لعلى أستهل هذه السطور بالاعتراف بأن ما يلى لا يقدم اجابة شافية على السؤال المطروح فى العنوان، ولا تكاد الفترة الوجيزة منذ تأسيس جمهوريتنا الخامسة تقدم سوى الحيرة فى تبيان علام تعول لبناء نظام سياسى يتمتع بقدر من الاستقرار والاستدامة. تعود الحيرة الى فرضيتين أساسيتين، أولهما، أن احتكار أدوات العنف والقدرة على استعمالها مهما بلغت من شراسة وضراوة لا تكفى لتحقيق استقرار واستدامة. أى انه ليس بالقمع والقسر وحده تحيا النظم السياسية. أما الفرضية الثانية وتترتب على الأولى، فتمثل فى أن تمتع نظام سياسى ما بحد أدنى من الاستقرار لابد وأن يستند الى حد أدنى من الرضا بين المحكومين، أو على الأقل بين قطاعات مؤثرة منهم من شأن رضائها أن يكفل تحييد أو اخضاع القطاعات غير الراضية. أى أن النظم السياسية تحتاج »خاصية هيمنة« كى تقدر على الحياة والاستدامة. انبثقت الجمهورية المصرية الأولى من أتون أزمة ضارية قوامها الأساسى هو عجز الحاكمين على مواصلة الحكم وعجز المحكومين الثائرين على النظام القديم على احداث التغيير المنشود، وهى فى هذا تشابه الى حد كبير ظروف انبثاق الجمهورية الخامسة. غير أن شروط الميلاد ليست هى نفسها شروط الحياة والنماء، فى النظم السياسية كما عند البشر (والأخيرة جلها لحظة). فلم يكن لسلطة يوليو وزعامة جمال عبد الناصر أن تحيا لو لم يكن لذلك التعاقد الضمنى عميق المغزى والأثر بين زعيم الأمة وأغلبية الشعب من الفقراء ومتوسطى الحال،أى لو لم يكن لقوانين الاصلاح الزراعي، وللتطوير بعيد المدى بقمم جهاز الدولة القديم، ولتأميم قناة السويس ولمعارك وطنية عارمة تكشف عن حساسية فذة للتحولات فى موازين القوى العالمية، وتحققت فى تحرير الارادة الوطنية ورفع ألوية العروبة والانتماء لمعسكر التحرر الوطنى عالميا. وهذه بدورها فتحت الطريق لخطوات أكثر عمقا وأبعد مدى فى مجالى العدالة الاجتماعية والتنمية، فمصادرة رأس المال الخاص الكبير، والتصنيع وتعميق الاصلاح الزراعي، وبسط شبكات التعليم المجانى والرعاية الصحية المجانية، ووسائط توصيل الفن والثقافة للفقراء. بدورها انبثقت الجمهورية الثانية عن الأزمة بالغة الحدة التى أطلقتها هزيمة يونيو 67، وعن تململ وسخط متزايد فى صفوف الرأسمالية البيروقراطية من سياسات العداء للاستعمار وتقييد الاستثمار الخاص ومواصلة سياسات العدالة الاجتماعية، وكانت هذه الرأسمالية البيروقراطية قد نمت وترعرعت وأثرت فى ظل القطاع العام والاستبداد السياسي، فضاقت بالقيود وبوطأة المعارك الوطنية وباتت تتلمظ على أن ترث قطاع الدولة الاقتصادى ملكا شخصيا مطلقا، وليس عاما مقيدا. وفى المقابل، أضعفت صدمة الهزيمة العلاقة بين الزعيم وجموع الفقراء، وحال الاستبداد السياسى بينه وبين اشراكهم اشراكا فعليا وفعالا فى المعركة الوطنية المحتدمة، فاستبدت بهم معاناة الحرب وويلاتها وأسى الهزيمة واحباطها، دون أن يُفتح أمامهم بابا لطبع المقاومة الوطنية بطابعهم وتحقيق ارادتهم