بناء على توجيهات الرئيس السيسي| مدبولي يكشف عن تعديلات قانون الإيجار القديم    مجموعة "تحديد الهبوط"، الإسماعيلي يواجه غزل المحلة اليوم بالدوري    103 لجنة لاستقبال 29 ألف طالب بالدبلومات الفنية بمدارس قنا    أكسيوس: اقتراح أمريكي محدث لوقف إطلاق النار وإطلاق سراح المحتجزين في غزة    وفاة شخصين في اقتحام مستودع للأمم المتحدة بقطاع غزة    60 دقيقة متوسط تأخيرات القطارات بمحافظات الصعيد.. الخميس 29 مايو 2025    إدارة ترامب تستأنف قرار محكمة فدرالية بشأن إلغاء الرسوم الجمركية    ب«193 مسجدًا و 9 ساحات».. الأوقاف تستعد لصلاة عيد الأضحى بالبحر الأحمر    بعد 50 عاما من الانتظار، اختراق علمي قد ينقذ أرواح الملايين حول العالم من بكتيريا قاتلة    «توقعات سعر الذهب 2025».. مصير المعدن الأصفر الشهور المقبلة بعد تصريحات بنك أمريكا    روبيو: سنبدأ في إلغاء تأشيرات بعض الطلاب الصينيين    إيلون ماسك يغادر إدارة ترامب    نتيجة الصف الثاني الإعدادي 2025 بدمياط بالاسم و رقم الجلوس.. تعرف علي الموعد و درجة كل مادة    بعد توجيه شيخ الأزهر.. صرف إعانة إضافية بجانب منحة عيد الأضحى اليوم    زلزال بقوة 5.2 درجة يضرب إيران    4 أعراض لو ظهرت على طفلك يجب الكشف لدى طبيب السكر فورا    للعام الرابع على التوالي.. «مستقبل وطن» المنيا يكرم أوائل الطلبة بديرمواس| صور    الدولار ب49.75 جنيه.. سعر العملات الأجنبية اليوم الخميس 29-5-2025    تنطلق اليوم.. جداول امتحانات الدبلومات الفنية جميع التخصصات (صناعي- تجاري- زراعي- فندقي)    طريقة عمل المولتن كيك في خطوات بسيطة    أمانات حزب الجبهة الخدمية تعقد اجتماعا لمناقشة خطط عملها ضمن استراتيجية 2030    الرئيس يوجه بتسريع تنفيذ مبادرة «الرواد الرقميون»    موعد أذان الفجر اليوم الخميس ثاني أيام ذي الحجة 1446 هجريًا    مقتل سيدة على يد زوجها بالشرقية بعد طعنها ب 21 طعنة    النائب العام يستقبل عددًا من رؤساء الاستئناف للنيابات المتخصصة والنيابات    ثقافة أسيوط تقدم «التكية» ضمن فعاليات الموسم المسرحي    مثال حي على ما أقول    بعد فقدان اللقب.. ماذا قدم بيراميدز في الدوري المصري 2024-2025؟    «احنا رقم واحد».. تعليق مثير من بيراميدز    الإفراج عن "الطنطاوي": ضغوط خارجية أم صفقة داخلية؟ ولماذا يستمر التنكيل بالإسلاميين؟    الشركة المنتجة لفيلم "أحمد وأحمد" تصدم الجمهور السعودي    الزمالك يعلن إيقاف القيد مجددا بسبب الفلسطيني ياسر حمد    لحظة تسلم الأهلي درع الدوري (صور)    اليوم، انطلاق امتحانات الثانوية الأزهرية بمشاركة أكثر من 173 ألف طالب وطالبة    رئيس الحكومة يكشف كواليس عودة الكتاتيب وتوجيهات السيسي    رئيس «الشيوخ» يدعو إلى ميثاق دولى لتجريم «الإسلاموفوبيا»    طقس الحج بين حار وشديد الحرارة مع سحب رعدية محتملة    نشرة التوك شو| ظهور متحور جديد لكورونا.. وتطبيع محتمل مع إسرائيل قد ينطلق من دمشق وبيروت    5 أيام متتالية.. موعد اجازة عيد الأضحى 2025 في مصر للموظفين والبنوك والمدارس    جانتيس: حكومة نتنياهو لن تسقط بسبب «صفقة