من يعرف قسطنطين زريق جيداً يعرف كيف إنه تميز في أبحاثه التي تضمنتها كتبه، بالجد والجهد، وباستشراف المستقبل، وبالابتعاد عن البكاء على الأطلال. وكانت أبرز مساهماته في البحث عن مستقبل أفضل لأمته العربية تلك التي تضمنتها كتبه التي أصدرها في السنوات الأخيرة التي سبقت وفاته، أي السنوات التي كان يقترب فيها من التسعين ويتجاوزها. وكان أهم تلك الكتب كتابه «ما العمل»، الذي يقدم فيه أفكاره حول النهوض بالأمة في شروط تاريخية جديدة ملأى بدروس الماضي، تجاربنا فيه، ومفتوحة على التحولات الكبرى التي يشهدها العالم المعاصر. لكنه رحل قبل أن يستكمل ذلك المشروع في عناصره الجديدة. وحين رحل كان، في نظر الذين تابعوا تحولاته الفكرية، شابا في الثالثة والتسعين من عمره. وكان أبرز مظهر للشباب فيه عقله المنفتح على متغيرات العصر في اتجاهاتها المتناقضة، وذهنه المتوقد المملؤ فتوة، وفكره المستنفر الباحث بعمق وقلق واستشراف عن أفضل الوسائل والصيغ والأدوات لتجديد الحياة العربية. إذ كان قسطنطين زريق يرى، من على قمة تجربته الطويلة والغنية التي كادت تقترب من ثلاثة أرباع القرن، أن الفكر القومي الذي كان هو أحد أعلامه البارزين لم يعد صالحاً في صيغه القديمة لتحقيق أي تقدم للأمة العربية، إن لم يكن قد صار عائقا حقيقياً أمام هذا التقدم. وهو استنتاج لا يحتاج القارىء لكتابات مفكرنا الكبير إلي كبير جهد من أجل أن يراه ويتبينه بوضوح. ولعل أهم مكان في كتاباته الذي تبرز فيه أفكاره واستخلاصاته المهمة هذه هو سيرته الفكرية التي كتبها بقلمه في الأعوام الأخيرة السابقة على رحيله. فقد أراد منها أن تكون، عن قصد منه أو عن غير قصد، بمثابة وصيته الأخيرة للأجيال الجديدة. ومعروف أن زريق، الذي أسهم مع بعض زملائه في الثلاثينيات من القرن الماضي في تأسيس حزب قومي سري لم يعش طويلاً، لم ينتم بعد ذلك إلى أي من الأحزاب القومية التي تأسست فيما بعد، ولم يحتل منصباً وموقعاً قيادياً في أي من الحركات السياسية التي عايشها، وصادق زعماءها وكتب عنها وعنهم. ولد قسطنطين زريق في دمشق في عام 1909 في حي القيمرية أحد أحياء دمشق القديمة في كنف أسرة أرثوذكسية من الطبقة الوسطى. تلقى تعليمه الابتدائي والثانوي في مدارس دمشق. ثم التحق بالجامعة الأمريكية في بيروت لدراسة الرياضيات. ثم حوّل مجال دراسته إلى التاريخ ونال درجة بكالوريوس في الآداب في عام 1928. سافر بعد ذلك إلى الولاياتالمتحدة الأمريكية ملتحقا بجامعاتها وحصل على درجة الدكتوراه في التاريخ في عام 1930 من جامعة برنستون. وعاد بعد تخرّجه إلى الجامعة الأمريكية في بيروت حيث عمل أستاذ مساعدا ثم أستاذا في عام 1942، ثمّ نائبًا للرئيس في عام 1952، ثم رئيساً بالوكالة ورئيساً بين الأعوام 1954و1957. كما عمل في جامعة دمشق وفي جامعتيّ كولومبيا وجورج تاون في الولاياتالمتحدة الأمريكية كأستاذ زائر. التحق لفترة قصيرة بالسلك الدبلوماسي السوري بعد الحرب العالمية الثانية، حيث عمل كمستشار أول، ثم كوزير مفوض في السفارة السورية في واشنطن. وكان خلال تلك الفترة عضواً مناوباً لسوريا في مجلس الأمن بين عامي 1945 و1947. سمعت باسم قسطنطين زريق لأول مرة في أواخر أربعينيات القرن الماضي، وتحديداً بعد وقوع نكبة فلسطين. وكنت قد بدأت أتجه نحو اليسار الاشتراكي تحت تأثير الخيبة التي ولدتها في عقلي وفي وجداني تلك النكبة. إذ لم أكن أرى أي مبرر لهزيمة ستة جيوش عربية وجيش مقاومة شعبي أمام العصابات الصهيونية. لذلك التقيت مع قسطنطين زريق بالفطرة، أي من دون أن أحاول تحليل معنى النكبة والغوص في البحث عن معرفة الأسباب التي أدت إلى وقوعها، ومن دون تحديد، أو محاولة تحديد أشكال مواجهة نتائجها. ذلك كان موقفي من النكبة وكان لقائي بالفطرة مع قسطنطين زريق. أما هو فقد حاول في كتابه معنى النكبة» الذي صدر في عام 1949 أن يقدم أفكاراً أولية