عرفت أحمد بحيري عندما عملت بشركة الورق بالإسكندرية، كان وسيماً، دائم الابتسام، يضحي بكل شيء من أجل المبادئ، وعندما عرف الحي الذي أسكنه، سألني عن " جامع اللبان " فقلت إنه خلف بيتي تماما، قال مبتسما: - عائلتي هي التي بنت هذا الجامع. وصمت لحظات ثم قال في أسى: لكننا الآن، ما لناش دعوة بيه. فهمت أنهم غير قادرين على الإنفاق عليه. يقع جامع اللبان في شارع راغب باشا، مساحته واسعة جدا، له بابان أحدهما في شارع راغب والآخر في شارع الطوفي - خلف بيتي – كنت مرتبطاً به منذ طفولتي، أذهب مع أبي للصلاة فيه، خاصة صلاة المغرب كل يوم أحد، فيصلي بنا الشيخ " محمد خفاجة "، يقرأ القرآن بصوتٍ جميل، وبعد الصلاة يفسر القرآن إلى صلاة العشاء، وكنت أذهب لحضور درسه بجامع كرموز، قريبا جدا من الكوبري. ارتبطتْ أسرتنا به، خاصة والدي وعمي، نذهب خلفه من جامع إلى آخر، وفي صلاة العيد، ننتظره في جامع اللبان، فنؤدي الصلاة ونرهف السمع ، فيأتينا النداء من شارع راغب:" الله أكبر كبيرا، والحمد لله كثيرا " ، فيحمل كل منا حذاءه، ونسرع لننضم للساعين إلى المساجد لتجميع الناس، نذهب إلى أرض فضاء بكوم الشقافة، حيث الصلاة في الخلاء. وأحضر صلاة الجمعة بجامع اللبان، الخطيب رجل طويل يعمل ساعي في مدرسة، كان حاداً، دائم اللوم للمصلين، وينذرهم بعذاب أليم. ويغضب إذا دخل أحد الجامع وهو يخطب، فيصلي ركعتين تحية للمسجد، فيصيح فيه: إذا صعد الأمام على المنبر، فلا صلاة ولا كلام. أو يصيح فيه: صلاتك مش مقبولة. كنت أتكاسل أحيانا عن الصلاة، وأتغيب عن حضور درس الشيخ "محمد خفاجة"، فأغضب من نفسي، وأقول لأبي: إذا توقفت عن الصلاة ثانية، لا تعطيني مصروفي، لاضطر للعودة ثانية. يأتي " الشيخ محمد خفاجة " مرتدياً معطفا أبيض، وطاقية من نفس قماش المعطف، كان يمتلك محلا للحلاقة وتصليح الساعات في آخر شارع راغب من ناحية باب عمر باشا. ويقيم عمي " ختمة " كل عام، يدعو فيها الأقارب والأصدقاء، ومقرئ، يقرأ القرآن، ثم يدعو الحاضرين لتناول الطعام، يختار مجموعة متجانسة ومتعارفة، ويقوم فتيان وشباب العائلة بالخدمة، تقديم الأطعمة، ثم دعوة الآكلين لغسل أيديهم، وتقديم الشاي لهم بعد ذلك. وكانت عمتي، ترى أن هذه الختمة هي التي تمنع الأشياء السيئة عن العائلة. ويأتي " الشيخ محمد خفاجة "، فتفرح العائلة به كثيرا، يدخل " الخزانة " – ( الحجرة التي ينام عمي فيها )، يجلس على الأرض، ويصلي بالناس فيها. قلت لعمي: رأيت في المنام، جمال عبد الناصر، يجلس على أرض " الخزانة "، بجوربه كأنه في مسجد، فقال لي: ما الشيخ محمد خفاجة دخلها وصلي فيها. لم يكن عمي يحب عبد الناصر، ويرى أن الشيخ محمد خفاجة أفضل منه. ابتعدتُ عن جامع اللبان، عندما شدني أحد المصلين في عنف، حتى أوقعني على الأرض لأنني سرت أمام رجل يصلي، وازدادت حالة ثقل السمع على أبي، حتى بات لا يستطيع سماع الواعظ، فاكتفى بالصلاة والعودة إلى البيت.. صليت في مساجد بعيدة عن الحي، خاصة مسجد الشيخ إبراهيم عبد الباعث، فقد ارتبطتْ به أسرة قريبة لنا، كان ابنها صديقي وفي نفس سنتي الدراسية، وكان بيتهم قريبا من المسجد. فذهبت معه لتلقي درساً خصوصياً على يد الشيخ حنفي – زوج ابنة الشيخ إبراهيم عبد الباعث- كان يدرس لنا في الحجرة الخاصة به في المسجد. وحضرت دروس الوعظ في مسجد جبر بشارع عرفان والتي كان يقيمها الشيخ السيد صالح، وهو ضابط في البحرية، وألف كتابا – بعد ذلك - عن الأحاديث غير الصحيحة في البخاري ومسلم، جر عليه مشاكل وهجوما شديدين. وناداني بائع الفول على ناصية شارعنا شاكيا من حال جامع اللبان، يجمعون النقود للإنفاق عليه، ويريدني أن أكتب شكوى لوزارة الأوقاف لتتولى الإنفاق عليه، فكتبت وذكرت بعض الوعاظ الذين لا يحسنون القول، فقلت أحدهم يقول في مستهل خطبته: " الحمد لله الذي خلق من الحمار كلباً " وفوجئت ببائع الفول يخبرني سعيدا بأن وزارة الأوقاف ضمت الجامع إليها. لم أكن أظن أنهم سيستجيبون