كم مرة تنظر في المرأة لترى نفسك ؟ قد لايستطيع أي منا متابعة تاريخ نظره في المرآة ، منذ أن كان طفلا وشابا وكهلا وشيخا ، ومن الطبيعي ألا يتذكر منا عدد مرات رؤية نفسه في أي مرآة ، أو عن ماذا يبحث فيها ، ولكن من المؤكد أن أيا منا لا ينسى ملامحه ، أو مواجهة السؤال الذي يشغل الإنسان _ رجل أو امرأة _ ليعثر على إجابة قد لا تأتيه : « هل أنا مقبول _أو مقبولة _ حين يراني غيري ؟» وقد نرتدي أفخم ما عندنا من ملابس أو قد نستعد لمقابلة هامة أو ذاهبين إلى مكان نلتقي فيه بمن نحب أن نكون معهم أصدقاء أو اقارب أو حفل .. أو .. أو .. أو إلى آخر أسباب الخروج من البيت ، بل هناك من ينظر في المرآة بلا سبب ، ليتأمل ملامحه دون أن يصل إلى سبب للتأمل . وفي كل الأحوال نحن ننسى سؤالا أكثر أهمية مما نتذكر ، السؤال هو «من قاموا بتأليف هذه الصورة التي نراها في المرآة ؟». قد ننسى _ على سبيل المثال لا الحصر _ مدرسة روضة الأطفال التي رحبت بنا في أول يوم نترك فيه يد الأب أو يد الأم التي قامت بتوصيلنا ، ففوجئنا بوجودنا كرقم ضمن أرقام أطفال كثيرين يحضرون إلى المدرسة لأول مرة . وقد ننسى وجه المدرس المرعب الذي لا أنساه أنا شخصيا حين طلب مني رسم أرنب على ورقة الرسم ، فرسمت كائنا لا هو أرنب ولا هو خروف ولا هو قط ولا هو كلب ، فما كان منه إلا أن قام بتضفير أصابع يدي بقلم رصاص ، بحيث يكون هناك أصبع فوق سطح القلم وإصبع تحت سطحه وضرب بخمسة مساطر أخرى على أصابعي ، فقفزت من شباك الفصل جاريا إلى مكتب أبي قائلا « مدرس الرسم مجنون .. أقسم بالله العظيم مجنون « . وذهب والدي معي إلى المدرسة ليطلب من ناظرها نقل هذا المدرس ، وقد كان له ما طلب . ولن أنسى أبدا بنت الجيران في الحي الشعبي والتي كانت تسكن مع والدها في حجرة خشبية ببيت مكون من أعمدة خرسانية دون أن يكون له جدران ، وكان والدها قد أقام كحارس عقار بالمنزل الذي لم يستكمل بناؤه ، ولكنه كان يخرج في صباح الشتاء ليعمل شحاذا في قطار أبي قير الواصل من محطة قطار الإسكندرية وحتى شاطئ أبي قير ، أما في رمضان فكان يعمل مسحراتي ، وكان الاسم الذي نعرفه لإبنته هو « كيداهم « لا أدري من هم الذين تكيدهم . ولكني أعرف أنها تزوجت لعدة أشهر من عامل المقهى المسمى « سكر « لتطلق منه ، ولتبقى أثناء مراهقتي وكأنها أجمل من صوفيا لورين . وكنت أرتدي البدلة الكاملة لأقابلها في حدائق الشلالات ، وأدعوها لمشاهدة تمثال من نحت سيد النحت الفرنسي رودان كان موجودا في مقابر الخواجات المقابلة لحدائق الشلالات ، فكانت تضحك مني ساخرة لأني أمتلئ إعجابا بتمثال لملائكة ، وتهمس « ياعم أتكلم في الحب أحسن » . ثم لا أنسى الرجل الذي كنت أتمنى أن أجعل عموم المصريين يدخلون في أفكاره ليخبرهم كيف يتعرفون على أنفسهم وعاداتهم وتقاليدهم وهو الأستاذ الدكتور أحمد أبو زيد مؤسس علم الإنثروبولجيا في بر مصر المحروسة ، فأستيقظ في السادسة صباحا _ مهما كان سهري في الليلة السابقة ، وذلك كي أصل إلى مدرج الفلسفة المطل على الكورنيش في المبنى الذي تحتله حاليا إدارة جامعة الإسكندرية ، وكان يحدثنا عن أن إنجلترا قامت بتأسيس علم الإنثروبولجيا _ أي دراسة سلوك وعادات الإنسان والجماعات البشرية _ كي تتعرف على أخلاقيات وقيم المجتمعات التي كانت تستعمرها ، وكان الإنجليز يهتمون بالخطوط العريضة من سلوك الأفراد في مجتمعاتهم وعاداتهم وتقاليدهم ، أما الولاياتالمتحدة فكانت لا تكتفي بالخطوط العريضة ؛ بل تبحث عن أدق التفاصيل ، لأنها ببساطة كانت تستعد لوراثة إنجلترا وفرنسا كأمبراطوريتين غاربتين . ثم ألتقي بمن كان يكتب لنا أسئلة إمتحان آخر السنة في أول محاضرة يلقيها علينا في علم النفس ، لنجد أمامنا عشرين سؤالا ننقلها بدقة لعلنا نستذكر إجاباتها لنحصل على درجات عالية ، ثم يبدأ هو في الإجابة عن كل سؤال لنكتشف أن الأستاذ الدكتور سعد جلال العالم النفسي الكبير قد حول المقرر الدراسي إلى عشرين سؤالا ، ومن كان يحضر المحاضرة فله أن يسمع تذكاراته مع طه حسين ، حيث كان سعد جلال هو أول خريجي قسم التاريخ ، وناداه طه حسين ليقول له « ما رأيك أن تدرس فن دراسة التاريخ الشخصي لأي إنسان يطلب المساعدة كي يخرج من أزمة ما تقابله ؟ « ووافق سعد جلال على فكرة طه حسين فيبعثه إلى جامعة إستانفورد ليدرس على النفس ، ويعود لنا أستاذا يقيم علاقة حية مع كل تلاميذه . ولن أنسى سخريته وتذكاراته مع أحد المبعوثين وكان اسمه « سيد قطب » الذي صرنا نعرف فيما بعد أنه فيلسوف الإرهاب الإخواني وهو من قال عنه أحد قادة الإخوان المعاصرين د. محمد حبيب بأن الإخوان أعطوا كتابه في تفسير القرآن ليوسف القرضاوي مفتي قطر كي يخفف ما فيه من تكفير للغير ، فأعاد يوسف القرضاوي كتاب سيد قطب بعد ثلاثة أشهر معلنا أن « التكفير هو صلب هذا الكتاب » . ولم نكن نعلم في عام 1958 أن الإخوان سيكمنون للمصريين في الظلام ليكتشفهم عبد الناصر عام 1965 ويحاكمهم لأنهم شاءوا إغتياله للمرة الثانية بعد فشل محاولتهم الأولى عام 1954 ، ويتم إعدام سيد قطب ومعه ثلة من معاونيه في إحياء تنظيم هدفه قتل كل من يختلفون معهم في الرؤى . وطبعا لن أنسى عبد الحليم حافظ وإحسان عبد القدوس ، حين ألتقيتهما في صباح أحد أيام السبت بأغسطس 1958وهما يسبحان في بلاج ميامي وأصر على الابتعاد عنهما ، فيقول صديقي البحار أحمد نجيب « إحسان وعبد الحليم معانا في البحر تعالى نسلم عليهم ، فأرد على صديقي « هم جاءوا ليستريحوا في يوم أجازة ولا داعي لإزعاجهم» ،فيناديني إحسان عبد القدوس ليسألني لماذا أقول ذلك لصديقي ، فأقول « أنا أقرأ وأكتب وأعلم أن من حق الكاتب والفنان ألا يزعجه أحد « فيطلب مني أن أعرض عليه ما أكتب ، وتكون تلك هي الطلقة الأولى في رحلتي مع الكتابة . ومن المدهش أن تمر سنوات أربع عشرة لألتقي بعبد الحليم في باريس على مائدة سفير أهدى جمال عبد الناصر