احتفلت روزاليوسف أمس الأول بإحسان عبد القدوس وأنا أكتب هذا المقال قبل الاحتفال ولا أريد انتظار الاحتفال حتي لا أتأثر بشيء يقال فيه . أريد أن اكتب عن مشاعري وأفكاري ناحية إحسان عبد القدوس كما شعرت بها دائما وحتي الآن. وأحاول ما استطعت أن أمسك بها كما هي. كانت أول مرة أقع فيها علي اسم احسان عبد القدوس وأنا في سن الرابعة عشرة. كانت رواية "في بيتنا رجل" وأول ما قابلني منها صفحتها الأولي التي كتب فيها فيما أذكر "قبل قيام الثورة بعشر سنوات كان يمكن أن تحدث هذه القصة" وعلي الفور تصورت أنها قصة حقيقية والتهمتها في ليلة وصباح، بعدها أصبحت أبحث عن روايات إحسان. كانت الثانية هي شيء في صدري و"الثالثة" أنا حرة و"الرابعة" "الخيط الرفيع" وهكذا رحت التهم رواياته. كانت الروايات متاحة دائما إذ كنت استعيرها من مكتبة المدرسة أو مكتبة قصر ثقافة الحرية بالإسكندرية، طبعا أو استعيرها من بعض الأصدقاء. كان إحسان عبد القدوس ومحمد عبد الحليم عبد الله ويوسف السباعي ونجيب محفوظ هم قراءاتي المجنونة التي سببت انقطاعا كبيرا لي عن الخروج إلي الشارع وفي سن السادسة عشرة كدت أرسب في الامتحان الذي لم يكن يتبقي له إلا أسبوع وكان أبي رحيما بي جدا وهو يري هذا الانقطاع الغريب علي القراءة وخصوصا أنه في هذا العام بالذات انفتحت شهيتي علي الروايات العالمية فأوعز لأحد الشباب الكبار وكان طالبا في الجامعة ان يحدثني برفق أن اترك القراءة هذا الاسبوع وأذاكر لأنجح ولقد حدث. كان لكل واحد من هؤلاء الكتاب الأربعة مذاقه الخاص ومتعته رغم اختلاف طرق الكتابة التي عرفتها بعد ذلك. وكان مما عرفته أن نجيب محفوظ هو كاتب الواقعية الأكبر وكنت أشعر أن هذا حقيقي إذا قيس الأمر علي يوسف السباعي ومحمد عبد الحليم عبد الله لكن لا يكون حقيقيا أمام إحسان عبد القدوس فإحسان أيضا كاتب واقعي إلا أنه أسهل وأبسط فضلا عن اهتمامه بالنفس البشرية وتقلباتها . ورغم أن مقدمات إحسان لقصصه بسطور جامعة مانعة مثل ما كتبه في الخيط الرفيع "بين الحب والتملك خيط رفيع" أو ما كتبه في الوسادة الخالية "في حياة كل منا وهم اسمه الحب الأول" وغيرهما رغم ذلك كانت متعتي في القراءة لا تنقطع وأشعر دائما أنه علي حق وازدادت هذه المتعة مع السينما كانت بعض الأفلام قد سبق لي رؤيتها من قبل مثل "الوسادة الخالية" التي اخذتنا المدرسة الابتدائية في رحلة لنراه وكنت في الحادية عشرة من عمري وكذلك "الطريق المسدود". لاحظ أنني أتحدث عن مدارس الحكومة زمان قبل أن تصبح السينما حراماً في مدارس الحكومة الآن. وهكذا صرت مدمنًا علي الأفلام المأخوذة عن روايات إحسان عبد القدوس. وبعد ذلك وأنا أتقدم في القراءة وبدأت أمارس الكتابة وجدت أن النقاد في أغلبهم لا يكفون عن الكتابة عن نجيب محفوظ ولا يلتفت أحد إلي إحسان أو السباعي أو عبد الحليم عبد الله واكتشفت بعد ذلك أن معظم هؤلاء النقاد ذوو ميول يسارية ولما جئت القاهرة وصرت بين كثيرين منهم وجدت انهم تقريبا علي هذا الموقف رغم أنهم كانوا يعطون إحسان درجة أكبر من السباعي أو عبد الحليم عبد الله في النقاش. كنت أنا اقيس الكاتب علي شعوري حين قرأته لذلك لم استطع أبدا أن أقلل من قيمة عبد الحليم عبد الله أو إحسان أو السباعي علي يساريتي ذلك الوقت وكان إحسان أكثرهم نفاذا إلي روحي خاصة لما يمتلكه من قدرة علي سبر أغوار النفس البشرية. لم أكن أهتم في مرحلة القراءة العفوية الجميلة هذه بشكل الرواية وهو بلا شك تفوق نجيب محفوظ الأكبر ولا بالتحليق في رؤي فلسفية وهذا هو التفوق الثاني الذي عرفته فيما بعد لنجيب محفوظ لكن مسألة أن إحسان لم يكن كاتبا واقعيا هذه لم أقتنع بها ابدا. كنت أقول لنفسي هل في بيتنا رجل ليست واقعية وهل شيء في صدري رومانسية حقا وهل وهل وهل ولم استطع البوح بهذا الكلام أمام طغيان الاهتمام بنجيب محفوظ الذي أحببته جدا لكنني أبدًا لم أدل بحديث أقلل فيه من شأن إحسان. لا قولا ولا كتابة. كنت أقول لنفسي إن الأدب أنواع والإبداع أنواع فلماذا يكون علينا أن نهتم بنوع واحد؟ وهل لأن إحسان كتب قصصا وروايات سهلة وممتعة يكون غير واقعي؟ ورغم أنني أعطيت الشكل الأدبي في أعمال عناية كبيرة إلا أنني ظللت احتفظ لإحسان وللكاتب عموما حرية الكتابة وأنه ليس عيبا أبدا أن يقبل الشباب أكثر من غيرهم علي كاتب لأنه يمتعهم ويكتب لهم أعمالا سهلة البناء. والآن بعد أن مرت سنون كثيرة تنفجر الرواية في مصر والعالم العربي بأعمال كثيرة جدًا وسهلة البناء وتقوم علي الشكل التقليدي للكتابة وتبسط في لغتها وتحقق مبيعات كبيرة هنا وهناك ويعود القراء للاحتفاء بالرواية السهلة ورغم ان ذلك أربك حسابات النقاد والكتاب إلا أنه طبيعي ولا يعني أبدًا أن هذه هي الطريقة الوحيدة للكتابة وأن الروايات كبيرة البناء التي يمكن قراءتها وتفسيرها علي أكثر من مستوي لن تفقد قيمتها أمام الروايات السهلة فالقراء أنواع في كل الدنيا وأن النقاد عليهم ألا يقوموا بنفي أصحاب الأعمال السهلة كما ينفي القراء الأعمال الصعبة لكن علي النقاد أن يضعوها في مكانها روايات بسيطة وممتعة وجميلة فإذا أضفت إلي ذلك أن أعمال إحسان في مجملها كانت تتمتع بهذه السهولة والمتعة مع القضايا الكبري الحقيقية للمجتمع والإنسان فيكون إحسان عبد القدوس واحدا من كتاب الرواية الكبار حتي لو كان الشكل الأدبي عنده في الدرجة الثانية من الأهمية بعد الموضوع، هكذا أحسست به دائما ولا أزال رغم أنني لم أترك نفسي للموضوع فقط مثله. هذا حديثي الشخصي عن أدب إحسان، أما إحسان الصحفي والكاتب السياسي فهو أمر عظيم عند الجميع لا يحتاج مني إلي كلام.