أزعم أننا فى بر مصر لا نعرف ثقافة التبرع.. فلقد تبرع رئيس الدولة بنصف راتبه وبنصف ما ورثه عن والده يرحمه الله واقتدى به رئيس مجلس الوزراء وعدد محدود من رجال الأعمال المصريين.. ونفر قليل من المواطنين، وكان الأمل معقودا على عدد من الإعلاميين الذين تبلغ رواتبهم بالملايين ثم كبار الموظفين الذين انتفخت أوداجهم من كثرة الغني، ومديرى الشركات والهيئات والمؤسسات وما أكثرهم.. لكن شيئا من ذلك لم يحدث والسبب هو غياب ثقافة التبرع.. والأهم أن الانتماء لمصر لا يعرفه هؤلاء أو يعرفونه ولكن بشكل مغلوط!وحسب علمى إنها المرة الأولى فى العالم التى يتبرع فيها رئيس دولة بنصف ميراثه عن والده وكل ما يملك من أجل مصر ويذهب فيها مواطن مصرى عادى إلى أحد البنوك ويقف على الحاجز انتظارا لفتح حساب.. ويسلم حقيبة يده التى بها الأموال.. ثم يعود إلى مكتبه فى رئاسة الجمهورية. إنى أخشى أن أقول لو كان هذا التبرع تم فى دولة أخرى وبين فئات شعب آخر لكان هناك رد فعل مختلف.. لكن يبدو أن رئيس الدولة يزرع مفاهيم فى غير أرضها، ولذلك غض البعض الطرف عما فعل مع أنه قمة فى الوطنية والخيرية وحب مصر.. وهى مفاهيم غابت تماما عن قلوب وعقول الكثيرين.. الذين لا هم لهم سوى الأخذ من مصر وتكوين الثروات والارسال بها إلى الخارج.. بمعنى آخر أن مصر أشبه بسوق كبير يبتاع فيه هؤلاء ويراكمون الثروات والمكاسب، أما أن يفكر أحدهم فى حق وشعب مصر.. ومستقبل اقتصاد هذا البلد.. فلا وألف لا!!. وسؤالى الآن: ألم يقرأ هؤلاء عن الملياردير بيل جيتس وما تبرع به لخدمة شعبه.. بل ما احتفظ به وهو قليل بالنسبة لكل ما يملك وعن الجمعيات الأهلية التى تجر قاطرة التنمية فى بلاد العالم.. والمستشفيات التى تزدهر كل عام بمساعدات المواطنين.. والمساجد والكنائس التى تبنى وتستقطب عددا كبيرا من المصلين. عندما يكون رئيس الدولة فى المقدمة وهو المثال والقدوة.. فماذا ينتظر أصحاب الملايين الذين اعترف بعضهم بأنهم لايقدمون ما يستحق هذه الأموال التى يقتطعونها من أموال الشعب. لقد كان رئيس الدولة واضحا عندما أكد أن مصر تعيش أزمة اقتصادية طاحنة بسبب ترحيل المشكلات فى الأنظمة السياسية السابقة.. ولم يعد أمامه سوى الاستدانة من هيئات المال الخارجية أو أن يواجه شعب مصر بشجاعة بهذه التحديات.. وقد فضل الرجل الحل الأخير وضرب مثلا.. بنصف راتبه ونصف ميراثه.. إنه أمر مؤسف بطبيعة الحال.. لكن المشكلة تكمن فى غياب ثقافة التبرع، ناهيك عن الشعور الأبوى تجاه الحكومة.. فالأخيرة يجب أن تفعل كل شيء.. وهذا لا يتمشى مع الاستراتيجية الجديدة التى تتبعها حكومة المهندس ابراهيم محلب.. فالمواطن العادى أصبح حاكما ومحكوما فى نفس الوقت.. وطموحاته أصبحت عنصرا من عناصر صناعة السياسة القومية.. وبالتالى فإقالة مصر من عثرتها الاقتصادية هى مسئوليته، كما أنها مسئولية الحكومة.. أما النظر إلى حكومة محلب على أنها «الأب» الذى يتجشم وحده الأهوال.. فهذه نظرة قاصرة فضلا عن أنها لم تعد موجودة فى العالم.. .. وأذكر مرة أن إحدى القرى المصرية استشهد من أبنائها سبعة شهداء.. فطالب أحد أبناء القرية بإطلاق اسم الشهداء على المدرسة الوحيدة فى القرية.. فرفض من يرون أنفسهم قادة.. لأنهم لا يعرفون ثقافة الإحساس بالآخر. كما حدث فى أحد المراكز الكبرى أن تبرع أحد أبنائه بمستشفى كبير يعالج المرضى حاليا.. لكن القائمين على المستشفى أزالوا اسم الرجل المتبرع وأطلقوا اسم المركز على المستشفى فقتلوا بذلك دون أن يدروا أى رغبة لانسان يرد عمل الخير. باختصار: أرض مصر مع الجيل الحالى لاتعرف إلا سياسة الأخذ، أما سياسة العطاء فلقد أصبحت أثرا بعد عين. نحن فى حاجة إلى تذكر تاريخنا العريق فى مجال ثقافة التبرع: فمستشقى المواساة فى الاسكندرية تبرع بها أحد الموثرين.. وكلية قصر العينى تبرع بها العينى باشا.. أما كلية الآداب بجامعة القاهرة فكانت أرض فضاء تبرعت بها الأميرة فاطمة بنت إسماعيل. وإذا تركنا مصر وذهبنا إلى فرنسا مثلا وجدنا أن أحد رجال الدين وهو السيد دى سوربون تبرع لطلبة علم اللاهوت بأرض فضاء أقيم عليها مأوى لهم وجامعة.. عرفت فيما بعد باسم جامعة السوربون! إذن نحن بحاجة إلى استرجاع ثقافة التبرع التى غابت وكانت الأساس فى المشاريع القومية الكبرى مثل: مشروع الفرش ومشروع الحفاة.. ومشروع الطربوش.. ما فعله الرئيس السيسى يتمشى تماما مع روح مصر.. وماعدم اهتمام الجيل الحالى من شعب مصر إن هو إلا سحابة صيف وسوف يثوب هؤلاء من المقتدرين إلى رشدهم لأن مصر هى الأبقى وما ينفع الناس هو ما يمكث فى الأرض!. إن الانتماء لمصر هو ما يجب أن يشغل الناس، أما التفكير الضيق الذى يجعل صاحبه ينظر فقط أسفل قدميه فيجب أن يولى وينتهي. وعندما أعاد طه حسين الجوائز والنياشين التى حصل عليها من فرنسا بعد مشاركة الأخيرة فى العدوان الثلاثى الغاشم على مصر لم يكن إلا إعلاء لمصر الوطن والاعتزاز بالانتماء إليه.. إن ثقافة التبرع قيمة غابت إلى حين عن مجتمعنا المصرى لكن لابد أنها ستعود بعد أن ضرب لنا المثل والقدوة رئيس الدولة ورئيس وزرائه وعدد من طائفة رجال الأعمال.. وإن غدا لناظره قريب. لمزيد من مقالات د. سعيد اللاوندي