كنت أصلي العشاء بمسجد أبي العباس المرسي، فقد حرصت منذ أن أحلت علي المعاش أن أصليها هناك. بينما كنت منشغلا بالصلاة؛ لاحظت أن رجلا يتابعني، رأيته بطرف عيني، ولمت نفسي لأنني اكتشفته، فالمفروض ألا أراه، أو أحس به وأن أكون خاشعا تماما في صلاتي فلا أري ما حولي، لكنه الح في مطاردتي. بعد أن أنهيت الصلاة، والتفت يمينا ويسارا لأسلم، وجدته بجواري، قال: تقبل الله منا ومنك. وضعت يدي في يده وتمتمت ووقفت استعدادا لمغادرة المسجد، فسار خلفي ممسكا بحذائه، قال: ألا تعرفني، إنني عباس جارك. ابتسمت قائلا: ربما رأيتك من قبل. اقترب مني وأنا أضع الحذاء علي الأرض خارج المسجد، قال وهو ينحني لأسمعه: كنت أسكن قريبا منك. أومأت برأسي ووضعت أصبعي في الحذاء الضيق لألبسه، فشعرت بالاختناق، لضغط «الكرش» علي صدري، قال: ليتك تستخدم :اللبيسة» في لبسه. انتهيت من لبس الحذاء، كنت ألهث، سرت بجوار سياج المسجد ورجال كثيرون خارجون من المسجد يتحدثون سأسير حتي كورنيش البحر لاستنشق هواء نقيا، ثم أبحث عن «مواصلة» توصلني إلي بيتي، لكنني لمحته يسير خلفي، توقفت لأنهي هذه المطاردة، قلت: قلت لي إن اسمك عباس؟ أسرع نحوي متحمسا ومبتسما: نعم عباس، أعرف والدك الذي كان يعمل موزعا للبريد. نعم أبي كان يعمل في البريد، وكان يسير من بيتنا في «محطة مصر» حتي مقر عمله في المنشية، لكن عباس هذا لا استطيع أن أتذكره. أبوك كان يحمل حقيبة الخطابات الكبيرة في يد، والأطعمة وأكياس الفاكهة باليد الأخري. أومأت برأسي، كنا قد وصلنا لشارع «محمد كريم:و قال: الترام كانت يمر من هنا ويصل بنا بسهولة حتي بيتنا لكن المحافظ.. لم يكمل، قلت وأنا أمد يدي له مودعا: فرصة سعيدة يا أخ عباس، سأسير ناحية البحر. صافحني متمتما ثم سار خلفي، اقتربنا من الحديقة هناك، قال: كنت أتابعك وأنت تستذكر دروسك طوال الليل. ابتسمت له أكثر؛ فأكمل: تقف في الشرفة في عز البرد؛ فتنبأت لك بالنجاح. ضحكت، أردت أن أساله عن صلة تحمل البرد بالنجاح، لكنني لم أرغب في أن أعطيه فرصة للبقاء، فمنذ أن أحلت علي المعاش وأنا أبتعد عن معارفي القدامي، أقضي وقتي في متابعة الأغاني القديمة: عبدالوهاب وأم كلثوم وعبدالغني السيد، وأشد النفس من الشيشة، لكن وقت الصلاة أقوم مسرعا لأتوضأ وأغسل فمي من رائحة الدخان، سأقضي الوقت المتبقي من عمري في هدوء، وفي أشياء أتلذذ بها لن أسمح لأحد بأن يزعجني بآرائه قال: مجدي صديقك القديم مات. التفت إليه في أسي، فقد كان مجدي يسكن البيت المقابل لبيتي، يأتي إلي مساء فنستذكر معا، لكنه اكتفي بالشهادة المتوسطة وترك الحي، وكنا نلتقي بالصدفة كل عدة سنوات، فلا يطيل البقاء، معي، وعلمت بموته بعد ما يزيد على عام؛ وبالصدفة أيضا، وحزنت كثيرا لأنني لم أحضر جنازته. أحسست بالضيق من عباس هذا، قلت في نفسي: «هي كانت ناقصاك؟! فقد أفسد خطتي التي لا أريد أن أحيد عنها. بعد صلاة العشاء كل مساء في مسجد أبي العباس المرسي أحس بشوق لهواء البحر، أسعي إليه سعيا أجتاز الطريق المزدحم بالسيارات بصعوبة، ذكري صديقي