والسياب هو الشاعر العراقي بدر شاكر السياب أكثر الشعراء العراقيين الرواد- في حركة الشعر الجديد- شهرة وأهمية ودورانا في الذاكرة المعاصرة. وقد استمد هذه القيمة- التي أفصح عنها كثير من النقاد والدارسين وألوف من قرائه وعارفي قدره- من قامته الشعرية الباسقة بين نظرائه ومجايليه, وإنجازه الشعري الضخم عبر سنوات حياته القصيرة التي توقفت في الرابع والعشرين من ديسمبر عام 1964 عن ثمانية وثلاثين عاما, تعرض في خواتيمها لأهوال مرض عضال, أصابه بالشلل التام, حتي لم يكن فيه حيا وصحيحا سوي رأسه, كما عبر هو لأصدقائه في يوم استقباله عائدا إلي الكويت بعد طول تنقل بين مستشفيات إنجلترا ولبنان, ليعالج في المستشفي الأميري بالكويت, حيث وافته المنية بعد شهور قاسية من العذاب, والمقاومة الأيوبية الصابرة, والإصرار علي الإبداع الشعري الذي كان ينجزه في ذاكرته وهو وحده في ليل غرفة المستشفي, ليمليه علي أول زائريه في الصباح. وتميزت قصيدة السياب- بين كل قصائد الرواد في حركة الشعر الجديد- بعروبة السمت وارتباطها الحميم بجماليات القصيدة العربية عبر تاريخها الطويل, واستدعائها لموروث ضخم من الحكايات والأساطير والموروثات الشعبية العراقية والعربية والعالمية, كما تميزت بانفتاحها علي أبدع ما توقفت عنده ذائقة السياب في اختياراته من النصوص الشعرية لشعراء العالم الكبار, واتصالها- بسبب وثيق- بشعر الأعلام في ديوان الشعر العربي بدءا بأبي تمام الذي كان يذكره دائما ويستشهد بروائع من شعره, والجواهري شاعر العراق الأكبر- في العصر الحديث- وشوقي وعلي محمود طه ومحمود حسن إسماعيل وإبراهيم ناجي من مصر. وكنا- نحن ثلة أصدقائه القليلة العدد- نلتف من حوله مساء كل يوم في غرفته بالمستشفي, ونستمع إليه متدفقا بالحكايات والذكريات والتنقل من أفق إلي أفق ومن شاعر إلي آخر, وكثيرا ما كانت تتردد في أحاديثه وإفضاءاته أسماء إليوت ولوركا ورامبو وإديث ستويل وناظم حكمت وطاغور وآخرين. وحين ينتقل إلي ديوان الشعر العربي فإن مدخله الدائم هو أبو تمام, ثم يجيء من بعده المتنبي وابن الرومي والبحتري. أما مناسبة هذا الكلام عن السياب فهو صدور الكتاب البديع الذي أنجزه الشاعر حسن توفيق بعنوان: بدر شاكر السياب: أصوات الشاعر المترجم, جامعا فيه مختارات من ترجماته لأشعار ستة عشر شاعرا أجنبيا وبعضا من أشهر قصائده في كل دواوينه. وقد قدم حسن توفيق لكتابه- الذي صدر ضمن مطبوعات مجلة الدوحة- بدراسة ضافية نابضة بحبه للسياب, وتقديره لشعره وشاعريته, ناطقة بحجم الجهد التوثيقي والبحث الذي بذله في جمع هذه القصائد من مصادرها المختلفة, التي جعلتها حياة السياب المضطربة والمتقلبة والعاصفة سياسيا, مصادر غير متاحة إلا لمن يملك الصبر والدأب وحس المقارنة وذكاء المراجعة والملاحظة. وهي صفات يمتلكها حسن توفيق الذي جعلنا من خلال هذا