حول ما عجزت أنا الشاب عن القيام به. وكان الكتاب أول تعبير فكري عن الخلل الذي شعر ذلك المفكر الكبير بوجوده في فكر وممارسة النخب السياسية العربية، أحزابا ومثقفين، التي كانت تتصدى لمهمة تحقيق النهضة العربية بعد حصول عدد من بلدان المشرق العربي على استقلالها السياسي. كنت في ذلك الحين قد بدأت أتعرّف إلى أسماء المفكرين العرب الماركسيين والقوميين. وكان من بين أبرز المفكرين القوميين إلى جانب قسطنطين زريق ساطع الحصري. أما المفكرون الماركسيون فكانوا موزعين بين قادة أحزاب شيوعية يمتلكون قدراً من الثقافة الماركسية السائدة والمعممة من قبل المركز السوفيتي، وبين باحثين مرموقين تخصصوا في نقل النصوص الماركسية إلى العربية، وبين مجتهدين قلائل من أمثال رئيف خوري في لبنان، الذي كان قد أصدر في عام 1943 كتابه المهم الفكر العربي الحديث وأثر الثورة الفرنسية فيه». لا أذكر أنني قرأت أياً من كتابات ساطع الحصري وقسطنطين زريق في ذلك الحين. لكن كتاب قسطنطين زريق عن معنى النكبة الذي وصلتني أصداء أفكاره النقدية قد جعلني أقرب اليه من ساطع الحصري. ولم أقرأ كتاب رئيف خوري الذي يناقش فكر قسطنطين زريق إلا في وقت متأخر. وإذ أسأل نفسي اليوم لماذا كان ذلك الإحجام عندي عن قراءة تلك الكتب والكتابات لمفكري تلك الحقبة من القوميين، فإني لا أجد جواباً حقيقيا ولا أجد تفسيرا إلا فيما أسميه العصبية الايديولوجية التي كانت تجعل الشيوعيين والقوميين في موقف الخصومة المبدئية منهم إزاء الآخرين وإزاء أفكارهم وسياساتهم وبرامجهم. وكان ذلك واحداً من أمراض تلك الحقبة من تاريخنا. من مفارقات تلك الحقبة في حياتي أنني، برغم ذلك الموقف الانفعالي الذي أشرت إليه من الفكر القومي ومن رموزه، كنت أتابع باهتمام نشوء وتطور الحركات القومية القديم منها والحديث، سواء منها تلك التي كانت قد نشأت في العشرينيات والثلاثينيات من القرن الماضي (عصبة العمل القومي التي كان علي ناصر الدين أحد أبرز مؤسسيها ورموزها، وحزب النداء القومي» الذي ارتبط تأسيسه وتطوره باسم كاظم وتقي الدين الصلح ) أم تلك التي أدت في أواخر الأربعينيات وأول الخمسينيات إلى ولادة حزب البعث العربي الاشتراكي، بالاندماج بين حزب البعث العربي بقيادة ميشال عفلق والحزب الاشتراكي العربي بقيادة أكرم الحوراني، أم تلك التي أدت في مطالع خمسينيات القرن إلى ولادة حركة القوميين العرب كحزب قومي مختلف عن حزب البعث ومبادئه وأكثر انحيازاً للفكر الاشتراكي بمرجعيته الماركسية. وكنت أسمع بزكي الارثوزي، احد رواد الفكر القومي المعروف منذ اوائل الاربعينيات من القرن الماضي، من خلال أستاذي في مرحلة الدراسة المتوسطة ( 1945 1946 ) انعام الجندي. وكنت أرى في ذلك التطور وفي تلك التحولات المرافقة له تعبيرا معينا عن ردود الفعل على الخيبات والنكسات والنكبات التي كانت تتوالد بعضها من بعض. وكنت على علاقة مع بعض رموز تلك الحركات، بفعل انخراطي المبكر في العمل السياسي. وكثيرا ما كنت ألتقي في مكاتب جريدة الحياة»، عندما كنت أذهب لزيارة أنسبائي حسين وكامل مروة، وشقيقي محمد حسين وبعض أصدقائي العاملين في التحرير والإدارة، بعلي ناصر الدين وأكرم زعيتر وبآخرين ممن كانوا يمثلون التيار القومي العروبي في ذلك التاريخ. كان الشيوعيون اللبنانيون في ذلك الحين أقل تشنجاً وتطيراً في مواقفهم إزاء الأحزاب القومية مقارنة ببعض أشقائهم في الأحزاب الشيوعية العربية. ويعود السبب في تلك المرونة في موقف الشيوعيين اللبنانيين إلى أن لبنان كان قد تحوّل منذ مطلع الخمسينيات إلى مركز للنشاط السياسي في اتجاهاته المختلفة يساراً ويميناً، ضد الأحلاف السياسية والعسكرية الغربية من جهة، ومركزاً لتنظيم الحركات القومية ولترتيب الانقلابات العسكرية من جهة ثانية. يضاف إلى ذلك تحوله إلى مركز لمظاهرات التضامن مع الحركات الاستقلالية في بلدان المغرب