فى مثل هذا النهار من عام 1956 خرج آخر جندى إنجليزى من بر مصر المحروسة بعد احتلال دام أكثر من سبعين عاما . ولم تمر سوى عدة أسابيع حتى جاء قرار تأميم قناة السويس؛ ومن بعده بثلاثة أشهر حاولت كل من إنجلترا وفرنسا وبمساعدة إسرائيل إعادة الاحتلال، فخرجت بالهزيمة السياسية كل من إنجلترا وفرنسا، وصارا منذ ذلك التاريخ إمبراطوريتين متحفيتين ، ولتنهض مصر رافعة راية استقلال ثلاث قارات هى آسيا وإفريقيا وأمريكا الجنوبية . أكتب ذلك مندهشا من أننا نعيش أغلب الأوقات واقعا لا نرضى عنه ، ثم نفاجأ بأننا نصنع من هذا الواقع ما يثير دهشة الكون كله ، فمن يرقب السنوات التى سبقت جلاء إنجلترا عن مصر ، سيجد الكثير مما وجدته فى ذاكرتى . فعلى سبيل المثال لا الحصر أعيش ساعات أيامى الحالية منتظرا أنباء تشكيل الوزارة التى يمكن أن تتولى إنجاز التطبيق العملى لكل ما حمله عموم المصريين للرئيس عبد الفتاح السيسى ، وأحلم بأن يختار مهندس بناء الكبارى إبراهيم محلب وزراء يملكون عقولا هادئة تملك إصرارا على العبور بالمجتمع من وطأة ما نحياه من أزمات ، لكن قلبى بهبط للحظات إلى قاع التشاؤم حين أسمع ببعض الأسماء ، ثم أنتقل إلى التفاؤل فى أحيان أخرى ، فحتى هذه الساعة المتأخرة من ليل الأحد مقتربا من فجر الإثنين لم نر ملامح الوزارة لنطمئن إلى الأداء الذى نحلم به . وتهدينى ذاكرتى طوق نجاة من التفاؤل بتذكر وصية همس لى بها أستاذى الشاعر صلاح عبد الصبور « لا تيأس من الواقع المصرى ، وتذكر أنك حين تزور الهرم الأكبر قد تجد على حجر من أحجاره بقايا سندويتش فول لم يكمله اثنان من العشاق ، وتزحف من حوله طوابير من النمل ، وعلى ذات الحجر ستجد من رسم قلبا مطعونا بسهم كيوبيد ، ولو عاد خوفو صاحب الهرم إلى الحياة لرفع حجرا من أحجار الهرم ليلقيه على رءوس وزرائه لأنهم لم يوفروا للعشاق حياة أسرية آمنة . وجلجلت ضحكات الشاعر ليضيف « ورغم ذلك كله عليك أن تبتعد لعدة كيلومترات عن الهرم الأكبر لتجد نفسك أمام المعجزة المعمارية ، و هى أعماق المصرى الذى شيد هذا الهرم وحين أتصفح بذاكرتى ملف التعديلات الوزارية، أبتسم للأيام القديمة متذكرا الحلم الذى كان يجرح أصواتنا فى المظاهرات حالمين بالجلاء التام فى أثناء حكم النحاس باشا، والآن صار الحلم هو العدل الاجتماعى مع الاستقلال الوطنى هو قضيتنا التى تبرز فى مواجهة أيامنا . وصرنا نعيش توتر انتظار التعديل الوزاى الحالى المنوط بالبدء فى خطوات عملية لتحقيق « عدل اجتماعى مع استقلال وطنى « .وتتدفق صور التذكر كنهر رقراق بمشاهد دخول وخروج بعض من الشخصيات للمنصب الوزارى ، ولأرى حيرة عبد الناصر شديدة المرارة مع «النخبة السياسية «كما صورها فى « فلسفة الثورة « حيث احترفت الأحزاب وقيادتها طعن كفاءات الغير . ولا أنسى ما تلى ذلك من قسوة نفسية واجهها عبد الناصر ، فقد آنس فى بداية الثورة لشخصية « سليمان حافظ « كرجل من الحزب الوطنى على مبادئ مصطفى كامل ، وهو من صاغ بيان تنازل الملك فاروق عن العرش ، ليفاجأ به عبد الناصر إبان الأيام الأولى للعدوان الثلاثى ، وهو يطلب مقابلته ، فيرفض لقاءه بعد أن علم الهدف من المقابلة وهو نصحه بتسليم نفسه للسفارة الإنجليزية معلنا التوبة عن التأميم . وتحمل الذاكرة قرار عبد الناصر بإعدام هذا الشخص رميا بالرصاص إن وجه إليه هذا المطلب وجها لوجه . أهمس لنفسى بأن تلك الحادثة تقترب بالتشابه مع موقف محمد البرادعى حين سمح لممثلى الدول الأجنبية بالتحاور مع قادة المتأسلمين بعد احتجازهم على ذمة ممارسة الإرهاب فى عموم المحروسة . ثم تفكك البرادعى من ضميرنا الوطنى بالاستقالة والرحيل؛ واذا كانت مصر قد استمرت بعد العدوان الثلاثى فى صياغة مستقبلها دون الالتفات إلى اهتزاز سليمان حافظ ، فهاهى تستمر الآن فى صياغة مستقبلها بعد اهتزاز البرادعى وسط منطقة تفور بسيولة سياسية واجتماعية غير مسبوقة . ولكن النخبة الحاضرة قد تكون أكثر وعيا وأقل قدرة على الثبات من نخبة ما قبل يوليو 1952 ، فعلى الرغم من أن نظام السادات أو مبارك لم يسمحا بنمو العقول الشاهقة ذات اليقين بالقدرة على صناعة المستقبل ، كما كان الحال إبان حكم عبد الناصر الذى استأنس ببعض من نخبة متعلمة أنتجتها قيادة طه حسين للتعليم الجامعى فيما قبل يوليو ، أمثال مصطفى خليل وعزيز صدقى ومحمود يونس وصدقى سليمان ، ودون أن ننسى العقل السياسى الهائل محمود فوزى الذى أهداه أستاذنا هيكل للقائد عبد الناصر ، وكلها عقول كبيرة تولت مع عبد الناصر رحلة بناء صناعة واستقلال وطنى وتنمية أعطت خيرها لعموم المصريين ، وأثق أن معضلة إبراهيم محلب هو العثور على عقول قادرة على البناء بما يناسب زماننا. ويمر على القلب سؤال هو « ألم نظلم نحن أعضاء مجلس الوزراء الأخير الذى نسمع عن تعديله منذ أيام؟ خصوصا وأن معظم وزرائه لم يمكثوا فى مناصبهم أكثر من مائة يوم ؟ السؤال موجه إلى الضمير السياسى ، ولذلك أتمنى أن يقوم كل وزير قادم بإجراء حفل تسلم الوزارة من الوزير السابق ، وأن يستمع كل وزير قادم لوصايا الوزير الراحل ، تماما كما قام المستشار عدلى منصور بتسليم المنصب الرئاسى لعبد الفتاح السيسى . وفى مثل هذا السلوك ما يرفع الظلم عن وزراء خرجوا دون أن ينفذوا بعضا من الإنجاز ، ومنهم من قضى الوقت فى ترميم جراح عميقة دون إعلام مؤثر ، لأن هواية الإعلام المعاصرة هى الكشف عن نقاط الضعف وتجنب إلقاء الضوء على نقاط الإنجاز ، ومن حق من أنجزوا كلمة شكر ، كما أن من حق القادمين كلمة تشجيع . لمزيد من مقالات منير عامر