كانت الحبيبة قد خاصمتنى منذ شهور بقرار الرحيل من حياتي. ومع أحاسيس الوحدة ، جاءت تجارب السباحة فى علاقة أخرى مزدحمة بالادعاء ، وكأن مصافحة أى امرأة أخرى هى وسيلة للتنافر لا التقارب . جرحنى الإحساس بأن السماء قامت بتفصيلى على مقاس المرأة الوحيدة فى الكون ، فهى وحدها التى تعزف لمسة يدها ليدى موسيقى إعادة ميلادى من جديد . وجاء فيضان من جفاف ، فصارت كل خطواتى هى محاولة نسيان إفتراقنا . أدمنت السفر إلى أى مكان لا توجد لنا فيه تذكارات كيلا تتفجر ذاكرتى بخطواتنا معا فى شوارع القاهرة. صرت أبتعد عن السير بجانب النيل ، لأنه يحمل بين موجاته المتلاحقة صورتنا معكوسة فى أعماق مياهه .
فاجأنى صوت صديق هو السيد شعراوى جمعة وزير داخلية جمال عبد الناصر ؛ وكان الوقت هو التاسعة صباحا. قال « لماذا لاتأتى معى الآن فى زيارة مفاجئة لمحافظة من محافظات الصعيد ؟ كان شعراوى جمعة يعلم أن جوهر حياتى هو قصة حبى وكان يضحك معى كثيرا ليقول « معك أكتشف أن الحب عمل سياسى من الدرجة الأولى « . بطبيعة الحال وافقت على السفر ؛ وأعرف منه على الطائرة أن وجهتنا هى «أسيوط ». أعادت الذاكرة لى ما حدث فى صباح الخامس من يونيو 1967، ففى إحدى قراها» بنى مر « سمعت لأول مرة بخبر هجوم إسرائيل على مطارات مصر ، وجاءنى صوت أحمد كامل محافظها النبيل فى ذلك الزمن ، حيث كنت أجلس مع أبناء عمومة جمال عبد الناصر، قال لى يومها أحمد كامل « عليك أن تعود فورا إلى أسيوط ثم إلى القاهرة ، فإسرائيل بدأت عدوانها» وعندما عدت؛ همس فى أذنى « يبدو أنهم وجهوا ضربة لا يستهان بها إلى مطاراتنا» . تركت حكايات أبناء عمومة عبد الناصر ببنى مر ، وكيف قال ناصر لهم « لن أضع بنى مر فوق كل القرى وستنال من الثورة ما تناله أى قرية مصرية أخرى .. وحدة صحية ، وجمعية تعاونية تساعد الفلاح ، ومدرسة إبتدائية وأخرى إعدادية» . ركبت القطار العائد للقاهرة لأرى مطار بنى سويف وقد صار كومة من أسفلت وحفرا عميقة . ولم يمنعنى المشهد من سؤال نفسى عن صديقى طبيب هذا المطار فؤاد بشاى الذى كان قد عاد من حرب اليمن منذ أشهر ، وتم استدعاؤه للخدمة كطبيب بالقوات الجوية . وفى المساء كان فؤاد قد عاد إلى القاهرة ليحكى بكل الأسى أن الطيارين كانوا يرغبون الموت فى طائراتهم بدلا من أن تتحطم الطائرات أمام أعينهم . وافقت على السفر مع شعراوى جمعة متمنيا أن أصل بعد انتهاء زيارته المفاجئة لأسيوط . ضحكت لحظتها قائلا لشعراوى جمعة « كنت أتمنى الذهاب إلى سوهاج فالنيل فيها يثير فى النفس قدرة إصرار لا حدود لجمالها . نزلنا من الطائرة لنجد مدير الأمن اللواء عبد المنعم جابر فى استقبالنا بعد أن أخبروه بزيارتنا، فيقول شعراوى جمعة « إلى معسكر الأمن المركزى ، وكان الوقت هو وقت الغداء . تساءل مدير الأمن « إن نادى ضباط الشرطة قد أعد لنا الغداء « فقال شعراوى جمعة لنرى أولا مطعم جنود الأمن المركزى . ووقف شعراوى فى طابور