العربي خصوصاً، الجزائر وتونس والمغرب، بالإضافة إلى اليمن في شطريه الجنوبي والشمالي. وكان بعض تلك الحركات يتحول إلى ثورات تحرر وطني مثل ثورة الجزائر والثورة في اليمن الجنوبي والثورة في ظفار. وكان ذلك الأمر يفرض على المختلفين عقائديا من الشيوعيين والقوميين، بمدارسهم المختلفة، أن يعملوا معا ويناضلوا معا من دون أن يخفوا اختلافاتهم وتمايزاتهم وخلافاتهم وصراعاتهم السياسية والأيديولوجية. كان اسم قسطنطين زريق في تلك الحقبة قد بدأ يحتل موقعا متقدماً بين المفكرين القوميين. فإلى جانب كتابيه الأول والثاني الوعي القومي» و»معنى النكبة» اللذين صدرا في آخر الأربعينيات فقد صدر له كتاب أي غد ؟» في عام 1957. كما صدر كتابه المهم الذي ظلّ يعتبره هو أحد أهم كتبه نحن والتاريخ « في عام 1959. لكنه لم يكن في حقبة الخمسينيات وما بعدها الوحيد بين المفكرين القوميين. إذ صعد إلى ذلك الموقع عدد جديد ومهم من المفكرين. و صارت للفكر القومي مدارس مرتبطة بأشخاص وبأحزاب وبزعامات. وكان الرئيس جمال عبد الناصر قد تحوّل بعد ثورة 23 يوليو إلى البطل القومي الأول في العالم العربي. لكن قسطنطين زريق كان أكثر تميزا من سواه من أولئك المفكرين الجدد ومن المفكرين السابقين. ذلك أن انشغاله بالقضية القومية كان أقل تقيدا بالشعارات وأقل صنمية من كثيرين آخرين. كان في كثير من همومه القومية يجمع بين صوفية المتصوفين، ورومانسية الثوريين وعقلانية المفكرين المحدثين. إذ كان يسعى ويحلم ويناضل بسلاح الفكر من أجل إخراج الأمة من سباتها إلى نهضة علمية وثقافية وحضارية وأخلاقية، تحررها من تخلفها الاقتصادي والاجتماعي والحضاري، ومن فساد حكامها ومن عبثهم بمصائرها. كان في عمله الفكري المبدع ذاك ينتقل من حقل للنقاش إلى حقلٍ آخر، ومن ميدان للبحث إلى ميدانٍ آخر، ومن جبهة للصراع مع الذات والآخر إلى جبهة أخرى. وكان بمقدور المتتبعين لكتاباته وأبحاثه أن يلحظوا ذلك من دون عناء. وهي، في أي حال، موجودة في سيرته الفكرية التي لخصها في صيغة مقدمة للمجموعة الكاملة لمؤلفاته التي اصدرها مركز دراسات الوحدة العربية في عام 1994. من سمات زريق، إلى جانب ما أشرت إليه من تميز في فكره التنويري، إنه كان مهموما بإشاعة الديمقراطية وبالدفاع عنها وعن قيمها. وهو يقول في كتاباته أنه اكتشف أهمية الديمقراطية خلال وجوده في الغرب وخلال تعمقه في معرفة اسباب تقدم البلدان الغربية وتطورها. ولقد لاحظتُ وأنا أتابع كتاباته، لا سيما كتابه الأخير ما العمل؟»، أنه يخاطب الأمة العربية انطلاقا من الحالة العامة التي هي فيها، حالة التخلف والتمزق التي جعلت شبابها ينكفئون عنها وعن التزاماتهم إزاء قضاياها الراهنة والمستقبلية. وهو، إذ يدخل في تعريف ظاهرة الإنكفاء هذه، فانه يسترسل في تعداد أنواع هذا الانكفاء، ويسمّي اصحابها بالأسماء التالية: المهزومين والغائبين والقدريين والهاربين والندّابين واللوّامين والمستهزئين والمستغلين. ويُعدد، في مقابل هذه الأنواع من الانكفاء السلبي، أنواعا نقيضة لها، يشير إلى اصحابها بأسمائهم. وهم، بالنسبة اليه القوميون أولاً، والشيوعيون واليساريون والأصوليون. ويدخل في توصيف ظروف كل منهم تبريرا احيانا ونقداً احيانا، مع حفظ النسب بين كل منهم في هذين التبرير والنقد. ويشعر القارىء، من دون عناء، كم هو مهموم هذا المفكر العربي الكبير بحاضر أمته وبمستقبلها، مهموم إلى حدود التصوّر المثالي للحلول التي يقدمها للخروج من الواقع القائم الحافل بالأزمات، في الاتجاه الذي يقود الأمة إلى مستوى أرقى وأكثر حرية وتقدما وأكثر نقاوة أخلاقية. يقول في الجواب عن سؤال وجهه إليه محمود سويد في حواره معه الذي صدر في كتاب عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية في عام 1977: … أما أمتنا العربية، فهي الآن في المرحلة الأولى من يقظتها ونهوضها لتجابه تحديثات هذا