في التاسع عشر من نوفمبر الحالي تمر الذكري السادسة والعشرون لوفاة واحد من أعظم الأدباء المصريين في القرن العشرين,وهو الأستاذ عبد الرحمن الشرقاوي, الذي قيض له أن يكون رائدا في مجالات أدبية عديدة:- في مجال الشعر الحر يعد ديوانه الأول,' من أب مصري إلي الرئيس ترومان'(1951), البداية الحقيقية لشعر التفعيلة في مصر, وفي مجال الرواية تعد'الأرض'(1953), أولي رواياته, أول عمل روائي مصري وربما عربي, يطبق مبادئ الواقعية الاشتراكية, وينطق الفلاحين بلغتهم الحقيقية ويأخذهم مأخذ الجد. وفي مجال المسرح كان أول من استخدم الشعر الحر استخداما حقيقيا ناجحا في أولي مسرحياته,' مأساة جميلة', التي استقبل عرضها الأول عام(1962) بعاصفة من الترحيب. أما كتابه عن حياة النبي( صلي الله عليه وسلم),' محمد رسول الحرية' فيعد أول سيرة' أدبية غيرية' في مصر, علي الأقل, بعد أن سبقه طه حسين إلي كتابة' الأيام', أول سيرة' أدبية ذاتية'. وسنحاول في السطور التالية أن نوضح مانعنيه ب'السيرة الأدبية الغيرية': وأول ما نلاحظه أن ما قد يعتبره البعض سيرا أو تراجم أدبية غيرية, سبقت ترجمة الشرقاوي, مثل' حياة محمد' لمحمد حسين هيكل و'عبقرية محمد' للعقاد أو' الشيخان' لطه حسين وغيرهما, ليس في الحقيقة سيرا أدبية, بل ليس سيرا علي الإطلاق. وسيتضح ذلك, إذا ما أوضحنا في إيجاز, حقيقة السيرة أو الترجمة الفنية الغيرية. المقصود بالسير أو التراجم ألأدبية الغيرية ذلك النوع من الخطاب السردي الذي يقوم علي دعامتين أساسيتين: الأولي تتمثل في بحث تاريخي يقوم فيه المؤلف بدور المؤرخ الحق, الذي يمحص الوقائع بحيدة تامة, لكي ينفذ في النهاية إلي' الحقيقة', ثم يرتب ما توصل إليه علي نحو يتيح تفهمه واستيعابه. وواضح أن هذا البحث التاريخي ليس خاصا بالتراجم, وإنما هوضروري لها, كضرورته للتاريخ وللبحث العلمي بعامة. وتتمثل الدعامة الثانية في نشاط خيالي يلعب فيه المترجم دور المبدع, فيقدم في إطار' الحقائق' التي توصل إليها كمؤرخ بناء' سرديا يشبه العمل القصصي', يطلعنا فيه الكاتب علي حياة المترجم له, وعلي فترة الطفولة والمراهقة, بصفة خاصة, وهو يري الحياة- كما رأيناها نحن الكبار- من خلال مرآة مشوهة هي مرآة المثالية, ثم تجبره كما أجبرتنا مجابهة الواقع بالتدريج علي تعديل نظرته السابقة. وهذا' الاستكشاف المستمر' في كل مراحل العمرهو ما ينبغي أن يتجه إليه المترجم; إذ إن هذا الاستكشاف هو ما يمنح البعد' الإنساني' للمترجم له, وهو ما يثير اهتمام القارئ بتاريخ الشخصية علي أوسع نطاق. وليس من الترجمة الجيدة في شيء أن نقول في أول صفحة إن فلانا كان مقدرا له أن يصبح قائدا عظيما أو شاعرا عظيما; فإن الطفل الذي ولد مثلا في حي الجمالية في الحادي عشر من ديسمبر عام1911, لم يكن روائيا عظيما ومحبوبا, وإنما كان طفلا كسائر الأطفال وإن كان اسمه نجيب محفوظ. وفن الترجمة يتمثل في أنه يحيل, إلي واقع ملموس, الأسلوب الذي تحول به الطفل المغمورإلي إنسان مشهور; إذ إن' تحول البطل يجب أن يبرز من خلال تتابع لمسات صغيرة وسرد مواقف متتابعة واستخدام فتات القرائن.' وهذا ما لم يفعله, أو بالأحري ما لم يقصد إليه العقاد ولا طه