حينما توفي السيد خوسيه مونتييل شعر الناس جميعا بالتشفي، حاشا أرملته، بيد أنهم كانوا في حاجة إلى ساعات عديدة كي يعتقدوا جميعا أنه مات حقيقة. واستمر يثير فيهم الريب حتى بعد أن رأوا جثته في غرفة حارة تكتنفه الوسائد، وملاءات الكتان، داخل تابوت أصفر مقبب مثل الشمامة. وكان حليقا يلبس ملابس بيضاء، وحذاء لامعا. وكان وضاح المحيا على صورة حية لم يبد بها أبدا كما يبدو الآن. كان هو السيد شيربي مونتييل نفسه أيام الآحاد، يصيخ إلى قداس الساعة الثامنة إلا شيئا واحدا: ثمة صليب يستقر بين يديه بدل العصا. وكان من الحتم أن يربطوا غطاء التابوت بمسمار ملولب، ثم واروا جثمانه في ضريح الأسرة الفخيم، لكي يقتنع الناس جميعا أنه لم يكن يتماوت. والشيء الوحيد الذي بدا للجميع غريبا بعد مواراته - حاشا أرملته - أن السيد خوسيه مونتييل مات ميتة طبيعية، بينما كان الجميع ينتظر أن يطعن في الخلف من كمين يعد له. وكانت أرملته متيقنة من رؤيته ميتا في فراشه من الشيخوخة- نصرانيا- دون أن يعاني سكرات الموت مثل قديس محدث. وقد أخطأت في بعض التفاصيل فحسب، إذ مات خوسيه مونتييل في سريره المعلق يوم الأربعاء، في الثانية بعد الظهر، نتيجة ثورته، وكان الطبيب قد نصحه بأن ينأى عن كل ما يثير. بيد أن زوجته كانت تتوقع أيضا أن يشيعه الناس إلى مثواه الأخير، وأن يضيق المنزل باستقبال أكاليل الزهور، إلا أنه لم يحضر سوى شركائه، ورهط رجال الدين، ولم يستقبل المنزل غير أكاليل المجالس البلدية. أما ولده، وكان موظفا في القنصلية في ألمانيا، وابنتاه، حيث تقيمان في باريس، فقد بعثوا ببرقيات من ثلاث صفحات، نلمح فيها أنهم حرروها وهم وقوف، مستخدمين الأدوات العامة التي تستخدم في مكاتب البريد، وقد مزقوا أوراقا كثيرة قبل أن يعثروا على الكلمات التي تساوي عشرين دولارا، ولكن أحدا منهم لم يعد بالمجيء. في هاته الليلة عرفت أرملة السيد مونتييل، وهي تبكي الرجل الذي أسعدها مسندة رأسها على الوسادة، طعم الحزن لأول مرة: «سأحبس نفسي إلى الأبد»، وسرحت مفكرة: «إنني أشعر كأنهم وسدوني في تابوت خوسيه مونتييل نفسه، ولا أريد أن أعرف شيئا عن هذا العالم»، وكانت صريحة. هاته المرأة الواهنة، التي برح بها الاعتقاد في الخرافات، والتي تزوجت بإرادة والديها في سن العشرين، بالخاطب الوحيد الذي سمح لها أبواها برؤيته على مسافة أقل من عشرة أمتار لم تلامس الواقع أبدا ملامسة مباشرة. وبعد ثلاثة أيام من إخراج رفات زوجها من المنزل أدركت من خلال العبرات أنه حتم عليها أن تقاوم، لكنها لم تستطع أن تعثر على اتجاه حياتها الجديدة. وكان من الضروري أن تبدأ من البداية. كان تركيب الخزانة الحديدية المعقد من بين الأسرار العديدة التي حملها معه خوسيه مونتييل إلى لحده، وحمل عمدة القرية المشكلة على كاهله: وضع الخزانة مستندة إلى الجدار الضخم في بهو المنزل، وأطلق اثنان من