الوثيقة التى أتحدث عنها هذا الأسبوع هى وثيقة غاية فى الندرة والأهمية من حيث الموضوع الذى تطرحه والشخصية التى أرسلت الوثيقة ... فموضوع الوثيقة هو « البوستة الميرى « أو البريد الحكومى ، ومُرسل الوثيقة هو إسماعيل صديق أو إسماعيل المفتش ( ناظر ) وزير المالية فى عهد الخديو إسماعيل والذى كان يُلقب بالخديو الصغير لقربه وعظم تأثيره على الخديو إسماعيل .. والوثيقة يرجع تاريخها الى شهر سبتمبر 1866 وتحمل ختم إسماعيل صديق الذى أرسلها الى مدير البوستة الميرى المصرية موتسى بك فى ذلك الوقت يخبره أنه بمراجعة حسابات وسندات البوستة الميرى تبين أن مصروفات بوستة الرمل جسيمة مقارنة بالعائد الذى تحصل عليه مما يعنى أن هناك خللا فى العمل و الإدارة المالية يستلزم المتابعة والإصلاح لضمان عدم حدوث عجوزات فيقول « إنه تصرف مبالغ لزوم بوستة الرمل مثل أجرة ( الوابور ) السكة الحديد الموصلة من إسكندرية لحد الرمل لنقل المكاتيب ( الجوابات ) ومُقنن لهذة الأجرة كل 6 شهور مبلغ 7500 قرش بحكم الشهر الواحد مبلغ 1250 قرشا وماهية الوكيل شهرياً 1000 قرشا وأجرة محل لإقامة البوستة 2925 قرشا فى السنة ومصاريف أخرى ، وبملاحظة إيراداتها وجد أن الإيراد اليومى يتراوح بين 30 و 60 قرشا فقط وأنه جار خصم العجوزات وأنه يُعلم أن الجوابات الواردة والصادرة من والى جهة الرمل شئ قليل ولم يكن مستحق ترتيب مصروفات تزيد على الإيرادات ، وحيث من المعلوم بطرفنا أنه على حضراتكم حصول البراح والرواج لجهة المصلحة فلزم تحريره لعزتكم لكى يُحسن همتكم بعمل الطريقة اللازمة التى ينتج عنها حصول البراح وعدم ظهور عجوزات . فرد عليه موتسى بيك مدير عموم البوستة الميرى وقال إن المصلحة تراعى إيرادات تواكيل البوستة فكانت تشرع فى إبطال أغلبهم وتبقى فقط تقريباً الربع حيث إن التواكيل بلغ عددهما 40 توكيلاً وعشرة منها فقط ذو إيراد ولكن لأن الحكومة إتخذت لنفسها ملكية البوستة دون خلاف كما فى البند الأول من قانون البوستة الداخلية فلزمت المصلحة أن توضع توكيل بوستة فى محلات اللزوم حيث يكون هناك أخد وعطا ( المقصود حركة ) ومراسلات تجارية ويؤكد موتسى أنه لا يخفى على سعادتكم والكلام موجه لناظر المالية أن البند الأول يحكم إما أن تتنازل الحكومة عن ملكية البوستة أو تتحمل مصاريفها كما هو جار بباقى جهات ممالك الدنيا... ثم أرسل محمد شريف ناظر ديوان الداخلية خطاباً الى ناظر المالية أكد فيه أنه بمخاطبة مدير البوستة لإعمال طريقة لاستحقاق تلك المصاريف أفاد بعدم إمكانية مراعية ذلك لأن تواكيل البوستة بعضهما إيراده أكثر من مصاريفه وبعضهم إيراده لا يفى مصاريفه ولكن هناك اضطرار لوجوده فى بعض الجهات . ومن هنا نتبين أن المشكلة كانت فى ارتفاع مصاريف بوستة الرمل مقارنة بدخلها مما دعا وزير المالية بمخاطبه كل الجهات المختصة لتلافى هذا الأمر مما يؤكد أن الدولة كانت منتبهة لكل مرافقها عكس ما كان يشاع عن تلك الفترة ، كما تؤكد حرص إسماعيل المفتش على مالية مصر وهو المتهم بمساعدة الخديو إسماعيل على التبذير وخراب اقتصاد مصر .. فما كان من مدير البوستة الا أن أكد أنه لا يمكن تلافى هذه المشكلة وأن هناك ضرورة لوجود بعض إدارات البوستة رغم خسارتها ( لان كله بيشيل بعضه ) . وتبدأ حكاية البريد فى مصر الحديثة عندما قام إيطالي في الإسكندرية يدعى «كارلو ميراتى» بإنشاء إدارة بريدية لتصدير واستلام الخطابات المتبادلة مع البلدان الأجنبية نظير اجر معتدل كما قام بنقل الرسائل بين القاهرةوالإسكندرية من مكتبه بميدان القناصل ( المنشية ) وبعد وفاته خلفه ابن أخته «تيتوكينى» الذي أشرك معه صديقه «موتسى» ونهضا بالمشروع وأطلقا عليه اسم «البوستة الأوروبية» (Posta Europea ) وظلت تباشر نقل وتوزيع مراسلات الحكومة والأفراد وأنشأت مكاتب بريدية لها في القاهرة ثم في دمنهور وكفر الزيات ثم استخدمت خطوط السكة الحديد في نقل البريد بموجب عقد لمدة خمس سنوات من يناير 