الرهائن» المتوقع أن يقدمها «ويتكوف»    «كزبرة»يفتح قلبه للجمهور: «باحاول أكون على طبيعتي.. وباعبر من قلبي» (فيديو)    المحكمة الرياضية الدولية توضح ليلا كورة الموقف الحالي لشكوى بيراميدز بشأن القمة    وزير السياحة: بحث فرص زيادة حركة السياحة الوافدة إلى المقصد السياحي المصرى من صربيا    وزير السياحة: السوق الصربى يمثل أحد الأسواق الواعدة للمقصد السياحى المصري    موعد أذان فجر الخميس 2 من ذي الحجة 2025.. وأفضل أعمال العشر الأوائل    إنجاز تاريخي للكرة الإنجليزية.. 5 أندية تتوّج بخمس بطولات مختلفة فى موسم واحد    سعر الفراخ البيضاء والبلدى وكرتونة البيض بالأسواق اليوم الخميس 29 مايو 2025    ماريسكا: عانينا أمام بيتيس بسبب احتفالنا المبالغ فيه أمام نوتينجهام    الركوع برمزٍ ديني: ماذا تعني الركبة التي تركع بها؟    مروان عطية: نستحق التتويج بالدرع بعد موسم صعب    دليل أفلام عيد الأضحى في مصر 2025.. مواعيد العرض وتقييمات أولية    حكم الجمع بين نية صيام العشر الأوائل من ذي الحجة وقضاء رمضان    أحمد سعد يزيل التاتو: ابتديت رحلة وشايف إن ده أحسن القرارات اللى أخدتها    محافظ قنا يشهد افتتاح الدورة الثانية من "أيام قنا السينمائية" تحت شعار "السينما في قلب الريف"    «زي النهارده».. وفاة الأديب والسيناريست أسامة أنور عكاشة 28 مايو 2010    بداية حدوث الجلطات.. عميد معهد القلب السابق يحذر الحجاج من تناول هذه المشروبات    ألم حاد ونخز في الأعصاب.. أعراض ومضاعفات «الديسك» مرض الملكة رانيا    اغتنموا الطاعات.. كيف يمكن استغلال العشر الأوائل من ذي الحجة؟ (الافتاء توضح)    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



«زمكان» الحلقة الثالثة

يمر الزمن علينا سريعا، ولكننى لم أكن أشعر أبدا بالزمن الذى يمرو، فالأحداث التى تتوالى علينا هى هى لا تتغير، ولكن فى بعض الأحيان كانت تحدث بعض التفصيلات الصغيرة التى تصير فيما بعد محل حديثنا وحكاياتنا، صرت فى الصف الثالث الابتدائى، وفى شهر رمضان الذى كان يأتى أيامها فى أوائل الشتاء كانت الدنيا تتغير معنا، وتضيف نوعا آخر من الألعاب والأحداث لحياتنا.
كان الحدث الأول هو انضمام صديق جديد لمجموعتنا وهو عصام ابن الدكتور جورج ميلاد، كان قد التحق بالصف الأول الابتدائى، وكانت شقيقته سوسن تتعهده برعايتها وكأنه ابنها، فاعتبرناه جميعا صديقا لنا نصطحبه فى كل ملاعبنا، ونسند له الأعمال الخفيفة والألعاب اللطيفة التى لا تشق عليه، وكان هو يبدو أكبر من عمره فى الذكاء والفراسة، وكان مثلنا شغوفا بالقراءة، وكأننا كلنا خلقنا من طينة واحدة.
وفى شهر رمضان كانت مجيدة أختى الكبرى تقودنا فى طرقات أنشاص فى قافلة كبيرة من أطفال المنطقة -وكانت هى القائدة دائما- ونحن نمسك بالفوانيس ذات الشمعة ونؤرجحها يمينا ويسارا بشكل رتيب، ومجيدة تغنى ونحن نغنى وراءها «حلّو يا حلّو، رمضان كريم يا حلّو، فك الكيس وادينا بقشيش لا نروح ما نجيش يا حلّو» ثم نختتم تلك القافلة الغنائية عند أذان العشاء حيث يذهب من يذهب إلى بيته، ويذهب بعضنا لصلاة العشاء بالمسجد.
