لسنوات وعقود طويلة ماضية كان السفر يذهب بنا في معظم الأحوال إما الي الشمال أو إلي الغرب, والان تأتي دعوات المشاركة في الندوات والمؤتمرات في بلاد الشرق القريب والبعيد بكثرة ليست معهودة. وتصديقا لذلك, توالت المناسبات الآسيوية, ففي سبتمبر الماضي نظمت اللجنة الدولية لمنع الانتشار النووي ونزع السلاح تحت رئاسة استرالية ويابانية لقاء اقليميا واسعا في القاهرة بالتعاون مع مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بالأهرام, وفي مارس الحالي, وفي قاعة مجلس إدارة الأهرام وبدعوة من مركز الدراسات تمت مناقشة التقرير النهائي للقاء سبتمبر في حضور كوكبة من خبراء منع الانتشار والمعاهدات الدولية الحاكمة للنظام النووي الدولي, ولأول مرة تصلني دعوة لحضور ورشة عمل في جمهورية نيبال بالقرب من جبال الهيمالايا حيث أعلي قمة علي سطح الأرض, وفي العاصمة النيبالية كاتماندو دارت مناقشات حول الحرب في أفغانستان نظمتها شبكة واسعة من مراكز الدراسات الاستراتيجية في الأقطار الممتدة من المتوسط غربا الي تخوم المحيط الهادي شرقا. وأخيرا حظيت بدعوة لحضور قمة الذرة من أجل السلام والبيئة في سيول عاصمة كوريا الجنوبية التي افتتحها يونج سام كيم رئيس جمهورية كوريا السابق والدكتور محمد البرادعي المدير السابق للوكالة الدولية للطاقة الذرية, وفي حضور خبراء من العيار الثقيل العاملين في المطبخ النووي بكل أبعاده الأمنية والقانونية والتكنولوجية دارت مناقشات حول دور الذرة والطاقة المشعة منها في مستقبل العالم ورخائه, وقد كان الاختيار موفقا ان تدور هذه الحوارات في رحاب دولة كوريا الجنوبية الصاعدة بسرعة الصاروخ اقتصاديا وتكنولوجيا والتي نجحت مؤخرا ان تنتزع من فم الأسد الأمريكي والفرنسي والروسي صفقة بناء أربعة مفاعلات نووية لدولة الإمارات العربية بقيمة إجمالية وصلت إلي حوالي عشرين بليون دولار بعد أن شيدت لها في دبي برج خليفة العملاق كأعلي برج في العالم كله. ذهبت الي سيول لحضور هذه القمة وفي ذهني أن جمهورية كوريا أو كوريا الجنوبية كما نطلق عليها قد جاءت الينا في الحقيقة قبل أن نذهب إليها, فالسيارات الأنيقة, والأجهزة المنزلية, والتليفونات المحمولة, وشاشات العرض ذات الألوان الساحرة, وكل ما يشتمل علي تكنولوجيا المستقبل وبأسعار منافسة نراها حولنا بعد أن أزاحت كوريا الجنوبية منافسين تاريخيين من أمريكا وأوروبا وحتي اليابان, والآن تدخل كوريا الجنوبية سوق المفاعلات النووية وسط منافسين كان لهم السبق في صناعة الذرة وحتي تفجيرها, ويتحقق ذلك في فترة تحول تاريخية تراجع فيه البشرية موقفها من هذه الطاقة العظيمة الكامنة في لبنات الصرح المادي للكون, مع أمل في تسخيرها من أجل سلام الإنسان ورخائه وفي زمن تتضاعف فيه ليس فقط أعداد البشر ولكن أيضا طموحاتهم في حياة أفضل. ويعتبر الاقتصاد الكوري الرابع في قارة آسيا والثالث عشر علي مستوي العالم, كما تصنف كوريا باعتبارها الثامنة علي العالم في حجم التصدير الي الخارج, متقدمة في ذلك علي بريطانيا وروسيا وكندا, وتحتل المركز الخامس علي العالم في تصدير السيارات, وهي في الصدارة في مجالات بناء السفن ومشاريع التشييد الكبري, والقطارات السريعة التي تتعدي سرعتها350 كيلومترا في الساعة, كما انها ثالث دولة علي مستوي العالم في عدد براءات الاختراع بعد الولاياتالمتحدةواليابان, وفي انتاج الطاقة النووية, تحتل كوريا الجنوبية المركز السادس علي مستوي العالم والثانية في قارة آسيا, وتختلف عن غيرها في أنها قادرة علي بناء المفاعلات النووية من الألف إلي الياء بما في ذلك إنتاج الوقود النووي, ومعالجة النفايات النووية الناتجة عنها, وهي مجالات لم يتصدي لها بعد إلا عدد محدود من الدول. من لحظة البداية وبعد نقاش مجتمعي واسع وضعت كوريا الجنوبية خطة قومية لبناء28 مفاعلا نوويا لتوليد الطاقة بهدف ان تمثل الطاقة النووية65% من إجمالي الطاقة المنتجة في الدولة, ولتحقيق هذا الهدف الطموح تعاونت كوريا مع الولاياتالمتحدة في بناء أول مفاعل نووي بقدرة1000 ميجاوات وصلت فيه نسبة المكونات الكورية الي حوالي95% من مجمل أجزاء ومكونات المفاعل, وخلال العقود الثلاثة الماضية نما الاقتصاد الكوري بمعدل8.6% وأدي ذلك إلي تزايد استهلاك الطاقة الكهربية من33 