لقد غاب عنا الاحتفال بعيد الجلاء منذ عدة عقود. وأصبحت الغالبية العظمى من الشباب، بل ممن تخطوا سن الأربعين لا يتذكرون هذه المناسبة التى لم تعد أجازة رسمية وانما تقتصر على المدارس والجامعات التى تكون فى الأجازة الدراسية الصيفية كان جلاء القوات البريطانية عن مصر هدفا قوميا تسعى اليه جميع القوى الوطنية، سياسية وثقافية. على امتداد سنوات طويلة منذ ان بدأ الاحتلال البريطانى لمصر فى عام 1882 بعد هزيمة أحمد عرابى ونفيه خارج البلاد هو ورفاقه فى جزيرة سرنديب ( سرىلانكا ). واشتدت المطالبة بالاستقلال وانهاء الاحتلال منذ ان اعلنت بريطانيا الحماية على مصر فى عام 1914 وفصلتها عن الدولة العثمانية. وكانت مبادئ الرئيس الأمريكى وودرو ويلسون، عن حق الشعوب فى الحرية والاستقلال، وتقرير مصيرها بنفسها، بمثابة حافز لتصعيد المطلب المصرى بالاستقلال والجلاء، الذى كان ينادى بهما الحزب الوطنى بزعامة مصطفى كامل، ثم محمد فريد، وانضم اليهما الزعيم سعد زغلول ورفاقه، فى حملة مكثفة لحث بريطانيا على الوفاء بوعودها التى قطعتها على نفسها فى أثناء الحرب العالمية الأولى من أجل ضمان وقوف شعوب المستعمرات معها فى الحرب وتسخير مواردها وامكاناتها، لتكون فى خدمة المجهود العسكرى البريطانى. وما ان انتهت الحرب حتى تناست بريطانيا ما وعدت به. وقد اقتصرت استجابة بريطانيا للمطالب القومية المصرية على اعلان استقلال منقوص لمصر من جانب بريطانيا والذى عرف بتصريح 28 فبراير 1922 وأصبح السلطان فؤاد، ملكا على مصر. ولم يكن من حق مصر اقامة تمثيل دبلوماسى خارجى لها على مستوى سفارات وسفراء، وانما على مستوى مفوضيات يرأسها وزراء مفوضون. وبقى الأجانب فى مصر تحت الحماية البريطانية. وبقى الاحتلال البريطانى ومركزه الرئيسى القاعدة البريطانية فى منطقة قناة السويس . واستمرت المفاوضات، وأمكن انجاز تقدم فى الاستقلال عن بريطانيا بتوقيع اتفاقية1936 التى استكملت بها مصر الكثير من مظاهر سيادتها بأن أصبح من حقها اقامة تمثيل دبلوماسى خارجى على مستوى السفارات والسفراء، ولكن ظلت هذه السيادة منقوصة باستمرار وضع الأجانب تحت الحماية البريطانية، وبقاء قوات الاحتلال البريطانى . وأعادت بريطانيا ما فعلته فى أثناء الحرب العالمية الأولى، خلال الحرب العالمية الثانية، واحكمت قبضتها على مصر، وسخرت معظم مواردها لخدمة القوات البريطانية. وبانتهاء الحرب العالمية الثانية، تجدد المطلب القومى المصرى بجلاء القوات البريطانية. واشتدت الحركة السياسية والعمل الفدائى ضد هذه القوات . والغت حكومة حزب الوفد فى عام 1951 اتفاقية 1936. وبدأت ارهاصات ثورة مصرية ضد القصر الملكى وضد الاحتلال الأجنبى، وتحققت الثورة فى 23 يوليو 1952. وبعد عام الغيت الملكية وأصبحت مصر جمهورية فى يونيو 1953 . وبدأت مفاوضات الجلاء والتى انتهت بالتوصل الى اتفاق جلاء القوات البريطانية فى أكتوبر1954، وان يتم بمقتضاها جلاء آخر جندى بريطانى عن مصر فى 18 يونيو 1956 . وقد تضمن اتفاق الجلاء منح السودان حق تقرير المصير، بالبقاء موحدا مع مصر أو الاستقلال، وقد انتهى بالاستقلال فى 1 يناير 1956. كما تضمن الاتفاق بقاء القوات البريطانية وقاعدتها وما فيها من اسلحة فى منطقة قناة السويس، لاستخدامها اذا تعرضت مصر أو تركيا للعدوان. وقد انتهى هذا الوضع بالعدوان الثلاثى من بريطانيا وفرنسا واسرائيل على مصر فى 31 أكتوبر 1956، وأخليت القاعدة البريطانية فى منطقة قناة السويس وأصبحت تحت السيادة المصرية الكاملة مع جلاء القوات البريطانية للمرة الثانية عن بورسعيد فى 23 ديسمبر 1956 والذى يعرف بعيد النصر . أى ان القوات البريطانية قد أتمت الجلاء عن الأراضى المصرية مرتين فى عام واحد، الأولى فى 18 يونيو والثانية فى 23 ديسمبر 1956 , ومن الرائع ان يتوافق عيد الجلاء هذا العام مع فرحة المصريين بانتخاب رئيس جديد بارادة شعبية.