لشكوتي بهذه السرعة. لكن عمي علم بهذا، وغضب مني، لأن الوزارة حددت الدعاة الذين سيخطبون في الجامع، وأبعدوا الشيخ محمد خفاجة وآخرين كانوا يأتون متبرعين للخطبة فيه، وحذرني عمي من أنهم قد يدعون علي، فيصيبني مكروه. قلت له: - لم أقصد ألا الخير. وأشاع بائع الفول في الحي عن قدرتي على كتابة الشكاوي، وطاردني برغباته في كتابة شكاوي أخرى، مرة ضد طبيب لم يأت في مستشفي الجمهورية القريبة، أو أحد معارفه يقسون عليه في عمله، وكنت أتهرب منه، وبعد سنوات عاد طالبا أن أكتب شكوى ضد مقيم الشعائر في الجامع، فاعتذرت، وقلت له: - لا أستطيع أن أؤذي أحدا. وانتقلنا إلى شركة الورق بالطابية، كنا نذهب إليها بالأتوبيسات، وجاء أحمد البحيري بابنه، فتى في الرابعة عشر تقريبا، وسيم مثله، وجاء زميلنا وهيب المسيحي بابنته التي في مثل عمر ابن البحيري، فتحدثا معاً، وذهبا إلى الكنبة في آخر الأتوبيس وجلسا يتحدثان ويضحكان بعيداً عن باقي الركاب، فقال البحيري بصوت مرتفع وهو يضحك: إلحق بنتك يا وهيب ألا ياخدها ابني منك، فجده عملها قبل كده. أعلم أن أم أحمد البحيري كانت مسيحية، فعندما أعلنوا في الشركة عن موت خاله، ذهبت إلى العنوان المذكور في الإعلان المعلق في أماكن كثيرة بالشركة، ففوجئت بعربات نقل الموتى التي تجرها الخيول المغطاة بأقمشة عليها صلبان. ومن أوائل القصص التي كتبتها، قصتي " الشيخ أحمد "، المنشورة في أول مجموعة قصصية لي" الاختيار". وهي عن حادثة حقيقية شاهدت تفاصيلها في الحارة التي تسكنها جدتي، فقد بني رجل طيب بيتاً وجعل دوره الأرضي مسجداً، باب لبيته وباب آخر للمسجد، وسلالم رخامية تشمل البابين، كنا نجلس فوقها، وقد ذكرت هذه السلالم في روايتيّ الجهيني وليالي غربال، وكان مقيم الشعائر بالمسجد الشيخ أحمد؛ ضعيف البصر، يطوف الحواري قبل الفجر معلنا عن الصلاة، ويوقظ الناس نظير قروش قليلة، وحدث خلاف بينه وبين أسرة تسكن قريبة جدا من مسجده، ثلاث سيدات غاية في الجمال، أكبرهن عزيزة، بيضاء ومائلة للامتلاء، وكيداهم - التي تليها – سمراء وذات جسد طويل وعريض، كانتا تجلسان مع بعض النسوة في الحارة أمام البيت، وأصغرهن؛ نعيمة تسكن البيت المواجه، تقضي معظم وقتها في النافذة تتحدث مع أختيها، فقد اشترط عليها زوجها قبل الزواج بألا تقف في الشارع مثل أختيها والكثيرات من سكان الحارة. كانت النسوة الثلاث، يسخرن من الشيخ ويسمونه " الشيخ طوربيل، فيجيبهن بتقطيب جبهته وبتمتمة غير مسموعة. جلستُ وحدي على السلالم في ذلك اليوم، وجاء منعم ابن عزيزة وجلس بجواري، فلمحه الشيخ أحمد وهو صاعد السلالم استعدادا لأذان العصر، فدفعه بحذائه قائلا: " روح أقعد أمام بيت أهلك " فرأته نعيمة من نافذتها، فصاحت بأعلى صوتها: بتزق الولد ليه يا شيخ طوربيل؟! فتمتم بكلمات غير مسموعة، ودخل المسجد، فأسرعتْ عزيزة وكيداهم نحوه في غضب وأخذتا تسبانه، فأسرع بغلق باب المسجد، كانت ذراع عزيزة بيضاء وممتلئة وعارية، فاصطدمت بقطعة خشب ناتئة في الباب، فجرحتها، وسال الدم منها حتى وصل إلى الأرض. وإذ بها تتغير تماما، تصيح وهي تبكي: سامحني يا عم الشيخ أحمد. صُدمت كيداهم مما يحدث، فهي مشتعلة بالغضب من تصرفات الرجل، وما جاءت إلا للدفاع عن أختها وأبن أختها، فما الذي غيرها هكذا ؟! تجمعت النسوة حول عزيزة وكيداهم، وتدخل الرجال، وعزيزة تستعطف الجميع: خلوه يسامحني، ربنا عاقبني علشان أعتديت على بيته. ومش عارفه حا يحصل لي إيه بعد كده. صمتت نعيمة في نافذتها، وعادت كيداهم إلى الحارة حائرة ماذا تفعل، وعزيزة لا تكف عن البكاء، والخوف من عقاب أكبر لتطاولها على بيت الله. والشيخ أحمد يصيح وقد أحس بالفوز: ربنا مش حايسامحك. هذه نظرة الناس البسطاء نحو المساجد، قدسية ورهبة، يرتاحون داخلها، ويضربون بها المثل في الأهمية، فيرددون: " إللي يعوزه البيت، يحرم على الجامع" تقديرا لأهمية البيت الذي وصل لحد تفضيله على الجامع، الشيء المقدس والغالي عندهم.