عبد الوهاب البياتى شاعر كبير. تجاوز فى شهرته كشاعر وطنه العراق إلى أرجاء العالم العربى كافة. وانتقل منها إلى العالم. وصار فى فترة زمنية قصيرة شاعراً عالمياً. وكان هو أول من أعلن للملأ بلوغه مستوى العالمية عبر كتاباته وفى رسائله إلى أصدقائه، وذلك فى نرجسية مفرطة صارت، مع الزمن، سمة أساسية من سمات شخصيته. لكننا نظلم البياتى إذا لم نشر إلى أن عالميته كشاعر كانت قد دخلت حيز التحقق باعتراف كبار معاصريه من شعراء القرن العشرين، الذين كتبوا فى تقدير شعره ما لا يحتمل الشك أو الجدل. وُلد عبد الوهاب البياتى فى عام 1924 وتوفى فى عام 1999. ويشير تاريخ ولادته إلى تقارب العمر بينه وبين زملائه الكبار السياب والملائكة والحيدري. وكان البياتى قد التقى لأول مرة مع السياب فى دار المعلمين العالية فى بغداد عندما كان الإثنان يتابعان دراستهما (1947) ليصبحا بعد تخرجهما أستاذين للأدب فى مدارس العراق، وينال كل منهما نصيبه من الفصل من التعليم، ومن الملاحقة من قبل الأجهزة الأمنية، بسبب أفكارهما التقدمية. وكان البياتى قد دخل إلى دار المعلمين فى عام 1944. وسبقه إليها السياب، وتخرَّج منها قبله. وكان كلاهما يساريين. وإذا كان السياب قد انتسب إلى الحزب الشيوعى خلال دراسته فى دار المعلمين العالية وصار مناضلاً معروفاً، وتنكَّر له أهله بسبب ذلك، فإن البياتي، كما يقول هو، لم ينتسب رسمياً إلى الحزب الشيوعي، رغم أن واحدة من قصائده كانت تحمل عنوان: ارسالة إلى حزبيب. والمقصود بالحزب هنا الحزب الشيوعى. وقد نشر محمد دكروب هذه القصيدة للبياتى فى مجلة االثقافة الوطنية وغيَّر لها عنوانها وجعلها ارسالة إلى شعبى»، حرصاً منه على البياتى من أن يقوده نشر القصيدة إلى الملاحقة ثم إلى السجن. ويروى البياتى فى سيرته الشعرية تفاصيل علاقته بالسياب، منذ أن تعرف أحدهما إلى الآخر فى دار المعلمين، فى عام 1947، بمبادرة من السياب. وكان البياتى قد بدأ بنشر بعض قصائده الأولى فى صحف العراق وصحف مصر ولبنان الرسالة والثقافة وبالأديب قبل أن تبدأ مجلة االثقافة الوطنية اللبنانية بالصدور، والتى صارت بالنسبة للبياتى مجلته الأولى، وصار يعتبر نفسه، فى بغداد وفى كل مكان كان ينوجد فيه، أنه معنى بأن ينشر فيها قصائده وتعليقاته، ويحرِّض الكتَّاب والشعراء على نشر إبداعاتهم فيها. ثم صار ينشر قصائده فى مجلة «الآداب». كانت اللقاءات الأولى بين البياتى والسياب لقاءات صداقة حميمة. وكان الإثنان يتبادلان قراءة قصائدهما، ويمارسان الملاحظات النقدية بموضوعية على كل قصيدة يقرآنها لأى منهما. لكن البياتى سرعان ما بدأ يكتشف، بعد صدور ديوانه «أباريق مهمَّشة» الذى نقله إلى موقع متقدِّم بين الشعراء الجدد، أن موقف السياب منه قد تغيَّر، وأنَّ السياب بدأ يشعر بأنَّ منافساً حقيقياً له قد بدأ يظهر. وبرز ذلك فى اهتمام النقَّاد بالبياتى إلى الحد الذى جعله أحد كبار شعراء الحداثة. ويستطرد البياتى بنرجسيته أنَّ السيَّاب، بعد تخرجه من دار المعلمين بوقت قصير، اختلف مع الحزب الشيوعي، وانتقل فى مواقفه السياسية إلى النقيض. وظلَّ فى مواقفه تلك حتى أيامه الأخيرة التى كان قد عاشها فى لبنان. ومات فى لبنان صريع مرض السل. ولم يجد من يودعه إلى مثواه الأخير إلاَّ عددا قليلا من أصدقائه. جاء البياتى إلى الحياة فى بغداد، فى حى يقع بالقرب من مسجد الشيخ عبد القادر الكيلانى وضريحه. والشيخ الكيلانى هو أحد كبار المتصوفين. وكان الحى يعج