رجال الشرطة الطلقات النارية على القفل. وبقيت الأرملة طوال الصباح تستمع من مخدعها إلى الطلقات النارية، وإلى الأوامر المتتابعة، يصيح بها العمدة، وغمغمت: «كان هذا هو الشيء الناقص». ثم فكرت: «طوال خمس سنوات وأنا أدعو الله أن تنتهي الطلقات، والآن على أن أشكره لأن الرصاص ينطلق في بيتي». وفي ذلك اليوم جاهدت أن تحصر ذاتها في أن تنادي المنية، لكن لم يستجب لها أحد، فأنشأت تنام، وإذا بانفجار مدو يزلزل قواعد البيت، لأنهم اضطروا إلى نسف الخزانة الحديدية بالديناميت. تنفست أرملة مونتييل الصعداء، كان شهر أكتوبر، والأمطار تهطل غزيرة والأرملة تحس بالضياع، وتبحر دون اتجاه في أموال خوسيه مونتييل المبعثرة الهائلة. وقد تكفل السيد كار مايكل خادم الأسرة القديم والهمام بإدارتها. وفي النهاية حين واجهت أرملة مونتييل الواقع الحقيقي بأن زوجها قد رحل غادرت مخدعها لتهتم بشؤون المنزل، فجردته من كل زينة، وبطنت الأثاث بألوان الحداد، ووضعت عقودا جنائزية حول صور الراحل المعلقة على الحوائط، وتعودت رهينة المحبس - خلال شهرين – أن تعض أظافرها، ذات يوم – وعيناها داميتان منتفختان من النحيب المستمر - استرعى انتباهها أن السيد كار مايكل دخل المنزل ومعه مظلته منشورة فقالت له: اطو المظلة يا سيد كار مايكل بعد كل هذه الكوارث لا ينقصنا سوى أن تدخل المنزل والمظلة منشورة! ألقى السيد كار مايكل بالمظلة في أحد الأركان، وكان عجوزا أسود اللون، ذا بشرة لامعة يلبس ثيابا بيضاء، وفي حذائه فتحات صغيرة، صنعت بسكين لتخفيف ضغط الكالو. هي هكذا فقط حتى تجف. وللمرة الأولى منذ رحل زوجها فتحت الأرملة النافذة. وغمغمت وهي تعض أظافرها: كوارث جمة، إلى جانب أن هذا الشتاء لن تغيض أمطاره أبدا. أجاب الإداري: لن تغيض اليوم ولا غدا، ولم أهجع في الليلة الفائتة بسبب الكالو. كانت الأرملة تعتقد في تنبؤات السيد كار مايكل الجوية، وتأملت الساحة الموحشة، والشوراع الصامتة التي لم تفتح أبوابها لترى جنازة خوسيه مونتييل، وحينئذ شعرت بالقنوط من أظافرها، ومن أراضيها الشاسعة، ومن الالتزامات التي أورثها إياها زوجها، ولن تبلغ يوما أن تدركها، وأخذت تنشج قائلة: لقد صنع العالم خطأ. كان الذين يزورونها في تلك الأيام لديهم من الأسباب ما يدفعهم إلى التفكير في أنها ضلت صوابها، إلا أنها لم تكن واعية كما هي آنئذ. وقبل أن تبدأ موجة الاغتيال السياسي كانت تقضي صباحات أكتوبر الموحشة أمام نافذة غرفتها تشفق على الموتى، وتفكر: لو لم يسترح الصانع يوم الأحد لكان لديه من الوقت ما يكمل فيه العالم، وتمضي قائلة: كان ينبغي أن يستغل ذلك اليوم لكي لا تبقى لديه أشياء رديئة، وفي النهاية أمامه الأبد كله كي يستريح. وبعد موت زوجها أصبح الفارق الوحيد أن لديها حينئذ سببا محددا لتضمر أفكارا قاتمة. هكذا. وبينما باتت أرملة مونتييل تنضي من القنوط، كان السيد كار مايكل