العصر. ولا تزال في بدء تكوّنها تعتريها أمراض العجز السياسي والتخلّف الاقتصادي والاجتماعي والتربوي التي ورثتها من قرون طويلة من الانحطاط والتدهور. فلا هي حصّلت المعرفة الضرورية للعيش في هذا العصر، ولا أحرزت الفضائل لحسن استخدام هذه المعرفة في سبيل التحرر. وهي تُعد اليوم بين المجتمعات المتخلفة «. إن هذا الواقع القومي، في نطاق الواقع الإنساني. يحرك فيّ مشاعر التشاؤم والأسى. ولذا أعيش، في هذه الأعوام الأخيرة، في توتر دائم بين العوامل الإيجابية والسلبية الفاعلة في الحياة المعاصرة عامة، وفي حياتنا العربية، وفي توجهنا المستقبلي خاصة «. لقد كوّنت في مخيلتي عن قسطنطين زريق قبل أن ألتقي به، صورة جميلة، من خلال متابعة بعض كتاباته في مرحلة التسعينيات. وسرعان ما جاءت لقاءاتي معه لتعمّقها ولتؤكد الكثير من ملامحها. وقد جاءت تلك اللقاءات بعد اتصال هاتفي أجريته معه بواسطة صديقنا المشترك أنيس الصايغ. إذ توجهت اليه عبر الدكتور صايغ ثم بالهاتف بطلب المساهمة في محور عن أزمة الفكر القومي كان ماهر الشريف يعده لمجلة الطريق» في أواسط التسعينيات. اعتذر يومها عن المساهمة في المحور لأسباب صحية كما فهمت منه. لكنه رحّب بلقاء قريب معه. ثم مر عامان على ذلك الاتصال من دون أن نلتقي. وذات يوم، إذ كنت خارجاً من منزل صديقنا الأديب الراحل منير بعلبكي بعد تقديم التعازي بوفاته، التقيت أمام باب المصعد الدكتور زريق فعرّفته بنفسي. فكان شديد الترحيب بي وعاتبني على عدم الوفاء بالوعد باللقاء. واتفقنا على موعد ذهبت إليه برفقة صديقنا المشترك صقر أبو فخر. خلاصة قراءاتي السريعة المبتسرة هذه لفكر قسطنطين زريق ولتحولاته تقودني إلى الاستنتاج الذي توصل هو إليه من موقعه ومن على قمة تجربته الطويلة الغنية، أنه بات على المفكرين العرب، ماركسيين من كل المدارس وقوميين من كل المدارس، أن يجهدوا في إعادة صياغة مفهوم جديد معاصر للقومية في بلداننا، وإعادة صياغة مفهوم جديد معاصر للعلاقات العربية- العربية في اتجاه وحدة من نوع مختلف عن كل الصيغ السابقة الفاشلة. ولعلّ هذا هو الدرس الأكبر الذي يجب علينا أن نستخلصه من قراءتنا لتاريخ وتراث هذا المفكر العربي الكبير. والبداية الحقيقية في هذا الجهد انما تكون بخروج مفكرينا من النمط الحالي في ابحاثهم، على اهمية، إلى نمط أكثر راديكالية، إنما أكثر نقداً في قراءة الحقبة الماضية من تاريخنا، وأكثر استشرافا للمستقبل، اقتداء بما فعل مفكرنا الكبير قسطنطين زريق، واستكمالا لجهده العبقري في هذا المجال. وأنصح القراء لمعرفة المزيد عن سيرة هذا المفكر العربي الكبير بأن يقرأوا إلى جانب كتابه الأخير «ما العمل» الكتاب القيم الذي أصدره عنه عزيز العظمة بعنوان «قسطنطين زريق عربي للقرن العشرين». رواد التنوير .. كامل عياد كامل عياد مثقف سوري كبير من أصل ليبي. كتب كثيراً. وحاضر كثيراً. ومارس التدريس في عدة جامعات عربية. وتميزت أبحاثه الفلسفية والتاريخية والاجتماعية بالدقة وبالموضوعية، وبالثقافة العلمية الواسعة. وكان، منذ ثلاثينات القرن الماضي، واحداً من كبار التنويريين العرب المعاصرين، بالمعنى الذي يشير إلى الأفكار الجديدة التي كان عدد غير قليل من المثقفين العرب قد بادروا إلى نشرها منذ مطالع القرن العشرين. وهي أفكار تنتمي إلى الاشتراكية بمدارسها المختلفة، بما فيها المدرسة الماركسية، من دون أن يقترن ذلك، بالضرورة، بانتساب أصحاب تلك الأفكار إلى أي من الأحزاب التي كانت تتبنى الاشتراكية كمرجعية فكرية لها وكمشروع سياسي للتغيير. إذ كانوا، في معظمهم، أصدقاء للأحزاب الشيوعية الناشئة. وكان بعضهم ينتمي عضوياً إلى بعض تلك الأحزاب، مع احتفاظهم بحريتهم المطلقة في التفكير وفي الاجتهاد وفي الفكر. ورغم الأهمية الكبيرة التي تشير إليها دراسات كامل عياد وعدد من أقرانه في سورياولبنانوفلسطين ومصر والعراق، فإن