1856 وكان هذا بمثابة امتياز باحتكار نقل البريد في الوجه البحري لأنه نص على غرامة توقع على كل من يضبط متلبسا بنقل رسالة لأحد الأفراد .. وعندما شعر الخديو إسماعيل بأهمية البوستة الأوروبية قام بشرائها من « موتسى « بعد وفاة شريكه في 29 أكتوبر 1864 على أن يشغل « موتسى « وظيفة مدير عام البريد وهو ما تم بالفعل فى 2 يناير 1865 حيث نُقلت ملكية البوستة الأوروبية إلى الحكومة المصرية ويعتبر هذا اليوم يوما تاريخيا للبريد المصري وعيدا للبريد كل عام. وقد ألحقت مصلحة البريد في أول أمرها بوزارة الأشغال ثم نقلت تبعيتها فى ديسمبر 1865 الى ديوان عام المالية ، وقد صدرت اللائحة الخاصة بتنظيم أعمال البريد بأن يكون نقل الرسائل وإصدار طوابع البريد احتكارا للحكومة المصرية وكانت المكاتب في أول عهدها تقوم بالإضافة إلى أعمال البريد ببيع طوابع الملح والصودا التي ألغيت سنة 1899 وتذاكر الحجاج وتذاكر السفر والبواخر وسندات الدين وقسائم السندات وورق الدمغة وكذلك أشغال التلغراف والتليفون ... مما يعنى أن هذه الوثيقة كانت فى إطار تنظيم أعمال البوستة بعد نقل ملكيتها الى الحكومة المصرية . أما عن إسماعيل صديق أو المفتش بطل هذه الوثيقة فهو كما تقول بعض المصادر قد ولد فى عام 1830 و أبوه هو «دونالى مصطفى أغا باشا» من قادة الجيش وأمه هي كبيرة وصيفات القصر و صديقة شخصية لخوشيار هانم والدة الخديو إسماعيل وأنه هو والخديو إسماعيل أخوان فى الرضاعة بينما تقول روايات أخرى أنه من عامة الشعب قامت أمه بإرضاع الخديو لذا قربه منه حتى صار صديقه الشخصى ووزير المالية ومفتش عموم الأقاليم المصرية. وعن البذخ والثراء الذى كان يعيش فيه إسماعيل صديق المُلقب بإسماعيل المفتش يقول الفريد جاشوا بتلر مدرس أولاد الخديو توفيق ( الأميرين عباس حلمى ومحمد عبد المنعم ) فى كتابه « البلاط الملكى المصرى « إنه فى إحدى الليالى أعطانى الخديو ( توفيق ) مزيداً من المعلومات عن هذا الرجل فقال أنه كان لديه 400 جارية جميعهن مكسوات بالحرير بشكل مبهر ومتزينات بالمجوهرات الرائعة وكان لديه مجمعة مكونة من 12 مطفأة سجائر ذهبية مرصعة بالماس يبلغ ثمن الواحدة منها 500 ليرة .. أما شئون المطبخ فتتكلف 60 الف ليرة فى العام وعندما ذهب الخديو توفيق وكان وقتها أميراً مع زوجته لزيارة المفتش ذهلا من الفخامة المترفة لقصره الذى يبارى أكثر تصورات الف ليلة وليلة رونقاً ويُحكى أنه عندما كان المفتش يتأهب لمغادرة قصره كان عبيده يشكلون صفين بدءاً من غرفته الخاصة مروراً بالفناء وحتى البوابة الخارجية ويصيحون جميعاً بصوت عال عندما يظهر قائلين « هاهو سيدنا ومولانا « ثم يحيونه أثناء سيره منحنين إحتراماً محركين اليد اليمنى لأسفل ثم يضعون أكفهم على رءوسهم. ولحكاية موت المفتش رواية مأساوية تتناقلها الألسن أورد منها ما ذكره الفريد جاشوا بتلر وهو أن إسماعيل المفتش وضع يده على خزينة الدولة بأسرها وكان دائماً يعرف كيفية تدبير الأموال للخديو فانتزع كل ما لدى الفلاحين حتى أخر مليم عن طريق الكرباج الى أن جاء الى مصر المفوض الفرنسى ليراقب نظارة المالية فأخذ الخديو حذره لعلمه أن حساباته غير سليمة فبادر بتدمير السجلات التى تثبت بذخه وأضمر ضرورة التخلص من المفتش فأرسل الى المفتش قائلاً « صديقى العزيز أرغب فى التحدث معك .. اركب معى لنزور أميراً فى الجزيرة « وما أن وصل الرجلان الى القصر وإجتاز المفتش الردهة حتى القى الحراس القبض عليه وتم القاؤه فى السجن ثم تم اقتياده ليلاً الى باخرة وفيها خُنق والقيت جثته فى النيل بينما تم نشر خبر نفيه الى أقليم النيل الأبيض وبالطبع عندما وصلت الباخرة الى وادى حلفا لم يكن المفتش على متنها ولم يعرف أحد الحقيقة أبداً فقد اختفى المفتش واختفى سره معه ولكن بقيت منه بعض الوثائق القديمة التى تحكى لنا عن الكثير من أسرار مصر فى القرون الماضية.. والى وثيقة أخرى وحكاية جديدة من أوراق قديمة . [email protected]