يحاول وقف الانهيار. ولم تسر الأمور على ما يرام، لأن الشعب- وقد تحرر من تهديد خوسيه مونتييل الذي احتكر التجارة المحلية بالإرهاب- شرع في الانتقام. وفي انتظار الزبائن الذين لن يصلوا. تخثر اللبن في الدنان المكدسة في البهو، وتخمر العسل في زقاقه، وعاث الدود في الجبن المحفوظ في أوعية المخزن المعتمة، وكان خوسيه مونتييل في ضريحه المزين بالمصابيح الكهربائية، وتماثيل الملائكة المنحوتة فيما يشبه المرمر، يكمل حصة ستة أعوام من الاغتيال والتعسف، ولم يثر أحد في تاريخ البلد كما أثري هو في وقت قليل جدا. حين وصل إلى القرية أول عمدة في عهد الدكتاتورية كان خوسيه مونتييل يشايع في فطنة كل الأنظمة وقد أمضى شطر حياته يلبس سرواله، ويجلس أمام باب طاحونة الأرز، وحظي في وقت ما- إلى حد ما- بسمعة أنه محظوظ ومؤمن ورع، ونذر – في صوت جهوري– أن يهب الكنيسة تمثال القديس يوسف بالحجم الطبيعي إذا فاز باليانصيب، وبعد أسبوعين ربح ستة أجزاء من ورقة يانصيب فوفى بنذره. وقد رأى السيد خوسيه يلبس حذاء لأول مرة حين وصل العمدة الجديد، وهو جاويش من الشرطة، رجل أعسر فظ، لديه أوامر صريحة بتصفية المعارضة، وشرع خوسيه مونتييل في أن يصير مخبره الثقة، فهو تاجر متواضع، ذو مزاج هادئ، سمين البدن، لا يثير أي قلق. وقد صنف خصومه السياسيين إلى أغنياء وفقراء. وبالنسبة للفقراء أعدمتهم الشرطة في الميدان العام، أما الأغنياء فقد منحو مهلة أربع وعشرين ساعة كي يغادروا البلد. وقد رسم خوسيه خطة الاغتيال وكان يقضي سحابة أيامه منفردا بالعمدة في مكتبه الخانق، بينما كانت زوجته تشفق على الموتى، وحين كان العمدة يغادر المكتب، تأخذ هي على زوجها وجهته، وتقول له: هذا رجل مجرم، استخدم نفوذك لدى الحكومة كي تعزل هذا الحيوان الذي لن يدع إنسانا في القرية. ويزيحها خوسيه دون أن ينظر إليها، فهو في شغل دائم هذه الأيام، ويقول لها: «لا تكوني جبانة!». وفي الواقع لم يكن همه الأول قتل الفقراء بل طرد الأغنياء، وبعد أن يثقب العمدة أبوابهم بالطلقات، ويمنحهم مهلة لمغادرة القرية، يشتري خوسيه أراضيهم ومواشيهم بثمن يحدده بنفسه، وتقول له زوجته: لا تكن أحمق، سنفلس إذ تساعدهم حتى لا يموتوا جوعا في مكان آخر، ولن يحمدوا لك هذه اليد أبدا. ولم يكن لدى خوسيه مونتييل متسع من الوقت حتى للابتسام، فكان يزيح زوجته من طريقه قائلا: اذهبي إلى مطبخك ولا تزعجيني! وعلى هذه الوتيرة قضوا على المعارضة خلال عام واحد، وغدا خوسيه مونتييل أغنى أهل القرية وأوسعهم نفوذا، وأرسل بابنتيه إلى باريس، وتمكن من الحصول لابنه على منصب في القنصلية في ألمانيا، وكرس حياته لتثبيت سلطانه، بيد أنه مات قبل أن يكمل ستة أعوام متمتعا بثرائه الفاحش. وبعد مرور حول على وفاة خوسيه مونتييل لم تعد أرملته تسمع صرير السلالم، وعادت تخاف الأنباء السيئة وكان البعض يصل إليها دائما في غبش المساء، ويقولون: «اللصوص مرة أخرى..»