النسيان قد غمرها. وهذا، لعمري، واحد من جوانب الخلل في تعاملنا مع تراثنا الذي، بالانطلاق منه وبالاستناد إليه، نستطيع أن نتابع بحثنا عن الطريق الذي علينا أن نسلكه لتحقيق نهضتنا المستعصية. وهذا التراث الحديث، الممتد من أوائل القرن العشرين حتى منتصفه، ما هو إلاَّ تواصل، في ظروف تاريخية جديدة، مع تراث عصر النهضة في القرن التاسع عشر. وهو العصر الذهبي الأول في حركة الفكر في بلداننا. وهو، في تقديري، لم يحظَ بما يستحقه من الاهتمام، بحثاً واستنتاجاً في خدمة حركة النهضة، إلاَّ في القليل النادر من الأبحاث والدراسات، رغم كثرة تلك الأبحاث. وُلد كامل عياد في مدينة طرابلس الغرب (ليبيا) في عام 1901. وتوفي في دمشق في عام 1986. ورغم أنه وُلد في ليبيا فإنه غادر الحياة كمثقف سوري كبير، من دون أن يعرف حتى الكثيرون من أقرب أصدقائه إليه أنه ليبي. وكنت من بين هؤلاء. إذ كنت قد تعرفت إليه في مطالع ستينات القرن الماضي، من خلال مشاركته في الاجتماعات والمؤتمرات التي كان يعقدها مجلس السلم العالمي. ثم استمرت علاقتي معه ولقاءاتي به حتى السبعينات في دمشق، كلما كنت أزورها. وكان من بين زملاء كامل عياد الذين نشأت بيني وبينهم علاقة صداقة في تلك الفترة كل من الدكتور نظيم الموصلي والدكتور عبد الكريم اليافي. وهما أستاذان جامعيان يشير إليهما كامل عياد في كتاباته مع آخرين من زملائه في الفكر والبحث والتدريس الجامعي. وكان هؤلاء كثيرين. وكانوا من كبار المفكرين والعلماء من أمثال الدكتور محمد كردعلي والدكتور جميل صليبا. لنقرأ في السطور التالية ملخص سيرته التي كتبها بقلمه في عام 1961:»وُلدتُ سنة 1901 في طرابلس الغرب (ليبيا). ولمّا اضطر والدي الشيخ علي عياد إلى الهجرة من البلاد أثناء الغزو الطلياني لطرابلس سنة 1911 استصحبني معه إلى تركيا، فتابعت دراستي في استانبول، ثم في مدينة حلب. وفي سنة 1921 سافرتُ إلى ألمانيا وبدأت الدراسة في جامعة برلين. كما اشتغلت بالصحافة. واشتركت في تأسيس مجلة بالعربية اسمها «الحمامة»، وجريدة بالألمانية تحت اسم «صدى الإسلام». وقد حصلت على شهادة الماجستير في الآداب، والدكتوراه في الفلسفة سنة 1930. وعدتُ إلى دمشق، وأخذت أعمل في الصحافة إلى أن عُيِّنتُ سنة 1933 مدرِّساً للتاريخ في المدرسة التجهيزية (الثانوي) بدمشق. وفي سنة 1936 سافرت إلى بغداد، حيث قمت بتدريس تاريخ العرب والإسلام في دار المعلمين العالية لمدة ثلاث سنوات. وفي سنة 1939 رجعت إلى التدريس في المدرسة التجهيزية ودار المعلمين الابتدائية بدمشق. وفي سنة 1944 عُيِّنتُ عضواً في لجنة التربية والتعليم (إدارة البحوث). ولمّا أُسِّست كلية الآداب في جامعة دمشق عُيِّنتُ أستاذاً مساعداً للتاريخ اليوناني. ثم انتقلت في سنة 1950 إلى كلية التربية أستاذاً لتاريخ التربية. وفي سنة 1952 انتدبتُ للعمل في الإدارة الثقافية لجامعة الدول العربية. وقد انتُخبتُُ في سنة 1958 عضواً عاملاً في المجمع العلمي العربي بدمشق (مجمع اللغة العربية). نشرتُ في برلين سنة 1930 أطروحتي باللغة الألمانية عن «نظرية ابن خلدون في التاريخ والاجتماع». واشتركتُ في تأسيس مجلتي «الثقافة و»المعلمين والمعلمات» بدمشق، ونشرتُ فيهما كثيراً من المقالات. كما كنت سكرتيراً لمجلة «كلية التربية». كذلك اشتركت مع بعض الزملاء في تأليف سلسلة من الكتب المدرسية التاريخية ولا سيما التاريخ القديم. ونشرت بالاشتراك مع الزميل الدكتور جميل صليبا: «مختارات من ابن خلدون»، وكتابي «حي بن يقظان» لابن طفيل، و»المنقذ من الضلال» للغزالي. كما اشتركتُ معه في تأليف كتاب «المنطق وطرائق البحث العلمي». وكنتُ نشرتُ في سنة 1942 كتاب «علم الأخلاق». وفي سنة 1958 ترجمتُ بتكليف من منظمة اليونسكو رسالة عن (كتب التاريخ المدرسة والتفاهم الدولي)، وقد نشرت في عدد خاص من مجلة «المعلم العربي» بدمشق. وهناك مقالات ومحاضرات