فيها. أقام أنور السادات جمهوريته الثانية على الانفتاح على القاعدة الواسعة للرأسمالية البيروقراطية، وروابطها المتنامية فى القطاع الخاص، وألمح لها بالهمس والغمز أحيانا وبالتصريح أحيانا أخرى، بأن عهد المعارك الوطنية قد انتهى، ومعه ضمانات العدالة الاجتماعية و«استكبار« الكادحين، والقيود على الاستثمار الخاص، ومن ثم على امكانيات توزيع ارث قطاع الدولة الاقتصادى عليهم وفيما بينهم، وبدت الفرص متاحة للجميع، وقليل من لم يحسن انتهازها. غير أنه يصعب تصور استقرار يذكر للجمهورية الثانية بدون الظفر فى المغامرة الكبرى الماثلة فى عبور أكتوبر، وبدون التحالف مع التيار الاسلامى واستخدامه فى اجهاض الحركات الاحتجاجية الطلابية والعمالية، وبدون التحويل الدينى للخطاب الأيديولوجى السائد، وبدون الانفتاح على الخليج البترولي، وقد تعاظمت ثرواته أضعافا بعد حرب أكتوبر، فضلا عن الترحيب الأمريكى والغربى الحافل «بعودة» مصر اليهم، وما ترتب عليه من فيض من المساعدات الاقتصادية والعسكرية. دفع السادات حياته ثمنا لاطلاق الجِنى الدينى الصاعد من عقاله، فكان أن جَنى مبارك وجمهوريته الثالثة الثمار، فقامت جمهورية الاستقرار الكؤود على الهجرة الى النفط، وعلى »الصعود الاسلامي«، حليفا وخصما، وعلى مساعدات أمريكية وغربية هائلة، وعلى دولة بوليسية مطلقة العقال تجمع ما بين اللعب بالكارت الدينى والطائفى تسكينا لطاقة الاحتجاج لدى الشعب، وبين استخدام الارهاب الدينى ذريعة لاخضاع جموع الشعب لارهاب بوليسى لا تحده حدود. كان عهدا قوامه محو المجال السياسى والركون الى ثنائية الدولة البوليسية والدولة الدينية، وقد بسطت طغيانها القاتم على سائر الأقليم. من سوء طالع جمهوريتنا الرابعة الدينية انها جاءت فى أعقاب، وبسبب ثورة شعبية عارمة أطاحت تاريخيا بثنائية الدولة البوليسية والدولة الدينية، وانفتحت بالشعب المصرى والشعوب العربية على آفاق جديدة للحرية والديمقراطية تشكل نفيا جذريا لطرفى معادلة القبح المتبادل، فكانت عوامل الميلاد هى نفسها عوامل الاحتضار، فقدر لها (وبصرف النظر عن التفاصيل الحافلة) أن تحيا لعام واحد فقط لا غير. لا شك فى أن شهرا ونصف الشهر لا يقدمان فترة كافية للحكم على »خاصية الهيمنة« لدى جمهوريتنا الخامسة، ومن ثم على مقومات استدامتها. غير أن المؤشرات بعدها لا توحى بما يتجاوز عوامل الميلاد: حاكمون غير قادرين على مواصلة الحكم، وشعب ثائر لم يكن مؤهلا بعد للوصول للحكم.هذا من جهة، ومن جهة أخرى «عقيدة الصدمة» الماثلة فى استخدام «تروما» حكم الاخوان و«مقاومتهم» الانتحارية والتخريبية، وصعود الارهاب الدينى فى مصر والإقليم، سبيلا لاطلاق يد القمع البوليسى ضد الجميع. عوامل الميلاد، عند البشر كما فى النظم السياسية، قوامها لحظة، وليست بالتأكيد هى نفسها عوامل الحياة والنماء. أجد نفسى فى ختام هذا الاستعراض كما بدأته حائرا: علام تُعَّوِل جمهوريتنا الخامسة؟ لمزيد من مقالات هانى شكرالله