضمون العمل الأدبي, كما كان الحال في الاتجاهات الوضعية والماركسية, وبالتعمق في دراسة الاتجاهين اكتشفت إن هذا الصراع يقع خارج نطاق الدراسة الأدبية, ويتصل بالسياسة أكثر.وعبر دراساتي عن إيقاع الشعر العربي أدركت أن الإيقاع عنصر شكلي لا يخلو من الدلالة, ومن هنا توصلت إلي مصطلح محتوي الشكل الذي يرادف الدلالة الجمالية والنفسية والاجتماعية للعمل الأدبي, ويري أن مهمة الناقد ليست دراسة الشكل في ذاته ولا دراسة المضمون دون الاهتمام بالشكل. { ومن منطلق رفض التبعية ماذا تسمي استعمال هذا المصطلح المأخوذ عن الغرب؟ {{ بالفعل هذا المصطلح وارد عند نخبة من النقاد الغربيين أمثال الدنماركي هيلمسليف والروسي كوزينوف وغيرهم ولكن كل منهم أعطاه معني مختلفا قد يكون أصغر من المعني الخاص بي وقد يكون أوسع منه والحقيقة أن المرادف الدقيق لمصطلحي هو مصطلح النظم عند عبد القاهر الجرجاني, ولقد تعاملت مع محتوي الشكل من منطلق أن النظرية الأدبية هي إنتاج عالمي تسهم فيه الخصوصية الثقافية بأقدار متفاوتة; ولذلك أدعو النقاد العرب أن يقدموا مساهمتهم في النظريات النقدية القائمة أو التي ستقوم, وفي تقديري أن هذه المساهمة لا يمكن أن تتم وأن تكون ذات قيمة يعترف بها إلا بثلاثة شروط: الأول هو وعي النقاد بواقعهم الأدبي وإبراز خصوصيته والثاني هو الإلمام العلمي الدقيق بالنقد الأدبي عبر التاريخ بحيث تتاح إمكانية الاستفادة من هذا النقد انطلاقا من الندية الكاملة, أما الشرط الثالث فهو توثيق أواصر الصلة بالمجتمع العلمي العالمي وتعديل جذري في شروط البحث العلمي والحرية الفكرية في البلدان العربية. { الاتهام بالتبعية شمل أيضا الأدباء, إذن هل كان يوسف إدريس مثلا عندما عالج الريف المصري وقاع المدينة في قصصه تابعا للغرب ؟ {{ اتهام الكتاب العرب بالتبعية الذهنية للأنواع الأدبية الغربية هو اتهام عام يشمل غالبية هؤلاء الكتاب, علي أساس أن البنية الذهنية للطبقات الوسطي العربية ومنها المثقفون العرب هي بنية تابعة. وهذا أمر موضوعي ناتج عن طبيعة التطور الاجتماعي للمجتمعات العربية الحديثة والذي يسمي التطور المفروض من الخارج, ولقد تحول النقاد إلي مجرد سماسرة بالمعني الأدق, مثلما حدث مع ما يسمي بالبنيوية, حيث اكتفي سماسرتها بنقل القشور دون الأصول, إلي أن انتهت ولم يعد لها وجود. والمجتمع الذي لا ينتج ما يحتاج إليه مجتمع تابع وفصامي, لأن ما نستورده لسد حاجاتنا لا يمكن أن يسد هذه الحاجة, والأخطر أن احتياجاتنا نفسها في ظل قانون التبعية تحدد لنا من الخارج, ولكن هذا الاتهام لايطال عددا كبيرا من المبدعين العرب الذين وعوا بخصوصية مجتمعاتهم وقدموا ما نسميه محتوي الشكل العربي في مختلف الأنواع واعتمدوا علي جماليات الأدب الشعبي وتطويرها. { نفهم من ذلك أنك تريد من جميع الأدباء الالتزام بالأدب الشعبي دون غيره؟! {{ عندما أتحدث عن جماليات الأدب الشعبي لا أقصد هنا التراث الذي مات ولكني أقصد التراث الحي الذي يستطيع الأديب من خلاله تحقيق الحاجات الجمالية لجمهوره, فبدلا من الرجوع إلي الأساطير القديمة علي الكاتب أن يتعامل مع الأساطير الواقعية التي يلامسها المبدع باعتباره ابنا لمجتمعه باعتبار إبداعاته عملا اجتماعيا. { النقد الأدبي عندك علم أم ماذا؟ {{ النقد الأدبي علم, أو يسعي أن يكون علما. والعلم يكون عالميا إذا كانت مفردات موضوعه شاملة وممثلة للعالم, وموضوع النقد الأدبي هو الأدب, والأدب لا يكون عالميا إلا بقدر ما يغوص في محليته, ومن ثم فإن النقاد مطالبون بأن يرتبط كل منهم بخصوصية أدبه. والمنهج العلمي مفترض أن يكون قادرا علي أن يتعامل مع كل النصوص عبر ثوابته التي تحددها له نظرية الأدب, أي ماهيته ووظيفته وأدواته وهذه المبادئ العامة ينبغي أن تسمح له بمعرفة خصوصية كل نص كي يستطيع أن يقدم مساهمة حقيقية في النظرية النقدية العالمية, وبالتالي فإن شعر الحداثة مثلا يفرض علي الناقد أن يتعامل مع مفهوم الإيقاع الشعري بمعني مغاير للمفهوم التقليدي: هو السمات الإيقاعية في قصيدة النثر مثلا ومدي مساهمتها في بناء النص ودلالاته في نهاية الأمر. { ولكنك قدمت منهج محتوي الشكل علي أنه المنهج الوحيد الصالح للنقد مما نعتبره نوعا من فرض الوصاية والاستبداد؟ {{ تصور البعض أن مهمة الناقد هي مجرد متابعة الإبداع وتقديمه للقراء, بينما هذه هي المهمة الأبسط, والأهم هو الدور الفلسفي للناقد, أي إدراك القيم الجمالية للمجتمع, وكيف عالجها المبدعون عبر التاريخ, ومدي قدرة الأدب علي تحقيق وظائفه في هذا المجتمع, والمعوقات التي تقف أمامه, وإعلان هذه النتائج أمام المبدعين والقراء. ولهم كامل الحرية في الاستفادة منها أو العكس, هذا من ناحية. ومن ناحية أخري أنا أعتبر منهج محتوي الشكل منهجا شاملا; لأنه لا يتجاهل المناهج القديمة والحديثة, متجاوزا أحادية كل منهج, ويدرس الشكل بتنويعاته المختلفة, مستفيدا من الشكلية والبنيوية والأسلوبية, وصولا إلي المضمون بجوانبه المتعددة الجمالية والنفسية بجانب علم المعلومات وباقي العلوم الإنسانية, ومن ثم فهو يزعم أنه يقدم فهما دقيقا وشاملا للعمل الأدبي من كافة جوانبه. { كيف يمكن لك أن تقول إن المناهج الغربية أصبحت آلة من آلات القمع الذهني رغم أن المثقفين العرب أقبلوا عليها وفق رغبتهم؟ {{ الذهن هو ملكة تجمع بين العقل والوجدان. وبالتالي هي منطقة تتحكم في مجمل سلوك الإنسان وإنتاجه, فإذا أصيبت هذه المنطقة بالشلل أصبح الإنسان غير قادر علي التفكير المستقل والإبداع. وهذا ما حدث مع نشأة الطبقة الوسطي في عهد محمد علي, وأدي ذلك إلي تبعية المنطق سواء لولي النعم أو للنموذج الغربي, واقتصر دور المثقف علي تقديم الحلول الجاهزة للمشكلات, التي يبدو أنها تؤرق المجتمع. وهذه الحلول إما تكون من الماضي كما حدث في العصر الإحيائي أو الاتجاه صوب الفكر الغربي كما هو الحال في الحاضر. ومن ثم يتحول المثقف إلي مجرد ناقل للموضوعات الفكرية مثل الأزياء وغيرها من مظاهر الحضارة الأوروبية دون تعمق في فيما ينقل ووظيفته في مجتمعه. والغريب حقا أن معظم هذه الموضوعات قد انتهت في بيئتها الأصلية. { إذن معظم الإبداعات النقدية الحديثة تستبعدها من تاريخ الأدب ؟ {{ ما نشرته الأجيال المختلفة من النقاد العرب علي مدي قرنين من الزمان لم يبق منه إلا القليل المفيد; بحكم أنه كان موضات. أول تطوير يطرأ علي النقد العربي كان للعقاد وطه حسين ومحمد مندور, ولأن نقدهم لم يكن علميا ولم يستخدموا الأدوات العلمية الموضوعية والمحايدة والتي تمتلك أدوات ملموسة للتحليل لبلوغ نتائج أكثر تمثيلا لعمق النص وخصوصيته. ولذلك فإنهم لم يضيفوا أي شيء, ويمكن أن تجد بعض الإضاءات لبعض النصوص في الشعر الجاهلي. { وما الذي أضفته أنت للنظرية النقدية ؟ {{ الإسهام الذي أقدمه ليس في اللبنات المفردة وإنما في النسق العام الذي يعيد تكييف اللبنات المختلفة سواء أكانت عربية أو غير عربية وتقديم أعمق ما في النص, وبهذا المعني أري أن الدراسات التطبيقية التي نشرتها وفقا لذلك المنظور سواء في مجال علم اللغة أو الشعر وغيره حققت هذا الهدف, وأضاءت الدروب المجهولة لدي أغلب المبدعين.