على الرغم من مرورما يقرب من ثلاثين عاما على وفاة الأديب الكبير عبد الرحمن الشرقاوي فما زال يعد واحدا من أعظم الأدباء المصريين في القرن العشرين وإلى الآن. فلقد قيض للشرقاوي أن يكون رائدا في مجالات أدبية عديدة: - في مجال الشعر الحر تعد قصيدته الأولى،» من أب مصري إلى الرئيس ترومان» (1951)، البداية الحقيقية لشعر التفعيلة في مصر، وفي مجال الرواية تعد»الأرض» (1953)، أول عمل روائي مصري وربما عربي، يطبق مبادئ الواقعية الاشتراكية، وينطق الفلاحين بلغتهم الحقيقية ويأخذ سلوكياتهم مأخذ الجد، وفي مجال المسرح كان أول من استخدم الشعر الحر استخداما حقيقيا ناجحا في أولى مسرحياته، «مأساة جميلة»، التي استقبل عرضها الأول عام (1962) بعاصفة من الترحيب. أما كتابه عن النبي(ص)، «محمد رسول الحرية» فيعد أول سيرة «أدبية غيرية» في مصرعلى الأقل، بعد أن سبقه طه حسين إلى كتابة أول سيرة «أدبية ذاتية»، وهي كتاب «الأيام». ودعنا نوضح أولا أن ما قد يعتبره البعض سِيَرا أو تراجم أدبية غيرية، سبقت ترجمة الشرقاوي، مثل «حياة محمد» لهيكل و»عبقرية محمد» للعقاد و»الشيخان» لطه حسين وغيرها، ليس في الحقيقة سيرا أدبية، بل ليس سيراعلى الإطلاق. وسيتبين القارئ ذلك فيما يلي : يقصد بالسير أو التراجم الأدبية الغيرية ذلك النوع من الخطاب السردي الذي يقوم على دعامتين أساسيتين: تتمثل الأولى في بحث تاريخي حقيقي، يقوم فيه المؤلف بدور المؤرخ الكفء، الذي يمحص الوقائع بحيدة تامة، لكي ينفذ في النهاية إلى ما يقتنع بأنه «الحقيقة»، ثم يرتب ما توصل إليه على نحو يتيح تفهمه واستيعابه. وواضح أن هذا البحث التاريخي ليس خاصا بالتراجم، وإنما هوضروري لها، كضرورته لدراسة التاريخ وللبحث العلمي بعامة. أما الدعامة الثانية الفارقة فتتمثل في نشاط خيالي يلعب فيه المترجم دور المبدع، فيقدم – في إطار «الحقائق» التي توصل إليها كمؤرخ – بناء «سرديا يشبه العمل القصصي»، يطلعنا فيه الكاتب على حياة المترجم له، وعلى فترة الطفولة والمراهقة بصفة خاصة، وهو يرى الحياة- كما رأيناها نحن الكبار- من خلال المرآة المثالية المشوهة، ثم تجبره مجابهة الواقع بالتدريج – كما أجبرتنا- على تعديل نظرته السابقة. وهذا «الاستكشاف المستمر»، في كل مراحل عمرالمترجم له، هو ما ينبغي أن يتجه إليه المترجِم؛ إذ إن هذا الاستكشاف هو ما يمنح البعد «الإنساني» للعمل، وهو ما يثير اهتمام القارئ بتاريخ الشخصية على أوسع نطاق. وليس من الترجمة الجيدة في شيء أن نقول في أول صفحة إن فلانا كان مقدرا له أن يصبح قائدا أو شاعرا عظيما ؛ فإن الطفل الذي ولد مثلا في حي الجمالية في الحادي عشر من ديسمبر عام 1911 ، لم يكن روائيا عظيما ومحبوبا، وإنما كان طفلا كسائر الأطفال وإن كان اسمه نجيب محفوظ. وفن الترجمة يتمثل في أنه يحيل، إلى واقع مُشاهَد، الأسلوب الذي تحول به هذا الطفل المغمورإلى إنسان مشهور؛ إذ إن «تحول البطل يجب أن يبرز من خلال تتابع لمسات صغيرة وسرد مواقف متتابعة واستخدام فتات القرائن.» وهذا ما لم يفعله، أو بالأحرى لم يقصد إليه العقاد ولا طه حسين ولا هيكل ، في كتبهم السالفة الذكر، وما فعله بالضبط عبد الرحمن الشرقاوي في ترجمته لحياة النبي (ص) في «محمد رسول الحرية». والقارئ يلاحظ أولا أنه لم يستشهد بآيات قرآنية ولا بأحاديث