بالفقراء، كما يقول البياتي، وكذلك بالباعة والعمال والمهاجرين من الريف، وبالبرجوازيين الصغار. وكانت تلك المشاهد أول معرفته بالعالم، المعرفة التى شكلت مصدر ألمه الكبير الأول. وظلت ترافقه، بإضافة مشاهد أخرى مثيلة لها، على امتداد حياته كلها. ويعترف البياتى فى سيرته الشعرية أن المظالم التى يعج بها العالم، إضافة إلى المظالم التى عانى منها شعبه العراقى منذ نشوء دولته فى مطالع عشرينات القرن الماضي، هى التى جعلت منه يسارياً، من دون التزام بحزب يساري. وهى يسارية ظل يرى الأشياء والأحداث من منظارها، وبحسب فهمه لها وتحديده لمنطقها ولآفاقها. يتذكر البياتى فى سيرته الشعرية بالنص، بعض تأملاته عندما كان لا يزال فى الثانية عشرة من عمره، فى ما يشبه التنبؤ فى ما صار إليه عندما أصبح شاعراً كبيراً. يقول: الم تكن المدينة التى وُلدت فيها إلاَّ صورة لكل المدن العربية الأخرى فى تلك السنوات. فبغداد كانت تعج بصور البؤس الإنسانى الذى لازم المجتمعات الفقيرة منذ نشوء الحياة على هذه الأرض. وقد كنت أحس وأنا أتصفَّح وجه الألم، أنه لم يكن وجهاً للألم فى الزمن الذى كنت أعيش فيه، بل إنه كان وجهاً للألم فى كل العصور. ولهذا كنت أستنجد بالآلهة والأساطير وأضرحة الأولياء والكتب لكى أتساءل: لماذا كل هذا البؤس؟ وأين ذهب جهد الإنسان منذ بدء الخليقة حتى ذلك الزمان؟ كنت أتساءل وأنا طفل: متى يمكن للإنسان أن يبنى وأن يناضل، وأن يحاول تغيير الحياة لكى يضيف إليها أشياء جديدة من غير أن يدع الفرصة للموت أو للهدم أو للخراب لكى يعود ويهدم ما بناه. وكانت حكايات جدتى وأمى والحكايات الأخرى التى كنت أقرأها فى الكتب العربية القديمة تغذى هذه الرؤية بالتفصيلات والروايات والقصص. وهذا ما جعلنى أحسّ بأن الزمن الذى عاشته الإنسانية هو زمن دائرى أكثر مما هو زمن أفقي، لأن الزمن الأفقى لا يمكن أن يعيد نفسه. وهذا ما جعلنى أيضاً لا أكتفى بالحكاية أو القصة أو الحدث أو المثل، وإنما أبحث عما يختفى وراء كل منها، وأبحث عن القوى الدافعة أو الخالقة لهذا المنحى أو لهذه الرؤية أو لهذه الحكاية. ومن هنا صار على دون وعى أن ابحث عن مخلص... إن الشك أخذ يساور نفسي، وأنا فى تلك السنوات، بأن التغيير أو الثورة التى يقوم بها السياسى لا تلبث أن تنكص على عقبيها وتعود الأمور مثلما كانت فى السابق، أى أن الرسالة أو الدعوة تصبح كذلك عندما تتحول إلى سلطة، وكذلك الأمر بالنسبة للثورة. فالسلطة دائماً، فى كل زمان ومكان، تحاول أن تلجأ إلى العنف والإرهاب والجمود والقضاء على الإنجاز الإنسانى الحقيقى للدعوة أو الثورة. وقد تأكَّد لى ذلك من حرب الذئاب المسماة بالحرب العالمية الثانية. فقد كانت حرب ذئاب أكثر مما كانت حرب دفاع عن الإنسان والديمقراطية والعدالة، بالرغم من الضوضاء التى كنا نسمعها فى أجهزة إعلام ذلك الزمان. ومن هنا أستطيع القول إنَّ بذرة التمرد والثورة قد وُلدت معي، وتغذَّت ببؤسى ودمي، وببؤس ودم معظم الناس الذين كانوا يضجون بالحياة فى زمن الطفولة والشباب الأول الذى عشته. كان جد البياتى يواكب بفرح ما يضج فى صدر هذا الفتى من مشاعر تفوق عمره. لذلك كان يهتم به اهتماماً خاصاً. وكان يوصى والد الفتى بإيلاء الاهتمام به وبتوفير الفرص التى تقوده إلى المعرفة. وفرض الجد على الوالد أن يجعل من البياتى صديقاً له رغم أنه لم يكن هو الأكبر سناً بين الأولاد. ويذكر البياتى أن أول معرفته بالشعر كانت أبياتاً كررها جده أمام