مجدي أحزنتني. عندما شرعت في اجتياز الكورنيش؛ شدني عباس في عنف ليبعدني عن سيارة تأتي مسرعة، قال: كدت تقتل نفسك بهذه السيارة. كنت أود أن أسرع قبل أن تصل السيارة إليّ، لكي أهرب منه، لكن قائد السيارة كان أسرع مني. عندما فشلت محاولتي في الهروب منه، أمسكت بذراعه وقلت: تعال لنجلس في هذه القهوة. لم يعارض، أسرع معي، جلسنا في مقعدين بالخارج، أخرج علبة سجائره وطلب قهوة زيادة، أخذ يفتح العلبة بأسنانه، بينما انشغلت بمتابعة الطريق المزدحم. طلبت «آيس كريم» (كان ضمن برنامج يومي أن أتناول «الآيس كريم» وأتابع البحر الهادي في هذه الأيام)، قال وهو يمسك السيجارة التي لم تشتعل بعد: اين عمك يسأل عنك. أيهم؟ الذي كان يلعب الكرة معك. كلهم كانوا يلعبون الكرة معي. شردت طويلا، أنجب عمي عددا كبيرا من الأولاد: سعد الله وفضل الله و..... ياه، لقد نسيت عددهم، فقد تباعدوا عنا، بعضهم يسكن مرسى مطروح والبعض يسكن الاسماعيلية، ولا أدرى أين يسكن الباقى. إنه مريض جداً ويتمنى أن يراك قبل.... لم يكمل الجملة، تخيلت ابن عمى فضل الله، كان أطول منى بكثير، وشعره ناعماً ومسترسلاً فوق قفاه، وتهواه البنات فى حينا، كنت أفضل منه فى الدراسة، فهو يقضى معظم وقته فى الشارع، يلعب الكرة ويمازح الفتيات والنساء. أتراه فضل الله ؟ ربما سألته : تعرف فضل الله ؟ فى الحقيقة أنا أحتار فى أسماء أبناء عمك، لكن المريض الذى يريد أن يراك أصلع و..... قد يكون سعد الله، فقد كانت له صلعة صغيرة منذ صغر سنه. الذى أعرفه عنه جيداً إنه يسكن «السيوف». مادام يريد أن يرانى وهو مريض، فلابد أن نذهب إليه. تعرف بيته ؟ نعم، فقد زرته كثيراً. ................ وقفنا فى الطريق نبحث عن تاكسى نذهب به إلى السيوف. جلسنا فى الخلف، قال : أسكن الآن فى «الناصرية»، تعرفها ؟ لا، أسمع عنها. بعد أن تهدم بيتنا، أعطونا مسكناً هناك. أريد أن يصل التاكسى فى أقل وقت ممكن إلى بيت ابن عمى الذى لا يريد أن يموت قبل أن يرانى، وأن ينتهى هذا اللقاء الغريب. السنوات مرت مسرعة، قضيت بعضها فى بلد عربى غنى، وانتهت سنوات العمل، ولم يتبق سوى التنقل من مسجد إلى آخر وسماع أغانى الطرب، وفحم الشيشة المشتعل طوال النهار وجزءً كبير من الليل. الأموات فى حياتى أكثر من الأحياء. مات والدى موظف البريد وأمى التى كانت تحيك الملابس للناس على ماكينتها لتعين أبى على قسوة الحياة، ومات أخى الذى يكبرنى بعام ونصف العام ، وكنا نلعب الكرة معاً، ونذهب إلى السينمات معاً. أحاول أن أبتعد عن هذا الشجن، أبكى عندما أسمع عبد الوهاب يغنى «من قد إيه كنا هنا» لكن عباس هذا جاء ليعيد إلى كل الأحزان مجتمعة، كلما سألته عن شخص كان يتعامل معى فى الحى، يقول : تعيش أنت، لقد مات منذ سنوات عديدة. كان ينظر من زجاج التاكسى إلى البنايات العالية فى «السيوف»، وصاح فجأة لقائد التاكسى : توقف هنا نزلنا إلى أرض الشارع، نظر إلى بيت لونه أصفر وقال : لا. ليس هذا هو البيت. لم أجبه، سرت خلفه، شعرت بالاختناق، نسيت أننى أعيش فى الحياة، نسيت اسمى، إنه