تناولنا في الحلقة "13" من رواية "زمكان" كيف يدخل البطل في حيرة عقلية في العديد من القضايا التى تعد محل جدل ولا يجد إجابات لها، حول علاقة الجنون بالكفر، وهل يحاسب الله الكافر الذى لم يفهم الإسلام لقصور في عقله، وكيف يحقق الله العدل بين الناس، وغيرها من الأسئلة التى لا تزال تطارد بطل الرواية دون أن يجد لها إجابات "في ثلاث سنوات حدثت أشياء مرعبة، وقعت نكسة 1967 ومصر التي كانت زعيمة المنطقة، تلقت هزيمة ساحقة مؤلمة من إسرائيل! ورأينا في السماء الطائرات الإسرائيلية وهي تغير على مطار انشاص وتلقي عليه بالقذائف، ثم رأينا الجنود المصريين الذين كانوا في المطار وهم يهربون ويسلكون الحدائق ويغيرون ثيابهم حتى يسهل لهم الهرب من الجندية والحرب، انتاب الفزع أنشاص كلها، وأخذنا أبي إلى قرية السعيدية القريبة من أنشاص والتي كان جدي لأمي عمدة لها، لنقيم عنده أيام الحرب، في المحن يقترب الناس من بعضهم ويتآزرون، فما بالك بالأقارب والجدود والأبناء والأحفاد . وفي العام التالي مات محمد الميت، مات محمد الميت ذلك البستاني الطيب المستكين، مات محمد الميت الذي حكا لي قصة قابيل وهابيل وبعض قصص الأنبياء، مات حقيقة لا خيالا ولا تمثيلا ولا إغماءً، عندما وصلني الخبر من عبيد ذهبت إلى بيته في الفلاحين، وعلى باب الدار صحت بأعلى صوتي متشنجا : محمد الميت مغمى عليه، لم يمت، هاتوا له دكتور . ولكن الدكتور جورج خرج من الدار واقترب مني وربت على كتفي وهو يقول : محمد الميت مات .. ثم وجه حديثه لعبيد : يا عبيد خذ عبد الله إلى بيته . وفي العام الذي يليه مات عبيد، مات الذي كنت أركب خلفه الدراجة فيسابق بها الريح وأنا أصرخ وهو يضحك، مات الذي كان يحملني فوق كتفيه ويجري بي في البيت، ويصعد السلالم عدوا، مات الذي كان يمسك سلكا كهربائيا عاريا ثم يلمس يدي لمسة خفيفة فتنتابني رعدة الكهرباء فأجري هاربا وأنا أكاد أموت من الخوف والضحك في آن واحد وهو يجري ورائي ضاحكا وأنا أقول محذرا : عبيد بيكهرب، عبيد بيكهرب . وفي العام الثالث كانت الطامة، كنت قد أصبحت في الصف الثاني الإعدادي بمدرسة الشهيد هاشم الرفاعي في أنشاص الرمل، ذهبت إلى المدرسة صباحا مع أصحابي إلا ان أحد المدرسين كان واقفا عند باب المدرسة واجما، وإذ اقتربنا من الباب قال لنا : عودوا إلى بيوتكم فقد مات جمال عبد الناصر، لم نستوعب الكلام، هل من الممكن أن يموت جمال عبد الناصر مثل باقي الناس، انه مختلف عنهم جميعا . عدنا إلى بيوتنا فوجدنا الخبر قد وصل إلى أهالينا، رأيت الرجال في طرقات التفتيش وهم يبكون، ورأيت النساء في الشوارع يولولن بحرقة، كل الفلاحين كانوا في الطريق العام وكأنهم لا يصدقون بل يرفضون التصديق، فهؤلاء أخذ كل واحد منهم خمس أفدنة بعد أن كانوا أجراء لا يملكون شيئا، وهم على ذلك يعملون في الإصلاح الزراعي ولهم رواتب ومعاشات . أما الموظفون والمهندسون فقد رصوا كراسي أمام مقر هيئة الإصلاح الزراعي وجلسوا في حزن وصمت، وصوت الشيخ مصطفى اسماعيل يخرج من إذاعة القرآن الكريم، وعن بعد جلسنا على الأرض وأخذنا نبكي بأصوات خافتة أقرب ما تكون إلى الأنين، ثم سرعان ما