نبوية ومع ذلك فهو يلتزم بمعانيهما التزاما دقيقا ليس فيه أي خروج عنهما ولا عما ورد في كتب السيرة على الإطلاق. ويلاحظ ثانيا أن الشرقاوي يتبنى هنا أسلوبا قصصيا يسرد، من خلال مشاهد متتابعة ، طفولة النبي ومراهقته وزيجاته ورسالته وغيرها . فالطفولة مثلا يقدم جانب منها في المشهد التالي ، الذي يصورحالة محمد بعد وفاة أمه وانتقاله ليقيم في بيت عمه. وكان الصبي قد عاد من ديار بني سعد، قبيلة مرضعته حليمة السعدية، وهو في الخامسة من عمره ، «ولم تلبث والدته أن توفيت بعد عودته بعام واحد وخلفته وراءها في السادسة من العمر. لم يرأباه أبدا، ولم يستمتع بالحياة في أحضان أمه. لم يرها بالقدرالكافي ..... لم تسانده ليمشي، ولم يتلق عنها الكلمات وأسماء الأشياء، ولهو يوشك أن يستريح إلى أحضانها إذا بالموت ينتزعها منه ويتركه وحيدا في فضاء شاسع رهيب. ما هذا الموت إذن؟؟ وما الحياة؟!» (محمد رسول الحرية، القاهرة، 1978.) وأقام محمد عند عمه أبي طالب يضنيه شعور بالغربة، على الرغم من حرص عمه عليه واحتفال بني عمه به. ولكنه ظل على إحساسه بالوحدة ، «فإذا وضع الطعام له وللصبية من أولاد أبي طالب امتدت أيديهم وانقبضت يده استحياء».... وكان لا بد أن يعمل ليأكل كما يعمل أبناء عمه ليأكلوا. فرعى الغنم، وخرج مع الرعاة الآخرين يلتمسون الكلأ في مواضعه خارج مكة ويعودون مع الليل.» ( المرجع السابق .) وذات صباح علم أن عمه سيخرج في رحلة الصيف إلى الشام. ف»تشبث محمد بعمه، ولكن عمه نهره، فهو بعدُ صغير لا يصلح للخروج مع القوافل في سفرها الشاق . وكانت هذه أول مرة يفارق فيها عمه منذ كفله.» لكن محمدا يسأل عمه بعد ذلك، وهو يتأهب لرحلة أخرى «ألا يتركه في مكة، فلمن يتركه إذا سافر؟! ورق له قلب أبي طالب فأقسم ليخرجن به ولا يفارقه أبدا!» ( المرجع نفسه . ) والشيء المهم هنا أن الشرقاوي لا يحيد عن حقائق التاريخ، ولكنه يعمل خياله في تلك الحقائق، ويحيلها إلى مواقف ومشاهد وتفاصيل نعيشها مع بطله، فيتحقق للعمل التجسيد، وتبرز الحقائق ذاتها وقد عرضت عرضا فنيا شائقا. (أذكر ونحن نناقش هذا الكتاب في قاعة الدرس أن استنكر أحد الطلاب أن تكون معظم زوجات النبي على هذا القدر من الجمال، كما يقول كتاب الشرقاوي فأجابت إحدى زميلاته، وماذا تقول في الآية الكريمة:» لايحل لك النساء من بعد ولا أن تبدل بهن من أزواج ولوأعجبك حسنهن» ؟ ) وبالأسلوب الفني الممتع- الذي يقوم على استكشاف النبي(ص) لما تفعله به الحياة وعلى تدبُرِه فيما يدورحوله منذ ان كان طفلا، والذي تجسده اللمسات الصغيرة وتتابع سرد المشاهد واستخدام فتات الحياة – بهذاالأسلوب يصحب الشرقاوي محمدا في صباه وفي كهولته وفي رجولته وحتى ينتقل عليه السلام إلى جوار الله. قارن هذا بما يقدمه العقاد مثلا في كتاب «عبقرية محمد»، الذي تُبوّب فيه فصول الكتاب على هذا النحو: علامات مولد، عبقرية الداعي، عبقرية محمد العسكرية،.... وهكذا. ولا يجوز أن يفهم هنا أني أنتقص من قدر كتب العقاد أو كتب هيكل وطه حسين أو كتب الشرقاوي نفسه في دراساته الإسلامية، التي سارت على منهج أساتذته، وكل ما يعنيني هوأن أصحح وهما شائعا يعتبر أن كل هذه «الدراسات» تراجم أدبية، مع أن مؤلفيها أعلنوا بكل وضوح، أنهم لا يقصدون في هذه الكتب إلى كتابة تراجم، أدبية أوغير أدبية.