كثيرة نُشرت في مختلف المجلات». هذه السيرة لا تعبِّر عمَّا حفلت به حياة كامل عياد من نشاط فكري شمل مختلف القضايا التي كانت موضع اهتمام أهل الفكر في تلك الحقبة في سوريا وفي العالم العربي. ولذلك لا بد من استكمالها بما قدمه كل من صديقه وزميله الدكتور جميل صليبا، وما كتبه عن مرحلة ألمانيا في حياة كامل عياد البروفسور الألماني كرهارد هيب، وما أتيح لي أن أعرفه منه وعنه في كتاباته وفي مساهماته في تأسيس ثلاث مجلات لبنانية وسورية هي: الثقافة (1934) الطليعة (1935 1939) والطريق (1941). في عام 1958 كُلِّف الدكتور جميل صليبا بتقديم صديقه الدكتور كامل عياد إلى أعضاء المجمع العلمي في الجمهورية العربية المتحدة، ليكون عضواً فيه، بعد أن كان قد انتُخب في وقت سابق عضواً في المجمع العلمي العربي قبل الوحدة المصرية السورية. وشمل ذلك التقديم عرضاً لسيرة حياة كامل عياد في شكل عام ولسيرته الفكرية في شكل أكثر تحديداً. ويشير صليبا، في مستهل حديثه، إلى أن والد كامل عياد (الشيخ علي عياد) كان أول مَنْ مال من أسرته إلى العلم. فأتعب نفسه في تحصيله حتى بلغ منه مُناه. أما والدته فكانت من بني المسعودي. وهي عائلة مشهورة في طرابلس الغرب، أدباء وفقهاء. ويضيف صليبا بأن والد كامل اضطر إلى الانتقال إلى اسطنبول في تركيا عندما أغارت إيطاليا على ليبيا في عام 1911. واستقر هناك. فعينته الدولة العثمانية حاكماً على منطقة مرجعيون جنوبلبنان، ثم رئيساً لكتاب المحكمة الشرعية في حلب. وظلَّ يتنقل من منصب إلى آخر، إلى أن استقر به المقام كعضو في محكمة التمييز في دمشق بعد خروج العثمانيين من سوريا، في أعقاب الحرب العالمية الأولى. ويشير الدكتور صليبا هنا إلى الأثر الذي تركته في نشأة كامل عياد وفي تكوُّن شخصيته سيرة والده والأحداث التي حفلت بها تلك الحقبة من تاريخ المنطقة. ويسرد صليبا تفاصيل عن المرحلة الأولى من دراسة كامل عياد في تركياوسورياوفلسطين قبل أن ينتقل في عام 1921 إلى ألمانيا، كما يشير إلى ذلك كامل نفسه في سيرته بقلمه. ويتوقف صليبا بعد ذلك عند المرحلة التي أصبح فيها كامل عياد باحثاً معروفاً في الفلسفة وفي التاريخ. ويشير إلى أطروحة الدكتوراة عن فلسفة ابن خلدون التي كانت برأي صليبا البداية المميزة في بروز اسم كامل عياد كمفكر مبدع من الدرجة الأولى. ويعلِّل صليبا ذلك بذكر المفاصل الأساسية في تناول عياد لفكر ابن خلدون التاريخي الاجتماعي. ثم يعدد أوجه النشاط التي كان هو، أي صليبا، شريكاً له فيها، في المجلات التي كتب فيها وشارك في تأسيسها. ثم يتحدث بعد ذلك عن بعض النماذج من أبحاثه التي يتناول فيها عياد تطور الحضارة الحديثة والأسس التي تقوم عليها. وهي العلم والبحث العلمي المستندين إلى المشاهدة والتجربة والتأمل العقلي. فهذان العلم والبحث العلمي والشروط التي يتمان فيها هما اللذان يحققان للمجتمعات تطورها الاقتصادي والاجتماعي. وهما اللذان أعطيا للحضارة العالمية الحديثة أهميتها التاريخية. ويستشهد صليبا في موضوع الحضارة وفي فهم عياد لها ببعض الفقرات المأخوذة من بعض محاضراته. أما البروفسور الألماني كرهارد هيب فيتناول المرحلة الألمانية من حياة ودراسة ونشاط كامل عياد. ويمهد هيب لحديثه عن عياد بالإشارة إلى أنه كان واحداً من مجموعة كبيرة من الشباب الذين قدموا في عشرينات القرن الماضي من بلدان آسيوية وإفريقية لتلقي العلم في جامعات ومدارس ألمانيا مستفيدين من ظروف مالية ملائمة لم تكن متوفرة في بلدان أوروبية أخرى، أهمها سعر صرف العملة الصعبة مع بداية التضخم النقدي الذي كان قد بلغ ذروته في ألمانيا. ولم يقتصر نشاط أولئك الشباب على اكتساب المعارف العلمية والمهنية. بل تعداه إلى اكتساب الخبرات والرؤى السياسية، التي استفادوا منها فيما بعد في نضال شعوبهم ضد الكولونيالية. وكان من بين أولئك الشباب، إضافة إلى كامل عياد، عصام