بليون كيلووات ساعة في1980 الي371 بليون كيلووات ساعة في2006 وتخطط الحكومة الكورية حاليا للوصول بنسبة الطاقة النووية الي59% في2030, وقد بدأ انتاج الطاقة النووية لتوليد الكهرباء حكوميا, وفي1989 تم بيع21% من أسهم المحطات النووية الي المواطنين مع احتفاظ الدولة بدور النقل والتوزيع, وتنفق الدولة بسخاء علي قطاع الطاقة النووية, وفي هذا المجال أنفقت في2009 حوالي3.68 بليون دولار, وتشتمل خططها الحالية علي إقامة81 وحدة توليد للطاقة النووية حتي.2030 وتمتلك الحكومة الكورية شركة لإنتاج الوقود النووي وتجهيزه للمفاعلات, كما أنشأت شركة للتعامل مع الوقود المستنفذ والنفايات النووية بكل أنواعها) الشركة الكورية لمعالجة النفايات المشعة(, وتدير بالإضافة الي ذلك صندوقا قوميا يتم من خلاله تجميع نوع من الرسوم تخصص لمعالجة النفايات المشعة وتمويل البحوث الخاصة بتطوير تكنولوجيا مبتكرة من أجل تقليل حجم هذه النفايات وخفض مستويات خطرها, وتخطط الدولة حاليا لبناء مستودع قومي تحت الأرض لحفظ النفايات النووية الناتجة من المفاعلات, وطبقا للاتفاق الموقع مع الولاياتالمتحدة, وفي مقابل نقل التكنولوجيا النووية الي كوريا الجنوبية, ليس من حق كوريا معالجة الوقود المستنفذ في الداخل خوفا من استخلاص البلوتونيوم من أعمدة الوقود واستخدامه في انتاج رؤوس نووية, وهو نفس الشرط الذي طبق علي دولة الإمارات العربية, ومن المتوقع مراجعة هذا الاتفاق في.2014 وتحصل كوريا علي خام اليورانيوم من كندا واستراليا لصناعة وقود المفاعلات. وتتميز التجربة الكورية بوجود اتصال وثيق بين التعليم والبحث العلمي والصناعات لتحقيق أمن الطاقة للمجتمع الكوري من خلال تطوير تكنولوجيا نووية آمنة واقتصادية في نفس الوقت, وفي سنة1997 كانت كوريا قد سيطرت تماما علي كل مجالات المعرفة المتصلة بتصميم وإنتاج المفاعلات النووية, وتصنيع الوقود النووي, وتوفير وسائل الأمان للمنظومة كلها, ومعالجة النفايات وطرق حفظها بصورة آمنة, وحاليا يتم التركيز في مراكز البحوث علي تطوير تصميمات جديدة للمفاعلات النووية, وطرق مبتكرة لاستخلاص مزيد من الطاقة من النفايات. وفي معهد البحوث النووية تطور كوريا مفاعلات صغيرة لتحلية المياه لإنتاج40000 متر مكعب في اليوم الواحد, وتعرضها في السوق العالمية, وتبيعها لبعض البلاد المجاورة لها مثل اندونيسيا. وبعد نجاح صفقة المفاعلات مع الإمارات, أعلنت وزارة الاقتصاد الكورية انها تخطط لتصدير80 مفاعلا نوويا الي الخارج بما قيمته400 بليون دولار, كما تهدف ايضا الي احتلال المركز الثالث علي مستوي العالم بعد الولاياتالمتحدة وفرنسا وروسيا في تصدير هذه التقنية النووية والسيطرة علي20% من حجم السوق العالمية في هذا المجال, وبعد الصحوة النووية التي يمر بها العالم مؤخرا وما يتصل بها من تكنولوجيات جديدة سوف ترتفع ربحية هذا المجال مع الوقت لتنافس ربحية صناعة السيارات والالكترونيات وبناء السفن, وبعد نجاحها في صفقة الإمارات تضع كوريا أعينها علي زبائن جدد مثل تركيا والأردن ورومانيا وأوكرانيا وربما مصر ودول أخري في جنوب شرق آسيا, وبجانب تصديرها للمفاعلات, تخطط كوريا الجنوبية للحصول علي عقود في مجالات تشغيل المفاعلات, وصيانتها وإصلاحها, وهي مجالات ذات ربحية عالية ربما تفوق ربحية بناء المفاعلات النووية نفسها. تنظر الولاياتالمتحدة الي المشروع النووي الإماراتي بوصفه نموذجا يجب ان تقلده الدول الأخري في المنطقة العربية من زاوية ضمان عدم انتشار التكنولوجيات الحساسة بعد أن وقعت دولة الإمارات علي بروتوكول ينص علي عدم قيامها بأية أنشطة لها علاقة بتخصيب اليورانيوم أو استخلاص البولوتونيوم, وتعتبر هذه الصفقة الأولي بالنسبة لكوريا الجنوبية, ومن المتوقع ان يبدأ المفاعل الأول انتاجه للكهرباء في سنة2017, ويتضمن العقد بين الجانب الكوري والإماراتي علي بناء المفاعلات النووية, واختبارها, وإمدادها بالوقود النووي, وذلك لأربعة مفاعلات قدرة كل واحد منها يساوي1400 ميجاوات, وكان للسعر المناسب المقدم من الجانب الكوري, فضلا عن العناية بإجراءات الأمان, من المحفزات الرئيسية التي جعلت الجانب الإماراتي يختار العرض الكوري, ويرفض العرض الفرنسي, بعد منافسة شرسة من الجانبين. المزيد من مقالات د. محمد قدري سعيد