الجنود ويقدم صينية من الألومنيوم وليناوله فيها الواقف أمام حلل الطعام الضخمة ، يغرف له ما مقداره مغرفة من الأرز وأخرى من خضار مطبوخ ثم قطعة من اللحم يصعب وصف قسوتها وعدم القدرة على مضغها لأنها بدت لى شخصيا كأنها _ أستغفر الله _ نعل حذاء قديم . وعلى المائدة تصدر تعليماته بإلغاء التعامل مع المتعهدين الذى يوردون الطعام للمعسكرات ولتتولى تلك المهمة مزارع مصلحة السجون ، وبعد الغداء نعود إلى القاهرة ، وحين تصل السيارة إلى مقر وزارة الداخلية ؛كان الغروب قد اقترب ، فأودع الوزير الذى يقول لى مبتسما « طبعا ستزور الآن صديقك المثال كمال خليفة « كان شعراوى جمعة يعلم أن هذا الفنان يسكن على سطح منزل متهالك أمام وزارة الداخلية ، وكان يعلم أن الفنان كمال خليفة هو المتصوف بإبداع غير مسبوق فى الرسم والنحت ، ويعلم أن صديقنا المشترك محمد زغلول كامل أصغر الضباط الأحرار هو من ساندنى فى إلغاء قرار منع التفرغ عن هذا المثال الفنان الكبير، فالدسائس لعبة مصرية عند متوسطى الموهبة ، وكان المسئول عن تفرغ الفنانين قد حرم الفنان الكبير من التفرغ ليتركه معتمدا على مساعدة شقيقه صاحب ورشة الدوكو التى بجانب روز اليوسف . لا أنسى وجه زغلول كامل أصغر الضباط الأحرار حين قدمت له إلتماسا باسمى قائلا « يمكن لنا ان نفخر بأننا نعيش فى عصر الفنان كمال خليفة » ، فابتسم ضاحكا «نحن نعيش فى عصر جمال عبد الناصر الذى يرعى الفن» . وتم إلغاء قرار حرمان كمال خليفة من التفرغ بمكالمة هاتفية . وقد عاتبنى كمال لتدخلى ، فلم أجد بدا من مصارحته « كيف لمريض مثلك بالسل أن يعيش وينتج فنا إن لم ترعه الدولة ؟ ّ فغرق فى الصمت . .............................. لا أحد يتخيل كيفية الصعود إلى سطح المنزل الذى يحيا عليه كمال خليفة فى حجرة مزدحمة بأوراق الرسم وقوالب التماثيل . سلم المنزل يفتقد لأربعة درجات لابد من القفز فوقها للوصول إلى السطح ، وكنا مدربين على القفز فوقها ، ولم يسقط منها أحد . وبعد أن وصلت إلى كمال قال لى « سيأتينا الآن الشاعر أحمد فؤاد نجم المتمرد على كل تفاصيل أيامنا ، ومعه الشيخ إمام عيسى . تساءلت « ومن سيجعل الشيخ إمام _الفاقد البصر _ يقفز على الأربع درجات المكسورة ؟ هنا قال : سيساعده صديقك عدلى رزق الله وأنت» طبعا ملأنى خوف من أن يسقط الشيخ إمام من فتحة الدرجات المكسورة . قال كمال خليفة « لاتخف سنعرف كيف نحمله إلى هنا «. كنت أعلم من عبد الحليم حافظ أن أحمد فؤاد نجم كان موجودا فى الطفولة بنفس الملجأ الذى عاش فيه عبد الحليم لسنوات. وكنت أعرف أن كليهما كان قادرا على حماية نفسه من عدوان الغير من أبناء الملجأ . عبد الحليم ببراعته الفائقة فى لعبة الكومى التى يلعبها مع الأقوياء فينهزم أمامهم ، ويمنحهم وهم الإنتصار ، وأحمد فؤاد نجم بسخريته التى يمكن أن تجعل أى عملاق يتضاءل حتى يتقى شر لسانه ، فضلا عن براعته غير المحدودة فى التزويغ من