حسين, في كتبهما السالفة الذكر, وما فعله بالضبط عبد الرحمن الشرقاوي في ترجمته لحياة النبي( ص) في'محمد رسول الحرية'. إذ نلاحظ أولا أنه لم يستشهد بآيات قرآنية ولا بأحاديث نبوية ومع ذلك فهو يلتزم بمعانيهما التزاما دقيقا ولا يجد القارئ اي خروج عنهما وعما ورد في كتب السيرة علي الإطلاق. ونلاحظ ثانيا أن الشرقاوي يصور هنا, من خلال مشاهد متتابعة, طفولة النبي ومراهقته وزيجاته ورسالته وغيرها. فالطفولة مثلا يقدم جانبا منها في المشهد التالي, الذي يصورحالة محمد بعد وفاة أمه وانتقاله ليقيم في بيت عمه. وكان الصبي قد عاد من ديار بني سعد, قبيلة مرضعته حليمة السعدية, وهو في الخامسة من عمره,' ولم تلبث والدته أن توفيت بعد عودته بعام واحد وخلفته وراءها في السادسة من العمر. لم يرأباه أبدا, ولم يستمتع بالحياة في أحضان أمه. لم يرها بالقدرالكافي..... لم تسانده ليمشي, ولم يتلق عنها الكلمات وأسماء الأشياء, ولهو يوشك أن يستريح إلي أحضانها إذا بالموت ينتزعها منه ويتركه وحيدا في فضاء شاسع رهيب. ما هذا الموت إذن؟؟ وما الحياة؟!'-( محمد رسول الحرية, القاهرة,1978)-. وأقام محمد عند عمه أبي طالب يضنيه شعور بالغربة, علي الرغم من حرص عمه عليه واحتفال بني عمه به. ولكنه ظل علي إحساسه بالوحدة,' فإذا وضع الطعام له وللصبية من أولاد أبي طالب امتدت أيديهم وانقبضت يده استحياء. وكان لا بد أن يعمل ليأكل كما يعمل أبناء عمه ليأكلوا. فرعي الغنم, وخرج مع الرعاة الآخرين يلتمسون الكلأ في مواضعه خارج مكة ويعودون مع الليل.'( المرجع السابق.) وذات صباح علم أن عمه أبا طالب سيخرج في رحلة الصيف إلي الشام.' وتشبث محمد بعمه, ولكن عمه نهره, فهو يعد صغيرا لا يصلح للخروج مع القوافل في سفرها الشاق. وكانت هذه أول مرة يفارق فيها عمه منذ كفله.' ثم يسأل محمد عمه بعد ذلك, وكان يتأهب لرحلة أخري' ألا يتركه في مكة, فلمن يتركه إذا سافر؟! ورق له قلب أبي طالب فأقسم ليخرجن به ولا يفارقه أبدا!'( المرجع نفسه.) والشيء المهم هنا أن الشرقاوي لا يحيد عن حقائق التاريخ, ولكنه يعمل خياله في تلك الحقائق, ويحيلها إلي مواقف ومشاهد وتفاصيل نعيشها مع بطله, فيتحقق للعمل التجسيد, وتبرز الحقائق ذاتها وقد عرضت عرضا فنيا. وبهذا الأسلوب- الذي يقوم علي استكشاف الطفل لما تفعله به الحياة ولما يدورحوله, وعلي تتابع اللمسات الصغيرة وسرد المشاهد المتتابعة واستخدام فتات الحياة- يصحب الشرقاوي محمدا في صباه وفي كهولته وفي رجولته وحتي ينتقل عليه السلام إلي جوار الله. قارن هذا بما يقدمه العقاد مثلا في كتاب' عبقرية محمد'. فصول الكتاب تبوب هكذا: علامات مولد, عبقرية الداعي, عبقرية محمد العسكرية, عبقرية محمد السياسية.... وهكذا. ولا يجوز بأي حال أن يفهم من هذا أني أنتقص هنا من قدر كتب العقاد في هذا المجال, أو من كتب طه حسين, أو من كتب حسين هيكل, أو من كتب الشرقاوي نفسه في دراساته الإسلامية, التي سارت علي منهج أساتذته, وكل ما يعنيني أن أصحح وهما شائعا يعتبر أن كل هذه' الدراسات' تراجم أدبية, مع أن مؤلفيها أعلنوا بكل وضوح, المرة تلو المرة, أنهم لا يقصدون في هذه الكتب إلي كتابة تراجم, لا أدبية ولا غير أدبية.