وفى سهرة من السهرات بعد أن لهونا وجرينا وغنينا رأيت عصام جورج يهم بالذهاب مع شقيقته سوسن إلى فيلتهم، فناديته: تعالى سنستكمل اللعب بعد الصلاة، فاستأذن من سوسن فأذنت له على ألا يتأخر، وقالت لى: عصام معاك على ضمانتك يا عبد الله.
أخذته واقتربت من الجامع وقلت له: سندخل لصلاة العشاء أولا.
قال لى: أنا لا أصلى فى الجامع !
فقلت له متعجبا: لماذا؟ أنت كبير الآن ولازم تصلى.
- أنا مسيحى فما ينفعش أصلى فى الجامع.
- إزاى يعنى؟! ما هو أنا مسلم وينفع أصلى فى الجامع، أنت شكلك لا تعرف شيئا، تعالى وأنا أعلمك.
جذبته من يده فانقاد لى، ودخلنا على صنابير الوضوء، وقلت له: اعمل زيى بالضبط.
ففعل مثلى، ثم دخلنا وانضممنا للصف الأخير وبعض المصلين ينظرون إلينا شذرا، لم ألق بالا لهذه النظرات وقلت لعصام: افعل مثلما نفعل، إذا ركعنا اركع، إذا سجدنا اسجد، ففعل، وانتهينا من الصلاة.
أخذ بعض المصلين ينظرون إلينا بدهشة، وأنا لا أعلم سبب دهشتهم، بل إننى اندهشت لدهشتهم، خرجنا مسرعين وعصام يقول لى: هما بيبصوا علينا كده ليه؟
قلت له بعبارات سريعة: معرفش، دى ناس غريبة والله!.
وعند مدخل فيلا الدكتور جورج، سألت عصام: يعنى إيه إنت مسيحى؟ هل المسيحيون لا يعبدون ربنا؟
- لأ طبعا بنعبد ربنا.
- وازاى لغاية دلوقت لم يعلمك أهلك الصلاة، أنت كبرت يا عصام؟
- أنا أصلى زى ماما وبابا.
- يعنى بتصلى فى البيت؟
- كلنا فى البيت نصلى قبل الأكل دايما وساعات ماما بتصلى واحنا نصلى معاها.
- اشمعنا يعنى بتصلوا قبل الأكل! انتم ناس غريبة جدا! يعنى لا يوجد عندكم الفجر والضهر والعصر والمغرب والعشاء.
- نحن نصلى فى كل وقت!
- يآه انتو باين عليكو متدينين قوى!
- لكن صلاتنا مش زى صلاتكم.
- يعنى إيه؟ مش بتتوضوا ومش بتقروا الفاتحة؟
- لا مش بنتوضا، لكن بنستحمى كتير، وما عندناش فاتحة.
- يا سلام دى صلاة جميلة وسهلة دى اللى بالحُما ومن غير فاتحة.
وفى اليوم التالى بالمدرسة أغاظتنى سوسن دون سبب، فانتظرت إلى أن انتهت الحصة، وقلت لها بصوت مرتفع وكأننى أزفها: يا مسيحية، يا مسيحية، يا مسيحية.
بهتت سوسن وكأننى ألقيت حجرا على رأسها.
وفى البيت بعد الغذاء جاءت سوسن لبيتنا، صعدت للدور العلوى، وسلمت على أمى وقالت لها: ينفع يا طنط إن عبد الله يفضل فى المدرسة يقول لى: «يا مسيحية يا مسيحية».
صرخت أمى: يا نهار اسود! ليه كده يا عبد الله.
- هى الى، أغاظتنى فغظتها.
- إنت غلطان جدا، غلط كبير إننا نغيظ حد بالدين.
- طيب فين الغلط، أنا قلت إنها مسيحية، دول حتى يا ماما لا يعرفون الفاتحة ويصلون قبل الأكل!
- انت مالك هما دينهم كده، هما مسيحيين، وبيعبدوا ربنا بطريقتهم.
- لأ مش كلهم مسيحيين، عصام مسلم.
