قد تبدوعقوبة 15 سنة سجنا لشاب لأنه «واد قليل الأدب» مغالية بعض الشئ، فضلا عن مخالفتها لقاعدة دستورية وقانونية تميز جميع المجتمعات المتحضرة، وهى تناسب العقاب مع الجرم وأن لا عقوبة بغير قانون. ثمة قاعدة قانونية أخرى تميز تلك المجتمعات، وهى أن القانون عام ومجرد، فإذا كانت «قلة الأدب» جرم جدير بالعقاب ب 15 سنة سجن، لكان محام شهير يتلقى زيارات العيش والحلاوة منذ ردح من الزمن، بل ولكان عدد غير قليل من مقدمى البرامج التليفزيونية وضيوفهم ضيوفا لدى مصلحة السجون. ولكن يكفى أن تسترق السمع لحديث أحد باشاوات أو سيدات المجتمع المصرى هذه الأيام، أو تطالع تعليقات بعضهم ممن يتجولون فى فضاء الشبكات الاجتماعية لتصعق من مزاج دموي، فاشى الطابع يشعرك بأن أصحابه من قبائل الهوتو وهم فى سبيلهم لتطهير رواندا وبوروندى من التوتسي. أكاديمى يحبذ «الحل البرازيلى» باصطيادهم بالرصاص ككلاب ضالة وكاتب كان من فرط ليبراليته ورهافة مشاعره الإنسانية داعية بارزا لفتح صفحة جديدة مع الإسرائيليين، يدعو الشرطة لتشكيل فرق قتل سرية تحرق البيوت وتقتل الناس فى بيوتهم ولا حاجة لقانون أو لدستور فشريعة الغاب هى الحل. كذا، أحكام إعدام بالجملة لم تشهد مصر لها مثيلا منذ مذبحة القلعة، تقابل بالابتهاج والتهليل. تعجب للحماس الذى قوبل به دستور 2014، بينما أبرز المتحمسين يحتفلون بتمزيقه إربا وحبره لم يجف بعد. محاولة تفسير تلك النزعة الدموية الفاشية الطابع، وقد شاعت شيوعا مروعا، تقودنا بالضرورة للتأمل فى علاقة الرأسمالية المصرية بالديمقراطية، ولعل أول ما يقابلنا فى هذا الصدد هو كم هى واهية واهنة. ما يطلق عليه مع الكثير من التجاوز المرحلة الليبرالية فى التاريخ المصرى لم تشهد غير ست سنوات لحكم حزب الأغلبية، الوفد، وذلك فى ظل هيمنة القصر والاحتلال البريطانى على جهاز الدولة، وتاريخ تلك المرحلة تميزه الانسلاخات المتتالية لقطاعات أوسع فأوسع من الرأسمالية المصرية عن المسار البرلمانى وانحيازها لحكومات أقلية قوامها انتهاك الدستور وأسس الديمقراطية البرلمانية. ولكن دعنا من التاريخ الآن، فمجاله دراسة أكاديمية وليس مقالا صحفيا. فاست فوروارد إذن للثورة المصرية فى يناير 2011، وقد جاءت متمردة، ثائرة على حكم أوليجاركى قوامه اتحاد السلطة والمال، فى ظل وفى حماية دولة بوليسية شديدة الشراسة على الفقراء ومتوسطى الحال، لينة إلى هذا الحد أو ذاك على النخبة السياسية والثقافية، والأخيرة استحكمت عزلتها لتبقى أسيرة مقرات الأحزاب وبضعة نقابات مهنية. الخيار الأوليجاركى كما أوضحت فى مقالات سابقة يقوم على استغناء الرأسمالية عن المجال السياسى كسبيل لتحقيق هيمنتها على الدولة والمجتمع، وهو ما يرتبط سببا ونتيجة بتصفية الحياة السياسية تصفية شاملة. لا حاجة فى مثل هذا النظام لأحزاب أو برلمان فى الحقيقة، حيث علاقة الرأسمالية أفرادا وجماعات بالدولة تأخذ شكل الروابط المباشرة بينهم وكبار رجال البيروقراطية فى جميع المجالات،وحيث تختفى الهوامش أو تكاد بين رجل الدولة ورجل الأعمال. غنى عن الذكر أن مكون الهيمنة السياسية يخبو ويضمحل فى ظل الأوليجاركية، لتعتمد الرأسمالية الحاكمة اعتمادا شبه تام على الإرهاب البوليسى مصحوبا بهيمنة أيديولوجية كان الفكر الدينى من أبرز عناصرها، فضلا عن شبكات المحاسيب من القمة إلى القاعدة، وأدواتها الرئيسية الحزب الحاكم وبرلمان لا شأن له بالسياسة وجل دوره توزيع العطايا. الأوليجاركية بحكم طبيعتها نفسها غير عادلة فى اقتسام الكعكة بين أفراد الرأسمالية ومجموعاتها، سواء داخل جهاز الدولة أو خارجها، فهى لا تعتمد على ما يمكن لأولئك تحقيقه من نفوذ سياسى فى المجتمع، يتحقق من خلال أحزاب وبرلمان، ولكن على علاقات الصدفة والروابط المباشرة بينهم وبين كبار رجال الدولة، والأسرة الحاكمة على رأسهم. فأنت لا تحتاج حزبا سياسيا أو وجودا برلمانيا كى تحصل على مئات الأفدنة من أراضى الدولة بملاليم لا تدفعها من جيبك ولكن بقروض بنكية قوامها مكالمة تليفونية لتبيعها فى اليوم التالى بالملايين وتقبض المليارات. لا تعود المنافسة بين أفراد الرأسمالية ومجموعاتها خاضعة لأوزانهم النسبية فى السوق أو فى المجال السياسى الغائب، ولكن تتوقف على صلات وروابط مجالها الصالونات وصفقات البيزنس الخفية. وأما وقد تركت مهمة الهيمنة (أى ضمان خضوع الشعب والحد الأدنى من رضاءه أو خنوعه) للبوليس ورجال الدين (حكومة ومعارضة)، فجل همك هو الاستئثار قدر المستطاع، وعلى حساب المنافسين، برضاء كبار رجال الدولة. من الطبيعى فى ظل وضع كهذا أن تشيع درجة من التذمر وعدم الرضا بين الرأسماليين، فالكل ينظر للكل ويستشعر الغيرة لا من عدد قصور وتكلفة حفلات قران أولاد أقرانه فحسب، ولكن من عدد وحجم الصفقات التى فازوا بها، وأذكر فى هذا المجال مشاركتى فى حوار صحفى مع أحد كبار رجال الأعمال المصريين، وكان الرجل يشكو مع ذلك من التمييز ضده من قبل الدولة. كما أن الضعف المروع لمكون الهيمنة السياسية فى ظل نظام شاخ وهرم وبلغ التحلل به مداه يشعر الجميع بأن المركب الحافل بالخيرات يجنح نحو الصخور مع ذلك. كما أن التنافس المستعر على أذن الباشا الكبير وأسرته وبطانته، يزيد الضعف ضعفا والتحلل تحللا. فى يناير 2011 ارتطم المركب بالصخر فعلا، فهل جنحت الرأسمالية المصرية بدورها لخيار الديمقراطية السياسية نجاة من الغرق؟ لعل الإجابة بينة. لمزيد من مقالات هانى شكرالله