مسامعه. واكتشف فيما بعد أن تلك الأبيات كانت مقتطفات من شعر ابن عربى وابن الفارض والحلاج، أئمة الصوفية فى تاريخ الإسلام. حين كبر البياتي، وازداد نهمه إلى المعرفة، وازدادت قراءاته اتساعاً فى مراحل دراسته المختلفة، قبل الدخول إلى دار المعلمين العالية، ثم بعد أن دخل إلى تلك الدار، اكتشف أنه شاعر بالفطرة. وكانت بدايات تعرفه إلى الشعر، أو كما يسميها هو زاده الشعرى الأول، أغانى الفلاحين والحكايات الشرقية المنتشرة فى الريف. ثم صارت له اختياراته الخاصة به وبذوقه الشعري، من بين الشعراء العرب. فكان أحبهم إليه طرفة بن العبد وأبو نواس والمعرى والمتنبى والشريف الرضي. وكان هؤلاء، كما يقول البياتي، أكثر من أثَّر فيه فى بدايات اهتمامه بالأدب وبالشعر خصوصاً. أما الكتب الأولى التى أشاعت الفرحة فى نفسه ودفعته إلى الطريق المستقيم الذى يقود إلى طرق جديدة، فكانت كتاب «الأم» لمكسيم غوركى، والجزء الأول من كتاب «الأيام» لطه حسين، ومسرحيات توفيق الحكيم، رغم أنها لم تكن تجيب عن أسئلته الكثيرة، لكنها كانت تبعث الطمأنينة فى نفسه. كان كبار شعراء تلك المرحلة من الرواد بالنسبة إلى البياتى ووفق ترتيبه لأسمائهم: محمود سامى البارودى وأحمد شوقى والجواهرى ومحمد سعيد الحبوبى وبدوى الجبل وخليل مطران والأخطل الصغير وعلى محمود طه وإبراهيم ناجى والياس أبو شبكة وسعيد عقل وأمين نخلة وعمر أبو ريشة. وكان الرواد فى الدراسات الأدبية وفى مختلف أنواع المعرفة من نقد وترجمة وبحث يتمثلون بالنسبة إليه بطه حسين وأحمد أمين وعباس محمود العقاد ومحمد مندور ومارون عبود وميخائيل نعيمة. وكانوا فى مجال الرواية والمسرح يتمثلون بتوفيق الحكيم ويحيى حقى ونجيب محفوظ. يتوقف البياتى فى سيرته بعمق عند مرحلة دراسته الجامعية فى دار المعلمين العالية. إذ هى كانت المرحلة التى أسست شخصيته التى أصبحت فى عمره المديد شخصية الشاعر العربى الكبير، الذى بلغ العالمية فى سنوات قليلة. تفتحت عيناه فى دار المعلمين على أمور عديدة. وطرحت عليه مشاهداته والأحداث التى عرفتها تلك المرحلة أسئلة أساسية سرعان ما كانت إجاباته عنها بالتدريج تسهم فى بناء عمارة شخصيته، كإنسان ذى سمات خاصة، وكشاعر، وكثائر متمرد. كل شيء فى تلك المرحلة كان يقوده إلى التمرد والثورة. ولم يعد بحاجة إلى التفتيش عن مخلص، كما كان حاله فى زمن الطفولة. بل هو اكتشف الطريق إلى النضال، بشعره وبمواقفه، لتغيير أوضاع بلاده. فانضمَّ، من دون التزام بحزب، إلى ثوار تلك المرحلة. وكان ديوانه اأباريق مهشمةب هو البداية فى التعبير عن ثورته. وكان البداية فى دخوله إلى عالم الحداثة الشعرية. وكان البداية فى النجومية، والبداية، فوق كل ذلك، بالتنقل بين بلد عربى وآخر، من دمشق إلى بيروت إلى القاهرة، ثم من هذه البلدان العربية إلى موسكو ومدريد وصولاً إلى الجانب الآخر من الكوكب الأرضي، إلى أمريكا الجنوبية. فى عام 1954 التقيت أول مرة بالبياتى فى بغداد. واستمرت علاقتى به منذ ذلك التاريخ حتى وفاته. ومن غرائب المصادفات أنه اتصل بى ذات يوم من دمشق يعلمنى بأنه سيرسل لى بعض كتبه الجديدة ومن بينها سيرته الشعرية، وبعض الكتب التى تتحدث عنه. وفى اليوم الذى استلمت فيه تلك الكتب وصلنى نبأ وفاته. فوقع عليَّ النبأ وقع الصاعقة. كان ذلك فى عام 1999. كان الأديب اللبنانى محمد دكروب من أحب أصدقاء البياتى إليه. وقد عبَّر البياتى عن ذلك بعدد كبير جداً من الرسائل، التى بعثها إليه