حلم سخيف، وليل طويل لا ينتهى. قال : بيته لونه أصفر، لكنه أكثر ارتفاعاً. وفى أسفله صالون حلاقة. اقتربنا من حديقة وجندى مطافىء يجلس بجوار عربة حريق كبيرة، قال : لا، الحديقة كانت فى الخلف. سرت معه، لو نطقت، سأصرخ وربما يصل الأمر لأن ألكمه فى وجهه، قال : لقد زرته أكثر من مرة، إنه يسكن الدور الرابع. أردت أن أجلس فى الحديقة لألتقط أنفاسى، لكن الوقت يمر مسرعاً ولابد أن أعود إلى بيتى لأستعيد حياتى التى يكاد يضيعها هذا الشخص الذى أحاول أن أتذكره دون فائدة. خرجنا من الحديقة واقتربنا من جندى المطافىء، حدثه : ابحث عن بيت مرتفع ولونه أصفر وتحته صالون حلاقة. شرد الجندى قليلاً، ثم أشار إلى شارع بعيد، فواصلنا السير ثانية. قلت : حاول أن تتذكر اسمه ليسهل الوصول إليه. أذكر لى أسماء أبناء عمك لأتذكره. فتح الله وفضل الله و... وصمت، فقد تبخرت كل الأسماء من ذاكرتى. واجهنا بيتا قصيرا تحته استوديو للتصوير فقال فى فرح : هذا هو البيت. قلت مندهشاً : لكن هذا ليس مرتفعاً ولا لون له. كان البيت بلا طلاء، واجهته متروكة بالطوب الأحمر. قال فى تصميم : هو، هو أين دكان الحلاقة ؟ اختلط على الأمر بين دكان الحلاقة والمصوراتى. دخلنا البيت، كانت دخلته ضيقة ودرجاته متآكلة. دق باب أول شقة قابلته، قلت فى دهشة : إنك تقول «إنه يسكن الدور الرابع» ؟ ربت فوق كتفى مبتسماً : هو، صدقنى، هو. فتحت الشقة امرأة عجوز، قال : الأستاذ موجود ؟ أخلت الطريق لكى ندخل الشقة. إننى لا أعرف زوجة ابن عمى. فقد تزوج عندما كنت غائباً عن الوطن، هكذا كتب لى أخى الذى مات، قال إنه تزوج امرأة قابلها فى بيت سرى بشارع قريب من بيتنا، كان يجلس فى قهوة أمام البيت ليتابعها وإنها تابت وتزوجته. قالت العجوز : تفضلا. كان الرجل نائما على جانبه، ينظر إلينا بعينين متعبتين، لم يرفع رأسه عن الوسادة ولم يرحب بنا، لا كلمة ولا ابتسامة. جلست فوق مقعد خال أمام السرير، حاولت أن أعرف إن كان المريض فضل الله ابن عمى، أو فتح الله شقيقه. لكننى لم أجد فيه شبها لأى منهما. قلت لنفسى : ربما أخ آخر، فأولاد عمى كثيرون. ربت على يده الممتدة خارج السرير : ها قد أتيت من أجلك، ألا تتذكرنى ؟ قال فى صوت ضعيف وهو ينظر بعيداً عنى : إنك مهندس المصنع الذى كنت أعمل به منذ أكثر من عشرين عاماً. صاح عباس وقد انحنى جسده فوق جسد المريض: لا، هو ابن عمك الذى تريد مقابلته. رفع الرجل رأسه قليلاً، نظر إلى عينى وصاح غاضباً : عمى مات من قبل أن يتزوج. قلت : ربما عم آخر سواه. صاح بصوت مرتفع مستغيثاً بزوجته : لم يكن لى عم سواه. قال عباس : لقد زرتك منذ أيام قلائل وطلبت منى أن أبحث عن ابن عمك. جاءت زوجته، نظرت إلينا فى ريبة، وقال المريض لعباس : إننى أراك لأول مرة . قلت فى خوف : أكيد أخطأنا فى معرفة البيت. قمت من مكانى، سرت فى الطرقة ذات الضوء الخافت، والمرأة تتابعنا لكى تتأكد من خروجنا. خرجنا من الباب الذى لم يغلق منذ أن دخلنا. صحت فى عباس غاضبا : أسنظل هكذا نبحث عنه ؟! إننى واثق من وجوده، سنبحث من جديد.