- مسلم ازاى يا ولد، انت هاتخرف، اعتذر لسوسن حالا.
- أنا آسف يا سوسن، لكن عصام مسلم وكمان صلى معايا امبارح فى الجامع.
وهنا قفزت سوسن من السلالم فى خطوتين وأمى تناديها أن تعود، ولكن سوسن ذهبت، وجريتُ أنا من أمام أمى خوفا من العقاب «والشبشب الطائر» يخطأنى وصوته يصفر فى أذنى، وأنا أتعجب: «ما الذى فعلته حتى أستحق العقاب».
عرفت فى اليوم التالى أن عصام تعرض لعقاب كبير من أمه، عدت إلى البيت ساهما وأخذت أفكر: لماذا نختلف فى الأديان، وما هى المسيحية؟ ألسنا جميعا أبناء آدم وحواء، وكلنا نؤمن بالله، فلماذا يكون هناك مسلم، ومسيحى؟ ما بال الناس يختلفون ويتفرقون؟ ولكننى أخطأت، فلطالما أن دينهم يمنعهم من الصلاة فى المسجد فما كان ينبغى أن آخذ عصام للصلاة، هم أحرار، كل إنسان حر فى عبادته، لقد حفظت مع الشيخ محمد عثمان الآية التى تقول: «لكم دينكم ولى دين» نعم حفظتها، ولكنها آية عن الكافرين، والكفار غير المسيحيين لأن المسيحيين يعبدون الله كما قالت لى أمى، هم يعبدون الله بطريقتهم، ونحن نعبد الله بطريقتنا، المسألة بسيطة».
أجمعت أمرى وتوجهت إلى بيت الدكتور جورج، تمليتُ اللافتة على باب الفيلا «الدكتور جورج ميلاد خليل» وكأننى أراها للمرة الأولى، اليوم أدركت أن الكون يحمل بشرا ليسوا شيئا واحدا، ولكن طنط سعاد اسمها «سعاد عبد الله» وأنا اسمى عبد الله! فهل هى مسلمة ونحن لا نعرف؟!.
طرقت الباب ففتحت سوسن، أشاحت بوجهها عنى فقلت لها بصوت خفيض: ممكن أشوف طنط سعاد.
- اتفضل.
دخلت مسرعا، فصاحت سوسن بصوت مرتفع: ماما، عبد الله عاوزك.
سمعت صوتها وهى تقول: اطلع يا عبد الله يا حبيبى.
صعدت الدرج للدور العلوى، فوجدتها تجلس على أريكتها المعتادة، اقتربت منها وقلبى يرتجف للمرة الأولى، هذه أول مرة أقابل فيها طنط سعاد وأنا أشعر أننى أذنبت فى حقهم« قلت لها »وأنا أغالب بكائى: أنا آسف يا طنط، أنا غلطت وماكنتش فاهم، غلطت إنى خليت عصام يصلى فى الجامع وغلطت لما غظت سوسن، لكن هى غاظتنى الأول.. وقبل أن استكمل حديثى سمعت صوتا مكتوما يبكى آتيا من غرفة قريبة، فاندفعت فى البكاء.
ربتت طنط سعاد على كتفى وقالت لى: خلاص أنا سامحتك يا عبد الله، كلنا أولاد حواء وآدم، والمفروض إن الدين بيخلينا نحب بعض، إحنا كلنا لا نعبد إلا الله، إحنا ولاده يا عبد الله.
تعجبت من تعبير كلنا أولاده! كيف نكون أولاد الله وهو الذى خلقنا؟! وما هى أبوة الله لنا؟ فقلت لها: لا أفهم يا طنط، يعنى إيه إحنا أولاده؟!.
- مش مامتك بتحبك قوى؟
- آه.
- وعاوزة لك الخير وبتتضايق لما بيغمى عليك؟
- آه.
- ربنا كذلك، يحبنا زى إحنا ما بنحب أولادنا أو أكتر كمان، ربنا يحبنا لأنه خلقنا يا عبد الله، ولو مكنش بيحبنا مكنش خلقنا.
- ممكن أسأل حضرتك سؤال؟
- اسأل يا حبيبى.
