أصدرت المبادرة المصرية للتنمية المتكاملة المعروفة باسم «نداء» كتابا جديدا، في إطار مهرجان الحرف التقليدية، يعرض لإحدى عشرة حرفة تقليدية في مصر تفخر بتاريخها وتقاوم الزوال. يبحث دائما هواة جمع المقتنيات من الحرف التقليدية عن نتوء ما في الإناء الزجاجي يحمل علامة الصانع الذي نفخ في قطعة العجين لتتحول تحت تأثير اللهب الشديد إلى قطعة فنية من الزجاج، أو قد يبحث عن هذه التعريجة الطفيفة في الخط الذي يزين قطعة من الفخار، أو عن تلك النسب المتضاربة في الرسومات التي تعلو السجاد والكليم وتنم عن الموهبة الفطرية لراسمها. يبحث العارف في هذه المنتجات عن كل ما يؤكد له أنها قطعة يدوية أصيلة تتميز عن مثيلاتها التي صنعتها الماكينات بشكل لا تشوبه شائبة، تتماثل فيه القطع فيما بينها. فهو اقتفاء لليدوي، للانساني، الرحيم بالمادة، الحاني عليها، وابتعاد عن النمطي الجاهز الصارم المتماثل. تناول الدكتور جلال أمين فكرة الالتصاق الحميم بين العمل الانساني ومنتجات الحرف التقليدية، في تصديره لكتاب «الحرف التقليدية في مصر، بين التراث والاستلهام» الصادر منذ أسابيع قليلة، بل واعتبر استاذ الاقتصاد الاجتماعي أن غياب التماثل التام بين الوحدات يعد مظهرا من مظاهر حرية الحرفي ومصدر لسروره. وكذلك اعتماده على مادة أولية يجلبها من قلب البيئة والمجتمع الذي يعيش به وتكون في متناول يده مما يضاعف من حرية الحرفي ويقوي شعوره بالاستقلال. ومثلما يعلي جلال أمين من قيمة الحرفي الفنان الصانع الباحث عن الحرية والتفرد والاستقلال، يغلف الكتاب هذه المسحة الانسانية في أدق تفاصيله، أو لنقل المفهوم الانثروبولوجي الذي يتعامل مع الحرفة ليس بوصفها سلعة تخضع لقانون العرض والطلب، ولكن في سياقها الاجتماعي التاريخي. «كان الأهم في نظرنا هو ارتباط تلك الحرف بحياة البشر، مبدعيها ومتلقيها، وكان الأهم أن نحكي حياة الحرفة، بمعنى تماهي الناس في الحرفة» كما كتبت منحة البطراوي في مقدمة الكتاب، وهي التي أشرفت على مفهوم الكتاب وحررت مادته التي عكف على فصوله نخبة من الكتاب الصحفيين، هم دعاء خليفة، دينا درويش، عبد الرحمن مصطفى، نرمين خفاجي، أحمد الفخراني والباحث حنا نعيم. اعتمد الكتاب في فصوله الاحدى عشر (صناعة الفخار، والزجاج، والنسيج، والحجر، والمعادن، والحلي، والخشب، والبردي، والجلود) على تقديم نبذة عن تاريخ كل حرفة، مع ربط وجودها الزماني والمكاني باحتياجات مستهلكيها المفاهيم المعمارية والتشكيلية الرائجة في عصر بعينه، كما تشير البطراوي التي تعتتبر الكتاب في المقام الأول «احتفاء بهؤلاء المناضلين في مجالهم، هؤلاء الفنانين المبدعين الذين لولاهم ما استمرت الحضارة المصرية في عطائها المتدفق». ويتبدى هذا الاحتفاء الفائق بالحرفة وبتماهي الفنان في حرفته من خلال الصور الفوتوغرافية التي التقطتها عدسات الفنانين عماد عبد الهادي وبسام الزغبي وفادي مجدي، تمسك هنا بلحظة تشكيل الطين الأسواني على الدولاب لعمل الفخار، أو قسوة ظروف العمل في المدابغ في صناعة الجلود، أو تلتقط هناك حالة الوجد التي تعلو وجه الحرفي أثناء طرق النحاس، أو الإيقاع الموسيقي لحركة أنامل السيدات على أنوال النسيج والسجاد، أو هذا الجلَد في تهذيب أحجار الألباستر بينما شبح الابتسام والرضا لا يفارق الوجه الأقصري. بينما قامت بالاخراج الفني والغلاف الفنانة هبه حلمي التي ساعدها حسها التشكيلي العالي في ابراز مجموعات لونية للفصول المختلفة تبتعد عن صخب الألوان وضجيجها وتعكس التناغم والرقي. وتزخر فصول الكتاب بجولات في أماكن الحرفة اليوم وما آلت إليه مع ندرة السياحة وانكماش السوق، بحيث تبدو أحيانا مرثية لحرفة إلى زوال لا يتمسك بها إلا حفنة من الأبطال. كما تسترجع فصول الكتاب أيضا لحظات ازدهار الحرفة عبر العصور، فتتعرف الأجيال الجديدة، عبر فصل الخط العربي، أن كسوة الكعبة الشريفة كانت منذ خمسين عاما تصنع في مصر، في العصر الذهبي للقصابين (الذين يطرزون الخط العربي بخيوط مقصبة) بعد أن يقوم كبار الخطاطين بكتابة آيات من القرآن الكريم عليها. وتعرف هذه الأجيال أن مهنة نجارة الخشب التي تبرع فيها مدينة دمياط على سبيل المثال، وهي مهنة تعود إلى عصر الفراعنة حيث برع المصري القديم في عمل التوابيت دون استخدام الغراء أو المسامير، وفي فن الحفر على الأخشاب. أما نفخ الزجاج، فقد تم كشفه في العهد الأول للمسيحية في مصر وتفوقت فيها لأزمنة طويلة ولم يعرف الصانع الأجنبي أسرارها إلا في القرن الثالث الميلادي. تلقي منحة البطراوي الضوء على ما آل إليه أصحاب «الأيدي الخلاقة» اليوم مع انتشار المنتجات المصنعة أو المستوردة زهيدة السعر بالمقارنة بالمنتج اليدوي، وعناد الكثيرين منهم وجلدهم للإبقاء على الحرفة التقليدية، ولا يتسنى ذلك بطبيعة الحال إلا للميسورين من الحرفيين أو بفضل مساندة منظمات المجتمع المدني. أما عن استلهام التراث، كما يرد في العنوان الفرعي للكتاب، فيظهر ذلك في أعمال الفنانين المعاصرين الذين نهلوا من الحرفة اليدوية وطوروا فيها لتصبح ابداعات فنية تتخذ من التراث مصدرا ثريا للاضافة والتعديل والتجاوز. مثلما هو الحال فيما يخص الفخار والخزف، حيث ظهرت أعمال النحات المصري الأشهر محمد مندور، والخزاف سمير الجندي. وفي مجال الحلي، لمعت أسماء عزة فهمي التي قامت برحلة بحث في أقاليم مصر المختلفة لتستقي منها نماذج من الحلي تعبر عن الهوية المصري، واشتهرت أعمالها بشكل خاص بالاستلهام من الثقافة النوبية وبالاعتماد على الخط العربي بشكل أساسي في المصاغ. كما لمع أيضا اسم سوزان المصري التي اعتمدت على ألوان التراث البدوي والحلي الشعبي ولجأت إلى تقنيات تميزها تضفي على القطع المعاصرة روح القدم كما لو كانت قطعة ضلت طريقها إلى أحد المتاحف.