الكتاب نتعرف علي أحد الوجوه الأصيلة في السياب وهو وجه الشاعر المترجم, سواء كان ما يترجمه من شعر عن لغته الأصلية- الإنجليزية- أو مترجما إلي الإنجليزية من لغة غيرها, فجهد الترجمة في الحالين جهد كبير ومرهق. وقد استطاع حسن توفيق بعد استعراضه للقصائد المترجمة أن يضع يده علي مناطق التأثر أو التماس لدي السياب, في بعض قصائده, التي ترجع إلي اتصاله الحميم بعوالم هؤلاء الشعراء الأجانب وطبيعة قصائدهم المختارة, بالإضافة إلي بعض المصادر لعناصر عالمه الشعري من ملاحم وأساطير وحكايا وعقائد وموروث جاء ذكرها في أشعارهم. في ترجمته البديعة لقصيدة الوطن من شعر الشاعرة البلجيكية إميلي كامير يقول السياب: إنه صوت بذاته: صوت جرس في برج بعيد, وهو ضوء الشمس علي الغبراء بين الشجر, أو غب ديمة من المطر, وهو سقف بذاته, تحت سماء بالذات, وأريج ممشي في شاعر بالذات, وحدور تجثو لديه مزرعة, وإحساسك بالعشب تحت الأقدام, وأريج ممشي في شارع بالذات, ونظرة خاطفة, واهتزاز يد بيضاء: شيء من الماضي, يعيا علي الفهم من سرعته, هو ما تحس به وتعجز أن تقول, حتي إذا غنيت, وخير ما يقال فيه: إنه كل هذه الأشياء, هو ما تذوق وما تراه, هو ما تتنفس وتسمع, التبغ والجبنة والرغيف, وأوراق شجر زاهية, وزفيف ريح, والمشاهد المألوفة والأصوات, ومائدة في لقاء: هو ما تحس وتعجز أن تقول, حتي إذا غنيت, وخير ما يقال فيه إنه كل هذه الأشياء. هو غبطة البدن ونعماه وخفق القلب للأطفال, تحملهم علي الصدور, وهو رائحة الطريق, وهو طعم الأغنية, هو الحلم, وتباريح الثواء. ونتأمل نحن كيف من نسيج كل هذه المفردات, ينهض ويتجسد وطن عزيز وغال ونفيس, دون زعيق أو خطابة! وحين يصوغ ما يترجمه شعرا, كما فعل في قصيدة مفتاح الجريمة للشاعر الفرنسي جاك بريفير فإن الوهج الشعري في النص الأصيل لا يبتعد عنه, وهو يقول: هو لا يفكر, وهو يحلم/ وهو يرسم في الخيال/ رأسا سواه, كأن يكون/ رأسا لعجل بالتوابل رش/ رأسا يغتذيه: ويدير في بطء رتيب/ فكيه في بطء وراح يصر بالأسنان/ فالكون الرحيب أداره رأسا علي عقب/ وأوصد حيث راح/ سبل الخلاص عليه/ فهو إذن يعد علي يديه/ من واحد حتي ثلاثة.... ولا يحرمنا الكتاب أيضا فرصة المقارنة بين ترجمة السياب لرائعة ناظم حكمت رسالة إلي تارانتا بابو وترجمة الدكتور علي سعد- الكاتب والناقد اللبناني- لها وهي الترجمة التي صدرت في الخمسينيات, ولا حرارة الدمع ونحن نطالع آخر قصائد السياب ليلة وداع التي اختتم بها رحلته الشعرية قائلا:أوصدي الباب فدنيا لست فيها, ليس تستأهل من عيني نظرة, سوف تمضين وأبقي أي حسرة, أتمني لك ألا تعرفيها!. وصولا إلي قوله: أوصدي الباب, غدا تطويك عني طائرة, غير حب سوف يبقي في دمانا. وطويلا طويلا, سيبقي بيننا شعر السياب وصوته, وسموق قامته, لا يملك أن يطويها الزمن!. المزيد من مقالات فاروق شوشة