أى خناقة ، وكيف يترك من ينوى ضربه بمناوراته فى القفز حتى يضرب المعتدى رأسه فى الحائط . وكنت أحب لفؤاد نجم أغنية وحيدة عن جيفارا ، أما بقية أغنياته الساخرة فلم أكن أستسيغها لأنى أعلم تفاصيل لا يعلمها هو سواء عن الحرب أو عن دهاليز السلطة . وكنت أعلم أن شعراوى جمعة قد كلف محمد عروق مدير صوت العرب أن يستضيف كل من الشيح إمام وأحمد فؤاد نجم ويفتح لهما أكبر إذاعة مسموعة فى تلك الأيام . ولكن الإثنين إختلفا معه بدعوى أنه مندوب النظام الناصرى . تمر الأيام لأجد حكايات أحمد فؤاد نجم تتوالى لتتراقص ذاكرته بين الجد والهزل ، وأعلم من يوسف السباعى أنه أصدر قرارا بتعيين فؤاد نجم كمندوب اتصالات بالمؤتمر الأسيوى الأفريقى ، فكان يأخذ طوابع البريد ذات الأربعة مليمات ويستبدلها بالسجائر ، فتم فصله ، ليعيش من بعد ذلك من رعاية سعد الموجى الكاتب الإذاعى الكبير ، وكل عشاق التمرد الزاعق ضد هزيمة يونيو . وكان الشاعر الأقرب لروحى ومزاجى _ فى تلك الأيام وإلى الآن _هو العم فؤاد حداد الذى يزورنا فى مجلة صباح الخير ، وهو من دعانى كى يعلمنى اللغة الفرنسية ، فلم أستجب ، لكنى عرفت منه كيف استشهد من أحببته رغم أنى لم أره ، وهو الشهيد شهدى الشافعى عطية صاحب كتاب «تاريخ الحركة الوطنية» ، وهو من أهم كتب التاريخ المصرى ، حيث تحمل سطوره أول شرح تفصيلى لأول « إنفتاح اقتصادى « قام به اللورد كرومر بعد أن تولى الإميرال سيمور قائد البحرية الإنجليزية دك الإسكندرية فى 11 يوليو 1882 ، ليروى اللورد كرومر من بعد ذلك فى مذكراته بأن هدف إنجلترا من احتلال مصر ليس بهدف السيطرة على قناة السويس فقط ، ولكن بغرض إغلاق المصانع التى تمد المصريين بما يحتاجونه من بضائع ، فقد استردوا بعضا من مهاراتهم التى سبق وسرق المهرة من عمالها السلطان سليم العثمانى ، وبدخول إنجلترا مصر أصبح البلد على إتساعه سوقا لهم وصارت أماكن المصانع مقاهى للمتعطلين وحملة الشهادة الابتدائية الذين وظفهم الاحتلال الإنجليزى ككتبة فى دواوين تحترف البيروقراطية أكثر مما تحترف الإنجاز . وبطبيعة الحال كان صلاح جاهين هو سيد صباح الخير برباعياته ، وهو تركها إلى الأهرام ، وكان عبد الرحمن الأبنودى يمسك بصولجان الأغنية الشعبية الدرامية ، وكان قريبا إلى قلبى ومستوعبا أحزانى العلنية والسرية أما سيد حجاب فقد كان الهمس الذى يوقظ التفكير ، ويذيب أعتى الأفكار الفلسفية ؛ كأنه يستخرج من بحيرة المنزلة لؤلؤ الأفكار . ولكن ما أن غنى الشيخ إمام « البحر بيضحك ليه « حتى تربعت القصيدة على مشاعرى ، وحين يصل إلى القول « بينى وبينك سور ورا سور .. وأنا لا مارد ولا عصفور .. فى إيدى عود قوال وجسور وصبحت أنا فى العشق مثل « ما أن كان الشيخ إمام يصل إلى تلك المنطقة من مشاعرى حتى تلتمع عيونى بدموع أجيد كتمانها ، إلى أن يطل كمال الطويل ليلتقط أغنية فؤاد نجم « دولا مين .. دولا مين .. دولا عساكر مصريين « وكان انتصار أكتوبر قد تحقق كحلم بدت ملامحه حين خرجت الناس يوم التاسع من يونيو لتقسم ثورة يوليو إلى قسمين ، قسمها الحق بقى فى قواتها المسلحة ، وقسمها الباطل خرج مع صناع الهزيمة إما إلى القبر أو إلى النسيان . .............................. غادرنا كمال خليفة إلى نهايته قبل أن يشهد انتصار أكتوبر . لكنى قررت زيارة قبره لأتذكر لحظة وداعى الأخير له ، ففى مساء ما قبل الرحيل قمت بزيارته لأجد الفنان عدلى رزق الله عاشق الترتيل بمحبة الأنوثة من خلال الألوان المائية ، وأجد من تغزل بالفضة أسلوبا جديدا فى زينة المرأة وهى الفنانة عزة فهمى ، وكأننا كنا نودعه ، ويهدينى كمال خليفة يومها أكثر من لوحة من لوحاته ويقول لى بما لم أفهمه يومها « ستهتم بوالدتى إن حدث لى شيء « . وأقول له « لن يحدث لك شيء وستقوم من مرضك معافا « ، وكأن روحه كانت تنتظر تلك الكلمات ليخدعنى بالرحيل فى اليوم نفسه. وأنزل من مقبرته إلى مقر شعراوى جمعة طالبا منه أن يستمر تفرغ كمال كمعاش لوالدته ، فيأمر بذلك . وظلت والدته تصرف منحة تفرغ إبنها إلى أن رحل عن الدنيا . .............................. أتذكر سؤالى لكمال عن التناقض الذى أعيشه مع ساعات النهار، فساعة أكون مع وزير الداخلية وساعة أخرى أكون فى زيارة لمستشفى هليوبليس حيث يستضيف د. يسرى هاشم نائب المدير كلا من الشيخ إمام واحمد فؤاد نجم بعد الإفراج عنهما فى إحدى مرات الاعتقال . وساعة ثالثة أظل أبحث بعيونى عن تلك التى أسترد حيويتى لمجرد أن تتلامس يدى مع يدها . فيضحك قائلا «بينك وبينها سور وراء سور .. وأنت لا مارد ولا عصفور ».. مجرد كاتب تؤمن بعمق اللحظة التى تعيشها ولا تملك قدرة على التخطيط للمستقبل. أؤكد لكمال أن قلبى منذ ابتعاده عنها أصبح كالجرح الذى يبحث عن ضمادات، وأن أى لمسة ليد أى امرأة غيرهاهى عملية تغيير على جرح. وما أن أراها حتى يملانى عطر شخصى جدًا مكون من مزيج الورد والياسمين ، ولا أعرف كيف تتماوج أصابعنا حين يصافح أحدنا الأخر ، فترقص خلايا الكفين برقصات خاصة يرتوى بها عطش يولد منه عطش آخر، ولا ارتواء هناك. وأنها تدمن سؤالى « في ماذا تفكر ؟ « فأقول «لمسة بشرة يدى لبشرة يدك هى ضمادة أثيرة على جرح قلبى فأقول «آه»، فتغنى الحبيبة « بينى وبينك سور ورا سور وأنت لا مارد ولا عصفور . ونسمح لأنفسنا بالجلوس معا للارتواء بفنجانى قهوة ، فأفاجأ بأنى أرى أيامى تتشابه مع أوراق الوردة وأشواكها»، ثم أرى نفسى سابحا فى نهرين من حنان مصفى هما عيونها . وابقى من بعد ذلك مجرد عاشق وحيد أبتسم للتذكار فتبدو شفتاى كالجرح القديم ، ومن تلامس البشرتين تأتى موسيقى ترفعنا على أجنحة النشوة، فننسى مرارات الأيام ، وتتجلى صورتى رقراقة حين ألمح نفسى فى سطح فنجانى القهوة _عينيها_ وعندما يتناغم صوتى مع صوتها يولد ربيع شخصى جدا ، فأقول «آه».. لا لأنى أغير على جرح قلبي، ولكن لأنى أقابل نفسى بعد طول ابتعاد.