أنت ضيف علي مجلس الأمن, فاحترم نفسك وعد لحجمك, وأنا أساسا لا أتحدث معك, أنا أتحدث باسم روسيا العظمي مع الكبار فقط.. هذا ما قاله السيد( فيتالي تشوركين) مندوب روسيا في مجلس الأمن, لرئيس وزراء قطر, وفقا لموقع الأهرام, عن القناة الفرنسية الثانية, في حديث بينهما قبل أن تعلن روسيا حق النقض( فيتو), ضد مشروع قرار يدين جمهورية سوريا العربية, ويعرضها للتدخل الأجنبي, وتري كل من روسيا والصين, أن القرار غير متوازن, ويدعو الي تغيير النظام, مشجعا المعارضة علي السعي للسيطرة علي السلطة, ولم يعط رسالة للطرفين, ولم يعكس واقع الوضع السوري! تكشف العبارة ما هو أهم من مجرد الهجاء, فهي تبرز أهمية موازين القوي التي تحكم العلاقات الدولية, فما يحدد طبيعة العلاقات بين الدول, هو قوتها التي تستطيع بها حماية مصالحها الخارجية, وأمنها الداخلي من خطر التدخل في شئونها الداخلية, فالعلاقات الدولية قديمة قدم المجتمعات الإنسانية, وتطورت بتطورها, وكانت البشرية تعاني عند انفراد قوة واحدة بالسيطرة علي العالم, فالإمبراطورية الرومانية لم يهدأ لها بال حتي أصبح العالم رومانيا, وحاولت استيعاب العالم بكل شعوبه المتنوعة في كيان عالمي واحد, يخضع لإمبراطور روما بثرواته وأيضا ثقافته, فكان إمبراطور روما( كاتو) بعد كل خطبة له في مجلس الشيوخ ينهيها بجملة( أعتقد أنه يجب تدمير قرطاج), وهي الإمبراطورية التوسعية غريمتها في السيطرة علي العالم, ولم تهدأ روما إلا بخراب قرطاج, وسبي أهلها, وتحطيم هويتهم ونسيان لغتهم, وإنشادهم لأشعار هو ميروس! ثقافة الاستعمار لم تنته, ولكنها تجدد نفسها علي أساس واحد, دائما ما تدور حوله, إن الدولة الاستعمارية القوية لها الحق في الاستعمار, لأن الشعوب الأخري من البربر, وهو ما أطلقه الإغريق علي كل الشعوب الأخري التي لا تتكلم الإغريقية, وورثه الرومان عنهم واستخدموه لتبرير التوسع لنشر الرسالة الحضارية لروما, وهي نفس الرسالة التي استخدمها الاستعمار في العهد الحديث, فتم توظيف هذه الفكرة سياسيا لخدمة مشروع سياسي, يهدف إلي توغل مصالح دول علي حساب الآخرين, مادامت من القوة لفرض ذلك الوضع, تحت غطاء ثقافي فوقي متسلط, يدعي التميز علي الهمج البربر! وحديث المندوب الروسي يعبر عن صراع القوي العالمي, الذي لم ولن ينتهي, فالكبار يتنافسون دائما علي المصالح, ولا يحد من قوتهم إلا قوي منافسة, توجد توازن قوي دولي, يمنع توغل إحداها علي حساب الأخري, وللأسف فالعالم العربي ساق صراعا دوليا بين القوي الدولية, وهي جميعا لا يهمها صالح العرب في شيء, إلا إذا توافق وتماشي مع مصالحها, وعندما انفردت أمريكا بالعالم بعد انتهاء الحرب الباردة بسقوط الاتحاد السوفييتي, وانشغال روسيا بمشاكلها الداخلية, وحذر الصين من التورط في الصراع الدولي, دمرت العراق تدميرا, للسيطرة الكاملة علي الخليج ونفطه, وتقوية وضعها الدولي في وجه القوي الدولية الصاعدة, وهي عندما دمرت العراق لم تتوان في تصويره همجيا بربريا ضد الحضارة العالمية, وكانت نموذجا للدولة المتوحشة التي تسحق من يقف حجر عثرة أمام هيمنتها, باسم نشر الحضارة أو الديمقراطية أو حقوق الإنسان.. أو محاربة الإرهاب, فالعناوين ليست مشكلة كبيرة في ظل فنون الدعاية والتضليل, خاصة في العصر الحديث, ولكنها في نفس الوقت وياللعجب تحرص أشد الحرص علي الأخلاق الدولية, وعدم التدخل في القضايا الداخلية للدول, واحترام سيادتها علي أراضيها, إذا كان ذلك التدخل يصب في مصالح قوي دولية أخري منافسة لها.. أليس ذلك شغل بربر. ليس هناك عاقل يسعي لمواجهة مع قوة عظمي تنفرد بالعالم, فالعين لا تواجه المفرز, ولكن التحالف مع قوي التأثير الأخري, لا يهدف لدخول في حرب مع القوة العظمي, ولكن لمنع حروبها هي علي الآخرين, ولجم نزعتها البربرية المتوحشة نحو الإخضاع الإمبريالي, واحتكار الرؤية الحضارية وفق مصالحها, فهل سحق هويات الشعوب وشفط مصالحهم من الحضارة في شيء؟ فكيف يمكن التوفيق بين ممارسات العنصرية والاضطهاد الاستعماري العنصري, وبين حقوق الإنسان والديمقراطية وحق تقرير المصير..؟ هذا لا يحدث إلا بوسائل التضليل والدعاية, وتجنيد العملاء, وإيجاد بيئة سياسية مضطربة, من خلالها يتم شيطنة أشخاص ودول دون غيرها, حسب المصالح المستهدفة, أليس هذا شغل بربر حقيقيين لا يعرفون الأخلاق الدولية ولا الإنسانية, وليس كل هذا بخاف عن أحد, فالتاريخ حافل بنماذج لأدوات الهيمنة والسيطرة وتجنيد العملاء, حتي بات ذلك يحدث علنا دون مؤامرات خفية عصية علي الفهم.. قالوا للقردة اتبرقعي قالت: لا دا وشي واخد علي الفضيحة!, فلم يعد عيبا السعي وراء المصالح مهما كانت الوسيلة!. المنافسة الدولية تصب بشكل مباشر في الشئون الداخلية للدول, خاصة الضعيفة النامية, وعندما حدث توازن دولي في القوي, استطاع زعيمنا الخالد( جمال عبدالناصر) بناء السد العالي وآلاف المصانع, ونفذ خططا للتنمية أحس بها المواطن المصري في كل مكان, وبرغم انكساره في هزيمة(67), إلا أنه بقي في الوجدان المصري والعربي, إيمانا بطموحه الوطني العظيم, ومن عجائب الزمن أن يذهب البعض ليدعي إحياءه لذكراه, ويهتف تضليلا يسقط.. يسقط حكم العسكر, بينما هو من أشرف ما أنجبه جيشنا البطل, الذي يحمي أمننا وعزتنا وكرامتنا, فكان نموذجا للرجال الذين يراهم الضمير الشعبي من معدن السيغة التي تنكسر ولكن تنقام. فتعبير العسكر تضليلي ملفق وتخريبي, يوحي بالإمبراطورية الأسبرطية القديمة, التي حكمت اليونان, فألغت الديمقراطية, وعسكرت المجتمع, وربت الأجيال الشابة علي المهارات العسكرية للتوسع والسيطرة, وأوجدت مجتمعا ذكوريا لا يعرف المدنية, بل الحرب والدمار فقط, وهو عكس ما فعله جيشنا العظيم بعد ثورة يناير, حيث حفظ أمن البلاد, وبدأ في إرساء الديمقراطية بانتخاب مؤسسات مستقلة, ويعمل علي الفصل بين السلطات التشريعية والتنفيذية والقضاء والحفاظ علي الأسس الوطنية للدولة, بينما يصر البعض بحسن نية أحيانا, وسوء نية غالبا, علي وصف العسكر ليستدعي مفاهيم تضليلية مغايرة للواقع, لنشر الإحباط وتحطيم الروح المعنوية للناس, وليس خافيا الآن أن التخريب الداخلي, وإيجاد بيئة متوترة متناحرة, هي من أسلحة الدمار الشامل الجديدة, في أيدي القوي العالمية المسيطرة, بعد أن تراجع تأثير وفاعلية الأسلحة التدميرية التقليدية, التي تلغي بعضها البعض, وهو ما تدركه القوي الكبري, التي تنافس القطب الأمريكي الأوحد, حفاظا علي مصالحها, خاصة بعد أن تحول إلي إمبراطورية جديدة, تسعي لجعل العالم أمريكيا, كما حاولت روما جعل العالم رومانيا, كذلك اليونان والفرس.. ويحفل التاريخ بالإمبراطوريات القهرية التي يمكن وصفها بحكم العسكر حقا. الدول الكبري تحاول استعادة تأثيرها في مواجهة القطب الأمريكي, وتدرك أبعاده التوسعية علي حسابها في التهام الدول الصغيرة, وبدلا من أن تتعاون الدول النامية الضعيفة لمحاولة إيجاد عالم أكثر توازنا, يعطيها الحق في الحياة بكرامة, تستسلم للتخريب الداخلي بالحوار الغوغائي البربري, لوأد كل خطوة في طريق البناء, والسخرية من كل إنجاز بشعارات لا تغني ولا تسمن من جوع, ولكنها تحاصرنا برغم بربريتها, التي لا تصمد أمام أي حوار جدي.. إذن يسقط.. يسقط شغل البربر من العملاء أفرادا ودولا. المزيد من مقالات وفاء محمود