من أماكن إقاماته المختلفة، من بغدادودمشقوالقاهرةوموسكو الخ... ويقدم دكروب نموذجاً طريفاً عن نرجسية البياتى فى هذا المقطع من رسالة بعثها البياتى إليه. يقول البياتى فى هذا المقطع من الرسالة:ب.. أكتب إليك هذه الرسالة بعد انتهائى من قصيدة طويلة كتبتها بعنوان «رسالة إلى حزبى». وقد وضعت فى كل حرف من حروفها فلذة من روحي.. أنا شخصياً أعتقد أننى قد استعدت فيها «عافيتى الشعرية» إن صحَّ التعبير. ففيها تحفز وثورة وعفوية. صدقنى إذا قلت لك إننى أنا شخصياً قد تأثرت بها وأنا أكتبها. وعلى كل حال أتمنى أن يسامحنى الله لأننى استرسلت فى مدح عمل من أعمالى دون أن أترك لغيرى حرية إبداء الرأي.. إننى أشعر بالخجل. وهذا يكفى. ولكن ما العمل إذا كنا لا نملك غير أن نحب..ب.. ومع ذلك فقد كان البياتي، برغم نرجسيته، شاعراً عربياً كبيراً. وكان أحد رواد النهضة الجديدة فى الشعر منذ مطالع خمسينات القرن الماضي. وقد اعترف به كشاعر كبير، إلى جانب النقاد العرب وزملائه من كبار شعراء المرحلة، شعراء كبار ممن تركوا بصماتهم على حقبة كاملة من القرن العشرين. وأقتطف، هنا، بضع كلمات قالها فى البياتى صديقه الشاعر الكبير ناظم حكمت: عندما نتذكَّر القصائد الجيدة، تخطر عادة فى مخيلتك أبيات الشعراء الكلاسيكيين لمختلف الشعوب ومختلف العصور. أما الآن فإنى لا أعنى هذه القصائد، وإنما أعنى قصائد شعراء عصرنا. مما يبعث على السرور أن تفتح ديوان شاعر شاب جديد معاصر وتتعرَّف بأشعاره، خاصة إذا كانت نظرته إلى الحقيقة تتفق ونظرتك. إنى أريد التحدث عن الفن الرائع عند واحد من معاصري، وأعنى به عبد الوهاب البياتى الشاعر العراقي. لقد تعرفت إلى أشعار هذا الشاعر عن طريق اللغة الروسية. لقد أحببت كل الحب فى أشعار البياتى متانة الحبكة والتآلف بين مختلف المعانى والمواضيع «الذاتية» مع المواضيع الوطنية والإنسانية العامة. وإنى لأحب فى هذا الشاعر عفويته وبساطته وصراحته وقابليته المدهشة على تركيز المعانى وبلورتها فى قصائده. لكن ناظم حكمت لم يكن الصديق الوحيد للبياتى بين كبار شعراء وأدباء ومثقفى العصر. بل كانت له صداقات مع الكثيرين منهم. كما كانت له علاقات صداقة حميمة مع العديد من كبار شعراء وأدباء العالم العربي. وهو يروى بكثير من الحميمية تفاصيل هذه العلاقات فى سيرته الشعرية، إلى الحد الذى يبدو فيه شاعرنا، بشعره المترجم إلى لغات عديدة، وبعد زيارات له إلى أماكن مختلفة فى شتى أرجاء العالم، واحداً من كبار شعراء القرن العشرين. وأعترف أنني، كقارئ، وكصديق للبياتي، خلال ما يقرب من نصف قرن، من الذين يعتبرون البياتى واحداً من كبار شعرائنا، من دون أدنى مغالاة. يبقى لديّ فى ختام هذا الحديث السريع عن البياتى سؤال يتعلق بالبياتى وحده، هو سؤال العشق فى حياة شاعرنا. وهو سؤال يجيب عنه بعض أصدقاء البياتى فى أربعة مقالات تناولوا فيها حب البياتى الضائع، حبه لفرندوزة الإيرانية، التى كانت زميلته فى الدراسة فى بغداد، ثم عادت إلى طهران، ولم يعد يراها. لكنه ظل يحبها. وقد أهدى إليها ديوانه «بكائية إلى حافظ الشيرازى». وتطوَّع أحد هؤلاء الأصدقاء للبحث عنها فوجدها فى طهران. لكن الشاعر لم يبحث عنها، ولم يلتحق بها بعد أن عرف أنها لا تزال على قيد الحياة. بل هو ظلَّ يحتفظ بها كذاكرة عشق لا تموت. هكذا الشعراء يفعلون. ويحق لهم ما لا يحق لسواهم، حتى فى الحياة، خارج الشعر وخارج معاناتهم فى عوالمه. لمزيد من مقالات كريم مروَّة