- هو بابا حضرتك مسلم؟
سمعت من خلفى صوت سوسن وهى تكتم ضحكتها، وابتسمت طنط سعاد دهشة، ثم قالت: علشان اسمه عبد الله يعنى؟ لا يا حبيبى هو مسيحى بس كلنا عبيد الله، وكلنا مستسلمين لله.
- طيب فين عصام؟ أنا سامع صوت عياط جوه.
- عصام متعاقب.
- سامحيه يا طنط علشان خاطرى، أنا هادخل أصالحه.
ابتسمت وأومأت موافقة فهرعت إلى غرفة عصام، وقلت له إذ دخلت: هات لعبة السلم والثعبان، سأغلبك كالعادة.
وفى هذه المرة تركته يهزمنى، وكانت أسعد هزيمة نلتها فى حياتى.
بعد أيام جاء لى خبر مفزع لم استوعبه، قال لى أبى ونحن على مائدة الغذاء:
- صديقك أحمد شرشر سيترك أنشاص إلى الأبد.
- ليه؟!.
- والده تم نقله لمنطقة الإصلاح الزراعى فى الدلنجات، وسيسافرون غدا.
- فين الدلنجات؟
- بعيدة، موجودة فى مكان بعيد عن هنا.
تركت مائدة الغذاء دون أن استكمل طعامى، إلا أننى قلت: شبعت والحمد لله.
وعلى الفور عدوت إلى بيت أحمد، وجدته فرحا وكأننا فى يوم من أيام العيد، قلت له: هو صحيح إنكم ها تعيشوا فى بلد تانى.
- أيوه، الدلنجات، دى بلدنا أصلا وكل قرايبى هناك، دى بلد جميلة.
- لا يوجد أجمل من أنشاص.
- بيتهيأ لك.
- يعنى إنت فرحان؟!.
- طبعا.
- طيب اكتب لى عنوانك وسأرسل لك جوابات.
فكتب لى فى ورقة (اكتب على الظرف: الدلنجات، محافظة البحيرة، يصل ويسلم ليد الأستاذ فتحى شرشر ومنه ليد ابنه أحمد، شكرا لساعى البريد).
كان أحمد شرشر من الأصدقاء المقربين منى، وكنا نتنافس فى «الخط العربى» والحق أنه كان أبرع منى فى هذا المضمار، كان يتفنن فى تحسين خطه، وكان بارعا فى برى القلم الرصاص بطريقة تجعل الكتابة مميزة، ولم يكن أحد يباريه فى هذا المجال، أما شخصيته فكانت ودودة مسالمة هادئة، لم يحدث أن أثار مشاكل مع أحد، ولذلك كانت له مكانته عندى، وإذ سينتقل والده لبلد آخر آن لنا أن نفترق، ولم يكن الفراق بالنسبة لى سهلا أو عاديا.
وفى اليوم التالى تحاشيت مقابلة أحمد، إلا أننى كنت أرقب بيته عن بعد، فضلا عن أن صديقنا عدلى عبد الغفار كان يأتى لى بالأخبار، وحين تحركت سيارة العفش، وتحركت خلفها سيارة كبيرة تحمل أسرة «عمى فتحى شرشر» أخذت أنظر إليها بأسى، وقبل أن تغيب السيارتان عن نظرى عدوت بأقصى سرعة خلفهما وأنا أبكى، وعدلى يجرى خلفى وهو يصيح: رايح فين يا مجنون.
أبطأت من سرعتى فاستطرد عدلى: كفاية كده، إحنا بعدنا.
كنا قد اقتربنا من كوبرى أنشاص فجلست على الأرض صامتا لا أحير جوابا.
جلست باقى النهار فى حديقة بيتنا ساهما واجما أخط بالعصا خطوطا متشابكة على الأرض وأحدث نفسى، ما هذا الذى حدث اليوم؟
هذا فراقٌ للأحبة.
مثل الموت؟
نعم مثل الموت.
لن أراه مرة ثانية.
والموت كذلك، إذا مات الشخص فإننا لن نراه مرة ثانية.
ولكن المسافر موجود.
وكذلك الميت موجود.
المسافر أستطيع أن أرسل له خطابا.