حفني ناصف وعلى العاني وعبد الفتاح محمد من مصر، ومحمد علي الحامي من تونس، الذي أسس في تونس في عام 1924 اتحاداً نقابياً وطنياً. ويتوقف هيب عند أهمية اختيار عياد كلية الفلسفة قسم الاجتماع، معتبراً ذلك حدثاً مثيراً وحالة استثنائية، بالمقارنة مع الآخرين الذين اختاروا الكليات والمعاهد التطبيقية. ذلك أن العلوم الاجتماعية، كما يشير إلى ذلك هيب، كانت من العلوم التقدمية، الجديدة في أوروبا في ذلك التاريخ. وزاد من أهمية خيار عياد لموضوع دراسته الجامعية اهتمامه بمواد التاريخ والفلسفة والاقتصاد والإسلاميات. وعزَّز اهتماماته الأكاديمية بدراسة اللغة الألمانية وإتقانها. ويقول هيب إن عياد، الذي كان قد بدأ يمارس نشاطه السياسي، قد اختير في عام 1925 ليكون رئيساً لجمعية الطلاب العرب. وكان نشاط الجمعية تعبيراً صريحاً عن المشاعر المناهضة للاستعمار في أوساط الطلاب العرب. وجهدت الجمعية لكي يكون ذلك مفهوماً من الأوساط الطلابية الألمانية. وقامت بنشاطات واسعة في دعم الثورة السورية التي كانت قد بدأت في ذلك التاريخ (1925-1927). أما كتاباته الفكرية فقد كانت واسعة الآفاق، متعددة الجوانب. إلاَّ أنها لم تصدر كلها في كتب. ولعل الكتاب الأول عن فكر ابن خلدون التاريخي الاجتماعي هو أهم كتبه. أما كتبه الأخرى فكانت في معظمها كتباً مدرسية. لكنها كانت تحتوي على خلاصات أفكاره. وكانت في معظمها كتباً تاريخية وفلسفية. كتب التاريخ هي: «كتاب التاريخ»، «تاريخ الشرق القديم»، «تاريخ العصور القديمة»، «تاريخ اليونان». أما كتب الفلسفة فهي: «المنطق وطرائق العلم العامة»، بالاشتراك مع جميل صليبا، «علم الأخلاق»، «مختارات من ابن خلدون» مع مقدمة، «حي بن يقظان» لابن طفيل مع مقدمة بالاشتراك مع جميل صليبا، «المنقذ من الضلال» للغزالي مع مقدمة بالاشتراك مع جميل صليبا. وله كتيِّب يضم مقالين: الأول عن مكسيم غوركي والثاني عن عمر فاخوري. إلاَّ أنَّ مقالاته وأبحاثه التي نشرها في المجلات العربية حول مجمل القضايا الفكرية في الفلسفة والتاريخ وعلم الاجتماع وفي السياسة والأدب وفي الاستشراق فهي التي تشكل المرجع الأساسي لفكره. وقد أحسن الكاتب السوري محمد كامل الخطيب صنعاً بإصدار كتاب من جزئين بتكليف من وزارة الثقافة السورية يتضمنان منتخبات من كتابات كامل عياد، تشير إلى همومه واهتماماته الفكرية المتعددة. ولذلك فإن هذا الكتاب بجزئيه هو أفضل مرجع يمكن الركون إليه لمعرفة فكر كامل عياد بجوانبه المختلفة. وسأحاول هنا أن استعرض بكثير من التكثيف بعض أفكار كامل عياد التي لا يمكن الحديث عنه من دون الإشارة إليها ولو في شكل عابر. لكن فكر كامل عياد التاريخي يبرز بوضوح أكثر في بحثه الطويل الذي نشره في عام 1976 في مجلة مجمع اللغة العربية تحت عنوان «عبر التاريخ». يقول في هذا البحث:»إن موقف الشعوب من تاريخها يشبه موقف الأفراد من ذكرياتهم الماضية. فالشعوب الفتية لا تهتم إلاَّ بالمستقبل وتنصرف في الحاضر إلى تكوين ذاتها وبناء حضارة جديدة. وحين تتوقف هذه الشعوب عن النمو والتوسع والإبداع تتجه إلى الماضي وتتغنى بأمجاده أو تدعو إلى إحيائه والرجعة إليه. وأكثر الناس تعاسة هم أولئك الذين لا يعرفون إلاَّ القليل من التاريخ لأن المعرفة المشوهة والثقافة الناقصة أكثر الأمور خطراً وفساداً. فمن الأفضل أن نسعى إلى الوعي التام الواضح، وأن ندرس التاريخ لنعرف: من نحن؟ إلى أي مرحلة من التطور وصلنا وفي أي طريق نسير؟... إنَّ حياة البشر، سواء كانوا أفراداً أو جماعات أو شعوباً، ليست سوى سلسلة متصلة الحلقات يتبع بعضها بعضاً. ولا سبيل إلى تعليل الحوادث في أي مرحلة إلاَّ بالرجوع إلى المراحل السابقة وربط الأسباب بالمسببات والعلل بالنتائج. إننا في التاريخ ندرس كيف كانت المجتمعات البشرية في الماضي ثم كيف تطورت تدريجاً حتى أصبحت على ما هي عليه اليوم. وبذلك نتوصل إلى معرفة العوامل التي أثرت في هذا التطور واكتشاف التيارات والقوى التي دفعت إليه ومازالت تدفع. كما نطلع على البواعث والحوافز والاختلافات والتناقضات التي أسهمت وتسهم في تكييف الحوادث. ودون هذه الدراسة علينا أن نفهم الشئون السياسية والاجتماعية عامة وأن ندرك مشكلات عصرنا واتجاهاته... مثلما أن التاريخ ضروري لفهم الحاضر فهو كذلك لا بد منه للاعتياد على التفكير الواقعي. وبينما نتعلق في العلوم الطبيعية والرياضية بالمفاهيم المجردة والأحكام المطلقة فإننا في التاريخ نبحث الموضوعات الإنسانية المعقدة بصورة مشخصة وضمن شروط زمنية ومكانية معينة، ونتعلم بذلك معنى النظرة النسبية. إذ نرى كيف أن جميع الأحداث يرتبط بعضها ببعض ويؤثر أحدها في الآخر، وأن أحوال البشر في تطور دائم، وأن كل حالة ليست سوى مرحلة في طريق لا تنتهي، وأنه لا يمكن الوصول إلى الحقيقة الموضوعية المطلقة ومعرفة الأحداث التاريخية كما جرت فعلاً، وإنما نحكم عليها من وجهة نظر محدودة، وبالنسبة إلى الظروف المتقلبة». وفي حديثه عن الفلسفة وعن دورها يقول في مقال نشر في مجلة «الطليعة» في عام 1935 تحت عنوان «الفلسفة والحياة: ماذا تفيد الفلسفة»: «... إن كل معرفة تبدأ في الواقع بالفلسفة. وتنقلب إلى علم حتى انتهت بنا إلى نتائج معيَّنة واضحة. وكل واحد من العلوم كان جزءاً من الفلسفة، ثم أصبح في الأخير قاعدة لصناعة عملية. فمراحل المعركة البشرية ثلاث: فلسفة علم صناعة... إننا إذا أمعنا النظر نرى أن الفلسفة هي أساس جميع العلوم. بل هي أصل كل معرفة، ومبدأ كل تقدم فكري». ويتابع عياد في المقال ذاته:»... إن تجاربنا الأولى في الحياة تسوقنا إلى الشك في قيمة هذه الحياة. نرى أموراً كثيرة لا معنى لها. فنضطرب، ويستولي علينا القلق. ولكن هناك قوة في صميمنا تدفعنا إلى الاعتقاد بأن حياتنا ليست عبثاً. بل لها معنى وغاية، وإنه يجب علينا مكافحة القلق والخروج من الفوضى. وكم من الشباب يقولون مثل «ميتيسا» في كتاب «الأخوة كرامازوف» لدستويفسكي: إننا لا نشتهي الملايين من المال. بل نريد جواباً على أسئلتنا وحلاً لمعضلاتنا». ويعالج موضوع الاستشراق في سلسلة من المقالات تشكل كتاباً، لكنه لم ينشرها في كتاب. وقد وضع لهذه المقالات عنواناً عاماً هو «عن الغرب والاستشراق». ثم قسَّم أبحاثه إلى عدة عناوين تناول فيها أساس نشوء الاستشراق، مستعرضاً بداياته من إيطاليا إلى فرنسا إلى ألمانيا وسواها من الدول، ومبيناً الدوافع العملية والسياسية وراء اندفاعه كل مستشرق في بلده. وقد حاول أن يكون في تناوله للاستشراق موضوعياً، وحيادياً، وعلمياً إلى الحدود القصوى. يقول في تحديده للشروط التاريخية التي أدَّت إلى ولادة حركة الاستشراق: «إن النزعة الفعلية التي تميزت بها حركة الأنوار في القرن الثامن عشر كان لها أثر كبير في تغيير نظرة الأوروبيين إلى الشرق عامة. فقد كانت هذه الحركة تسعى، قبل كل شيء، إلى التحرر من سيطرة الكنيسة ومن القيود التي فرضتها على الحياة الفكرية. وكانت الجماهير قد عرفت الشيء الكثير عن البلاد الشرقية بفعل كتب الرحلات الحقيقية أو الخيالية التي شاعت في هذا العصر. وكان الإعجاب عظيماً بحضارة الصين خاصة. فأخذ الكتَّاب ينوهون بديانة «كونفوشيوس» وما امتازت به من حكمة وتسامح، ويستندون إلى ذلك في مهاجمة تعصب رجال الدين المسيحي. ثم اتسع نطاق الاهتمام فشمل الهند وفارس والشرق الإسلامي كله... وكانت حياة الرسول وشخصيته وتعاليمه تحتل دوماً المقام الأول بين الموضوعات التي صار يعالجها المستشرقون». هذه اللوحة المكثفة من شخصية كامل عياد ومن أفكاره ومن استخلاصات أبحاثه في علمي التاريخ والاجتماع، تشير بوضوح إلى دور ريادي شاركه فيه عدد غير قليل من رواد الفكر العربي الحديث منذ مطالع القرن العشرين، امتداداً لدور رواد حركة النهضة في القرن التاسع عشر، وإغناء له في ظروف تاريخية مختلفة.