تصاعد الأنين وصار نحيبا . أريد أن أقهرك أيها الموت، حين أكبر سأصير طبيبا وسأبحث عن علاج للموت، سأجعل الناس يعيشون للأبد، لن تقهرني أبدا، ولكن يبدو أن الموت أخذ في اعتباره هذا التحدي فناوشني في أغلى من أملك، إذ ما كاد العام الدراسي يمر وبعد الامتحانات وقبل ظهور النتيجة، وفي أحد أيام الخميس عاد أبي إلى البيت في موعده المعتاد، ودخول أبي للبيت كانت تعقبه مراسم معينة، إذ كنا نصمت جميعا ولا نتكلم إلا همسا، إذ لا يصح أن نتكلم أمام أبي بصوت مرتفع، فإذا كنا نتشاجر كففنا عن الشجار، وإذا كنا نلعب ونلهو كففنا عن اللعب وانضبطنا، ثم نقترب منه الواحد تلو الآخر ونسلم عليه ونقبل يده، ويدخل هو إلى غرفته ليغير ملابسه ريثما تضع أمي مائدة الغذاء فيقوم أبي بالنداء علينا، فنأتي من حجراتنا ونجلس على المائدة، كل واحد منا على الكرسي المعتاد له، فيتلو أبي دعاء الطعام ثم يبسمل فنفعل مثله ونبدأ في الأكل . بعد ذلك يدخل أبي إلى غرفته لينام القيلولة، كان لا يمكث في نومه أكثر من ساعة، ولكنه في هذا اليوم ظل نائما فترة طويلة حتى أيقظته أمي ليلحق صلاة العصر، وفي المساء نده عليَّ فذهبت إليه، أجلسني بجواره على كنبته المفضلة، ووضع يده على كتفيَّ ضاما لهما، كان أبي رجلا طيبا بلا حدود، كل الناس تعرف أنه صاحب قلب أبيض شفاف، لم يحمل حقدا ولا ضغينة لأحد، وكان بالرغم من صرامته الظاهرة وجديته الواضحة يسبغ علينا دائما حنانه المفرط، فسكن في قلوبنا حبه واحترامه . قال أبي : أنت كبرت الآن يا عبد الله، أصبحت رجلا . استربت من طريقة الحديث إلا أنني قلت له : نعم . قال : وتؤمن أن الموت والحياة بيد الله . نعم ! . أنت رب الأسرة من بعدي . سكت ولم أرد . أنا أجلي اقترب وسأموت في هذه الأيام . بعد الشر،هل أنت مريض ؟ . لا لا أشعر بأي مرض ولكنني رأيت في أحلام كثيرة أنني سأموت، جاء لي الأموات من أهلي في المنام وأخبروني أنهم ينتظرونني قريبا . هذه كوابيس اتفل عن يسارك يا أبي وقل أعوذ بالله من الشيطان الرجيم . ابتسم أبي وقال : لا ليست كوابيس إنها حقيقة، المهم أن تتماسك بعد موتي لأنك ستكون القائم بشأن هذه الأسرة، وقد تركت لك في هذا الظرف كل الأوراق التي ستساعدكم في المعاش، وتستطيع أن تلجأ للباشكاتب الأستاذ عبد الشكور وهو سينهي لك كل الإجراءات، وقد كتبت لك ورقة وضعتها في الظرف فيها وصيتي، عليك أن تقرأها بعد أن أموت مباشرة . غاب صوت أبي عن أذني فقد لفني اكتئاب مريع، وتاهت أفكاري وانفصلت شعوريا عن اللحظة التي كنت فيها وكأنني أصبت بالعمى والطرش، ولم اشعر إلا وأبي يخبط على كتفي ويقول لي : مالك ؟ أنت رجل، يجب أن تتمالك نفسك، الموت مكتوب علينا جميعا . اغتصبت ابتسامة باهتة وقلت لأبي وأنا أهم بالإنصراف : هذه كوابيس وأنت بخير والحمد لله يا بابا، ربنا يطول عمرك . وعند فجر الجمعة سمعت صوت أبي وهو يخرج من غرفته ذاهبا للحمام حتى يتوضأ فقمت مسرعا، كنا نصلي فجر الجمعة في المسجد دائما، وبعد أن توضأت أنا الآخر، قال لي أبي : أنا متعب بعض الشيئ وسأصلي الفجر في البيت . قلت له : وأنا سأصلي خلفك . انضمت أمي إلينا في الصلاة وبعد أن