ونحن نزور نينا الحاجة وهى ميتة، وأسمع أمى وهى تكلمها وتحكى لها أحداث حياتنا.
ولكننا لا نراها.
والمسافر لا نراه.
ولكن الميت يرانا والمسافر لا يرانا.
إذن الميت أفضل من المسافر.
ولكن يظل فى نفوسنا أمل بمقابلة المسافر، فقد يعود وقد نذهب إليه.
والميت نراه فى الحلم كما رأيت الأستاذ حمدى شملول، وسنذهب بالتأكيد للميت عندما نموت مثله، وهناك فى هذا المكان المجهول الذى لا أعرفه سنلتقى.
إذن السفر والموت قريبان، كأنهما توأمان.
استرحت للنتيجة التى وصلت إليها، إلا أننى كنت حزينا لأن أحمد لم يشعر بالحزن الذى كان فى داخلى، كان فى دنيا أخرى، يتشوق لبلده، كان صريحا عندما قال إن بلده أجمل من أنشاص، هل كل واحد فى الدنيا يعتبر بلده هى أجمل البلاد؟
كنت أشعر بموجدة تجاه أحمد شرشر لأنه كان سعيدا بانتقالهم للدلنجات فى الوقت الذى كنت فيه حزينا لهذا الفراق، أحمد كان فى دنيا أخرى غير الدنيا التى كنت فيها، وبعد أسبوع كتبت خطابا لأحمد، رأيت أن أضع له فيه بعض حبات من الفرامبواز والتوت حيث كان مغرما بهم، إلا أننى نحيت هذه الفكرة من خاطرى، واكتفيت بأن كتبت له: «أخى الحبيب أحمد إنى مشتاق إليك كما يشتاق الجندى إلى الميدان، والبستانى إلى البستان، والمؤمن إلى شهر رمضان، وأبلغك أنى بخير أنا والأسرة كلها، وكل من عندنا فى أنشاص يسلمون عليك، عدلى ومحمد وسوسن وممدوح، وكل أولاد عم علاَّم يسلمون عليك خاصة صلاح، وأرجو أن تكون أنت والأسرة الكريمة بخير، وسلامى لهم كلهم»، ثم عن لى خاطر فاستطردت كاتبا: «ملحوظة: كنت أريد أن أرسل لك حبات فرامبواز فى ظرف الجواب ولكننى نسيت وأغلقت الظرف قبل أن أضع فيه الفرمبواز، فعذرا والمرة الجاية سأرسل لك فرامبواز كتير.. ملحوظة ثانية: رد على هذا الجواب فى أسرع وقت: أخوك المشتاق عبد الله».
مرت الأيام وتوارى أحمد شرشر فى الذكريات، لم أعد أذكره كثيرا، وانشغلت بأحداث جديدة مدهشة حدثت فى أنشاص، إذ عرفنا من الناظر الجديد الأستاذ فرحات أن الرئيس جمال عبد الناصر سيأتى لزيارة أنشاص ومعه بعض رؤساء أجانب، أخبرونا أننا سنتتدرب على أغان معينة سننشدها وقت استقبال الضيوف، تحولت أنشاص كلها إلى خلية نحل، كان الحدث مذهلا بالنسبة للصغار، ولكن يبدو أن الكبار كانوا قد تعودوا على تلك الزيارات إذ استقبل الملك فاروق عام 1946فى قصر أنشاص كل الملوك العرب بمناسبة إنشاء جامعة الدول العربية، كانت زيارات الملوك هذه من القصص التى كان القدماء فى أنشاص يحكونها للصغار، فكان عم «الشافعى» طباخ الملك يحكى لنا عن الولائم، وكان عم «الطوخى» مصور الملك يحكى لنا عن أهم الصور التى التقطها آنذاك، ولماذا يزين بها حوائط الاستديو الخاص به، كنا نستمع لهما بشغف رغم أننا كنا نعلم من أهالينا أن «الشافعى» لم يكن طباخا للملك بالمعنى المعروف، ولكنه كان صبيا من جملة مساعدى الطباخين، إلا أنه تميز فى هذا الفن بعد ذلك وأصبح الطباخ الخاص لمنطقة الإصلاح الزراعى والمسئول عن إعداد الولائم للضيوف المهمين الذين يأتون كثيرا لزيارة مدير التفتيش، أما عم الطوخى فكان يصور العاملين فى القصر وكان فنانا فى التصوير ومبدعا فيه.