اسما للتنظيم الذي قام بثورة يوليو هو السفير جمال منصور فهو صاحب اقتراح تسمية تنظيم الضباط باسم « الضباط الأحرار » ، وحتى نوجز جمال منصور في جملة محددة يمكننا أن نتذكر قول الجليل جمال عبد الناصر لصديق أيامه محمد حسنين هيكل أن جمال منصور هو واحد من قلة لم يطلب لنفسه شيئا منذ قيام الثورة ، بل إنه تقدم لامتحان الخارجية لينجح ويلتحق بالسلك السياسي . وعلى مائدة العشاء في بيت جمال منصور في يناير 1964 يطلب مني عبد الحليم أن أكتب مذكراته بحلوها ومرارتها ، فأندهش لأنه صديق كبار الكتاب فكيف يطلب من كاتب شاب أن يحكي حكاية معروفة للجميع ، فيؤكد عبد الحليم أن دراستي لعلم النفس هي التي جعلته يطلب مني هذا الطلب ، ولنحققه معا بعد هذا العشاء بتسع سنوات كاملة . أتذكر قول فتحي غانم الروائي الفذ وأحد الأساتذة الذين صاغوا ضميري وهو يبتسم متسائلا « هل سيكون عبد الحليم صادقا فيما سيرويه لك ؟ أنت تعلم أن الشاعر كامل الشناوي قام بتشخيص حكايات عبد الحليم بأنه يكذب طوال الوقت ويعيش الصدق فقط أثناء الغناء ؟ ، فأقول لأستاذي» سأحاول عبر الاختبارات النفسية استخلاص معظم التفاصيل ، وهو من كتب على نفسه بأن من مسئوليتي أن أروي كل ما يحب أن يعرفه عنه الناس وهو حي ، أما كيف عاش حياته فقد أوصى بكتابته بعد عمر طويل «. ولم يكن عمر عبد الحليم طويلا كما تمنيت ، فرحل الجسد وبقي الصوت الذي يولد مع كل قصة حب . وتلقيني سفينة الأيام أمام رجل شديد الاحترام بتقديس الوطن ، هو محمد زغلول كامل وكان يعمل وكيلا للمخابرات ثم يترك العمل بها ليظل عضوا فى هيئة مكتب جمال عبد الناصر ، وكان يرقب كل التفاصيل ويرفض الضار ويهدي النافع . أما سبب لقائي به فهو دسيسة شاءها أحد السفراء وقام السيد زغلول كامل بالتحقيق فيها وعندما ثبت له صدقي وكذب السفير أرسل له عتابا قاسيا ووجه لي الشكر وصار صديقي إلى أن رحل عن عالمنا منذ سنوات قليلة . وحين يطل الشيخ الشعراوي بخواطره الإيمانية على شاشة التليفزيون ، أسعى للتعرف عليه وأرقب رحلته من السكن بجانب الإمام الحسين إلى القصر الفاره في الهرم ، ويكلفني بإعداد تفسيره للقرآن الكريم ليتم نشره بجريدة اللواء الإسلامي ، ثم كأجزاء بأخبار اليوم ، وأصر على لا أكتب اسمي كمعد على هذا العمل ، احتسابا لوجه الله ، كما أني لم أحب يوما لقب « كاتب إسلامي « فالدين لا يصلح أن يكون مهنة ، بل إطار يقبل عليه من يحب دون إدعاء أو « منظرة ». وهل أنسى لقائي مع الأب متى المسكين الذي آمن أن ملكوت السماء يجب أن نحقق بعضا من ملامحه على الأرض فيؤسس ديرا بوادي النطرون يضم ثمانين راهبا ويعمل معهم قرابه خمسمائة عامل مسلم أو مسيحي لا فرق ، ويزرعون آلاف الأفدنة ليجعلوا الصحراء تهبهم خيرات بغير حد ؟ وأدور مع منصورحسن إبان عمله وزيرا في عهد السادات وكان منصور يعلم أني لا أطيق السادات أو عصره ، ولكنه كان يرى في آرائي بعضا من فائدة . وبطبيعة الحال لا تنمحي من ذاكرتي دموعي التي كادت أن تصير فيضا حين وصلني نبأ رحيل سعاد حسني تلك المزدحمة بنقاء لم أشهد مثله في كثير من نساء الأرض ، وأتذكر محاولتها لتعمير حياة عائلة كانت مفككة فصار فيها ناجحين ومتفوقين ومبدعين . كل ماسبق هو بداية _ مجرد بداية _ لسؤالي الذي أوجهه لنفسي « من قام بتأليفي ؟»، وفي حياتك أنت أيضا عشرات الآلاف من البشر والمواقف التي قامت بتأليفك ، وإن تذكرت بتسامح ما جعلك على هذه الصورة التي تقبلها في المرآة ، فأنت تضمن لنفسك جسرا من المصالحة مع ما مر بك ، وإن كان هناك مئات الأشخاص الذين أساءوا إليك _ من وجهة نظرك _ فلك أن تبحث في أسباب إساءاتهم وستجد أن لك نصيب في ميلاد تلك الإساءة ، ولا يعني ذلك أن تغرق في الندم ، ولكن عليك أن تراقب نفسك متذكرا ما قاله توفيق الحكيم» لا تغضب من نفسك حين تكرر الخطأ أكثر من مرة ، ولكن احرص على ألا يتحول ارتكاب الخطأ إلى إدمان فتكره نفسك وتجلس تحت شجرة أشواك تلتف حول واقعك وتحاصرك فتسبح بقية العمر في ندم لا ينتهي « قال الحكيم ذلك لواحد من مؤلفي البشر أستاذنا حسن فؤاد مؤسس شكل مجلة صباح الخير في عصرها الذهبي وشريك أحمد بهاء الدين وعبد الغني أبو العنين وإحسان عبد القدوس في صياغة قلوب أجيال آمنت بأن التحرر هو حق العقل وأن المستقبل هو من صناعة الإنسان . وكان هذا الإحساس هو الهواء الذي تتنفسه مصر بعد تأميم قناة السويس وبعد قهر ثلاثة دول هي إسرائيل وإنجلترا وفرنسا . وكانت القاهرة هي بيت الجرس الذي يدق ليوقظ آفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينة . ولم يكن المصريون سحرة بل حالمين يملكون القدرة على الخطو فوق أشواك أية ظروف ليحققوا ما يتراءى لهم من أحلام. ولذلك فمن حقك أن تسأل الشمس في الصباح « ماذا يمكن أن أضيف لنفسي من ابتسامات الترحيب بي في أي مكان أوجد فيه ؟ وستجد أن في داخلك نافورة من مشاعر طيبة يمكن أن تروي بها حدائق عطشى إلى لحظة إحترام لما يعيشونه من ظروف . ولأن الأهرام هو بيت التعرف على النفس من خلال معرفة أحوال الوطن والكون ، لذلك فقد أذن لي قادته أن أفتح بابا يرحب فيه أي منا بنفسه ، حتى ولو كان الواحد منا يرى ألسنة الآخرين بالنسبة إليه هى أسوار من الزجاج يجرح ويترك بعضا من نزيف مؤلم لا يراه أحد. وسأحاول مع نفسي ومع أي قارئ أن نتعلم سويا عدم الخوف من التواصل مع تجارب حياتنا بحلاوتها أو مرارتها. ولن أصدق أبدا محاولة البعض على تصوير أنفسهم على أساس أن الواحد منهم مولود فى هذا العالم ليكون الخاسر الوحيد. وهيا نحاول ضبط أوتار مشاعرنا لنحقق درجة من الانسجام مع النفس ومع الغير . ولا داعي للخوف من الفشل ، لأني أثق أن أي منا سينجح في أمر ما ، صغر هذا الأمر أو كبر، أثق في أن أي منا قادر على أن يعيش مع انتصاراته البسيطة ليحولها إلى إبتسامة ثقة يخطو بها فوق تلال هزائمه مهما تراكمت ليحولها إلى حدائق مزدحمة بزهور الأمل .