انتهينا، قامت أمي وهي تقول لأبي : سأصنع لك كوب الشاي باللبن، فرد عليها رافضا وقال لها أن توقظه بعد ساعتين، وساعتها سيشرب الشاي باللبن . دخلت إلى فراشي لأستكمل نومي، إلا أنني استيقظت على أمي تهزني بعنف وهي تنتحب : أبوك مات يا عبد الله، أبوك مات يا عبد الله . قفزت من الفراش قفزا وأسرعت إلى حجرة أبي فوجدته نائما على شقه الأيمن، أمسكت يده فوجدتها باردة، ووجدته وكأنه في نوم هانئ، رأيت على الكومود المصحف الذي كان يقرأ منه فأمسكته وفتحته واخوتي يحيطون بالفراش ويبكون، كانت الصفحة التي فتحت عليها المصحف هي أول سورة النحل، قرأت أول آية " أتي أمر الله فلا تستعجلوه " فأغلقت المصحف . كانت مقبرة الأسرة في قرية الجوسق التابعة لمركز بلبيس والتي ينتمي لها أبي، صممت على أن أدخل القبر مع أبي، سأكون آخر من يخرج من القبر، حاول أعمامي أن يثنوني عن ذلك، إلا أنني رفضت بجدية مفرطة، وكان أن دخلت معه وأخذت أراقب أحد الأعمام واثنين من الأقارب وهم يجمعون بعض العظم الذي في المقبرة ويكومونه في جانب داخل قطعة قماش مهترأة، قال العم : هذه عظام الأجداد والأعمام رحمة الله عليهم، الفاتحة لهم . تلقى القريبان اللذان معنا جثمان أبي الملفوف في كفنه، وساعدناهما أنا وعمي، أدار عمي الجثمان كي يكون مستقبلا القبلة، ثم فك الأربطة وأمسك بعض التراب من القبر وَرَشَهُ على الجثمان وأنا أتعجب مما يفعل . كنت منفصلا تماما عن ذاتي وكأنني لست أنا، ولكنني لم أبك أبدا رغم انفطار قلبي، ومع ذهولي الذي كان باديا عليَّ عرفتُ لماذا دخلت إلى القبر، فقد وضعت في ذهني أنني أريد أن أواجه الموت في عقر داره، أليس القبر دارا للموت، أنا الآن معه في داره وأتحداه، أأنت يا موت أبليت عظام أجدادي وأعمامي وستبلي عظم أبي، لن أهتم بك ولن أبالي، أنت يا موت لا شيئ . حين عدت للبيت قرأت الوصية : "ابني الحبيب عبد الله، هذه وصيتي، عن المدخرات فلا تقلق فهي مع والدتك وهي ستكفيكم كثيرا إن شاء الله، اهتم بنفسك وبإخوتك وكن أبا لهم جميعا، الدفن في الجوسق والعزاء على المقابر ولا داعي لغير ذلك" . ولكن الأعمام والأخوال صمموا على إقامة عزاء كبير على مدار ثلاثة أيام أحدهما كان في الجوسق، والثاني كان في أنشاص، بعد مراسم العزاء تغيرنا كثيرا إذ أصبحنا أسرة حزينة لا تعرف مكانا للسعادة، وزاد من حزننا أننا يجب أن نترك السكن في الفيلا لأنها مخصصة للعاملين فقط، أما الذين تركوا الخدمة موتا أو معاشا فعليهم المغادرة . كانت مجيدة أختي قبل وفاة أبي بعامين قد التحقت بكلية طب عين شمس، وكان تسكن عند أحد أخوالي وتأتي إلينا الخميس من كل أسبوع وتعود للقاهرة الجمعة، وبعد وفاة أبي رأت أمي أن نستأجر لأنفسنا شقة بالقاهرة بجوار خالي في شارع ابن سندر بسراي القبة لتجمع شمل الأسرة، ولكن شمل الأسرة يأبى على التجمع، فقد أصر جدي لأمي "العمدة غريب يوسف" على أن لا أترك مدرستي "الشهيد هاشم الرفاعي" خاصة وأنني سألتحق في بداية العام بالشهادة الإعدادية، وأي تغيير للبيئة التي نشأت فيها أو المدرسين الذين تعلمت على أيديهم قد يؤدي لنتيجة سلبية، فوافقتُ ووافقت أمي المغلوبة على أمرها.