كان عم الشافعى مكلفا أثناء زيارة الرؤساء الأجانب وعبد الناصر لأنشاص بإعداد وليمة ضخمة لهم، وكان عم الطوخى مكلفا من مدير التفتيش بتصوير الأحداث وطوابير الاستقبال، وكنا قد حفظنا جميعا الأناشيد الحماسية، واصطففنا منذ الصباح الباكر فى مدخل أنشاص، وأخذنا نغنى معا فى بروفات ميدانية «تيتو، خروشوف ونهرو، أحسن رؤساء فى الدنيا، ومعاهم عبد الناصر حررنا من بريطانيا».
كان اختيار مدير المنطقة وكبار المسئولين فى أنشاص قد وقع على أختى مجيدة وصديقتها منى عباس كى يقدما للرؤساء باقات الورد، وكنت أقف فى أحد الصفوف الخلفية إلا أننى كنت أشرأب بعنقى وأستطيل بهامتى حتى أرى المشهد، كنت أتوق شوقا لرؤية مجيدة وهى تقدم الزهور، وكدت أفقد وعيى من فرط الذهول وأنا أرى طيف عبد الناصر وهو ينحنى لمجيدة آخذا منها باقة الورد، ولكننى على حين غرة سمعت خلفى صوت خوار آتيا من بعيد، تغافلت عن الصوت برهة، فعاد الصوت من جديد، لم يكن الخوار عاديا ولكنه كان دالا على ألم ومعاناة، طبيعته تختلف عن الخوار الذى أعرفه، إذ كان خافتا لاهثا متقطع الأنفاس، شدنى حب الاستطلاع، أجننت أنا، أأترك هذا الاستقبال الذى لن يتكرر لأجرى وراء صوت بقرة تخور ! ولكن هذا هو الذى حدث، انسللت من الطابور وتتبعت صوت البقرة، كان آتيا من حظيرة الإصلاح الزراعى الكبيرة التى تبيت فيها الأبقار والخرفان وباقى الدواب، وكانت فيما مضى إسطبلا عملاقا لخيول الملك، اقتربت من الحظيرة فاقترب صوت الخوار إلا أنه كان أكثر تقطعا وخفوتا، شيء ما أثار الرهبة فى نفسى قبل أن أرى المنظر، وحين دلفت إلى الحظيرة وجدت الدكتور محسن الطبيب البيطرى للمنطقة ومعه مجموعة من عمال الإصلاح الزراعى وهم يحيطون ببقرة نائمة على جنبها على الأرض، تنتابها ارتعاشات تشنجية، كان أحدهم يجلس عند رأسها ويربت عليه، وآخر يجلس القرفصاء عند النصف الأول من بطن البقرة وهو منهمك فى تدليكه، أخذت أمعن النظر وأنا ذاهل عن الدنيا كلها، كان الدكتور محسن يقول لأحد العاملين: هات الحفار.
فأعطاه أحدهم آلة غريبة تشبه السكين، فقام الطبيب بشق جزء من بطن البقرة من الناحية اليسرى الخلفية، والبقرة مستسلمة تماما لمصيرها، ثم قال الطبيب: هات المشرط، فأعطاه نفس الرجل مشرطا، فأخذ الطبيب يوسع من الفتحة التى شقها فى بطن البقرة، ثم قام بإدخال ساعده كله فى بطن البقرة، وأخذ يدير ساعده ويحركه فى بطنها وكأنه يبحث عن شيء، كنت قد انقطعت تماما عن الدنيا التى فى الخارج وأصبحت دنياى كلها منحصرة فى هذا المكان، رآنى بعض العمال وأنا أبحلق فى المشهد إلا أن أحدهم لم يعلق ولم يوجه لى حديثا وكأنه من الطبيعى أن أكون بينهم، قال العامل الذى كان يربت على رأس البقرة: البقرة ماتت يا دكتور، لم يعقب الطبيب ولكنه صاح: أمسكت رجلها، أول ما تطلع حد ييجى يشد معى.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.