، حملوا بالأمس خمسين عجلا. ولم تتحرك من كرسيها الهزاز تعض أظافرها، وعادت تقتات بالحفيظة وتتحدث وحدها:لقد قلت لك ذلك يا خوسيه مونتييل، هذا بلد جحود، وأنت مازلت ساخنا في لحدك، أدار الناس جميعا ظهورهم لنا. لم يعد أحد يأتي إلى المنزل، والإنسان الوحيد الذي أراه في هذه الشهور المتثاقلة حيث لا ينقطع المطر هو السيد كار مايكل المثابر، والذي لم يدخل البيت أبدا ومظلته مطوية.. إن الأمور لا تبشر بخير! وقد كتب السيد كار مايكل عدة رسائل إلى ابن خوسيه مونتييل يقترح عليه أن يعود ويتصدى لمباشرة التجارة، وبلغ به أن سمح لنفسه إن يضيف عدة اعتبارات تتعلق بصحة أمه الأرملة، ودائما كان يتلقى إجابات مراوغة، وفي النهاية رد بصراحة: أنه لا يجرؤ على العودة خشية أن يطلقوا عليه الرصاص. وحيئذ صعد السيد كار مايكل إلى مخدع الأرملة، ورأى نفسه مضطرا إلى أن يعترف لها بأن الإفلاس محدق بها. وقالت له: هذا أفضل، لم أعد أطيق الجبن والذباب، إذا رغبت فاحمل ما تريد، ودعني لأموت هادئة. ومن ذلك الحين انقطعت أواصرها بالعالم، إلا من رسائل تكتبها لابنتيها أواخر كل شهر، تقول لهما: «هذا بلد ملعون «، و «ابقيا هنالك دائما، ولا تنشغلا بي، إني سعيدة أن أراكما سعيدتين «، وكانت ابنتاها تتناوبان الرد عليها، ورسائلهما دائما جذلى، وتومئ إلى أنها كتبت في أماكن مريحة، ومضيئة، وأن الحجرة كثيرة المرايا، وتعكس الفتاتين مرارا حين تغرقان في التفكير، وأنهما كذلك لا ترغبان في العودة، وتقولان: بالعكس، ليس عندك الوسط المناسب لنا، ومن المستحيل العيش في بلد همجي حيث يغتالون الناس لقضايا سياسية. وتحس أرملة مونتييل بالراحة وهي تقرأ الرسائل، وتؤكد كل جملة منها بإيماءة من هامتها. وفي إحدى المناسبات حدثتها ابنتاها عن أسواق اللحوم في باريس حيث يذبحون خنازير في لون الورد، ويعلقونها كاملة على الأبواب، موشحة بأكليل وطاقات الزهور، وفي نهاية الرسالة جملة أضيفت، في خط يباين خط ابنتيها، وتقول: «تصوري، إن أكبر وأجمل قرنفلة يعلقونها في عجز الخنزير». وحين قرأت هذه الجملة عرفت البسمة طريقها إليها، وربما لأول مرة من خلال عامين، وصعدت إلى مخدعها دون أن تطفئ أنوار المنزل، وقبل أن تنام وجهت المروحة الكهربائية نحو الحائط، وبعد ذلك أخذت من درج «الكومودينو» مقصا، وورق لصق، ومسبحة، وعصبت أظفر إبهام اليد اليمنى الملتهب من العض، وبعد ذلك أنشأت تصلي، لكن عند الصلاة الثانية من المسبحة وضعت هذه في يدها اليسرى، لأنها لم تدرك العدد من خلال الضمادة، وفي لحظة سمعت هزيم رعود نائية، وبعد ذلك نامت ورأسها مائلة على صدرها، واستلقت يدها التي فيها المسبحة بجانبها، وحينئذ رأت الجدة في البهو، متشحة بملاءة بيضاء، وفي حجرها مشط، وتقتل القمل بإبهاميها، فسألتها: متى أموت؟ رفعت الجدة هامتها قائلة: حينما يحل التعب في يدك.