سعر الذهب اليوم وعيار 21 الآن في بداية الأسبوع السبت 11 مايو 2024    انخفاض أسعار الدواجن لأقل من 75 جنيها في هذا الموعد.. الشعبة تكشف التفاصيل (فيديو)    هشام إبراهيم لبرنامج الشاهد: تعداد سكان مصر زاد 8 ملايين نسمة أخر 5 سنوات فقط    مندوب مصر لدى الأمم المتحدة: ما ارتكبته إسرائيل من جرائم في غزة سيؤدي لخلق جيل عربي غاضب    الطيران المروحي الإسرائيلي يطلق النار بكثافة على المناطق الجنوبية الشرقية لغزة    الإمارات تستنكر تصريحات نتنياهو حول دعوتها للمشاركة في إدارة مدنية بغزة    مأ أبرز مكاسب فلسطين حال الحصول على عضوية الأمم المتحدة الكاملة؟    على طريقة القذافي.. مندوب إسرائيل يمزق ميثاق الأمم المتحدة (فيديو)    حكومة لم تشكل وبرلمان لم ينعقد.. القصة الكاملة لحل البرلمان الكويتي    الخارجية الفرنسية: ندعو إسرائيل إلى الوقف الفوري للعملية العسكرية في رفح    البحرين تدين اعتداء متطرفين إسرائيليين على مقر وكالة الأونروا بالقدس    هانيا الحمامى تعود.. تعرف على نتائج منافسات سيدات بطولة العالم للإسكواش 2024    أوباما: ثأر بركان؟ يحق لهم تحفيز أنفسهم بأي طريقة    تفاصيل جلسة كولر والشناوي الساخنة ورفض حارس الأهلي طلب السويسري    «كاف» يخطر الأهلي بقرار عاجل قبل مباراته مع الترجي التونسي (تفاصيل)    جاياردو بعد الخماسية: اللاعبون المتاحون أقل من المصابين في اتحاد جدة    مران الزمالك - تقسيمة بمشاركة جوميز ومساعده استعدادا لنهضة بركان    نيس يفوز على لوهافر في الدوري الفرنسي    ضبط المتهم بقتل صديقه وإلقائه وسط الزراعات بطنطا    أنهى حياته بسكين.. تحقيقات موسعة في العثور على جثة شخص داخل شقته بالطالبية    الجرعة الأخيرة.. دفن جثة شاب عُثر عليه داخل شقته بمنشأة القناطر    حار نهاراً.. ننشر درجات الحرارة المتوقعة اليوم السبت فى مصر    مصرع شخص واصابة 5 آخرين في حادث تصادم ب المنيا    غرق شاب في بحيرة وادي الريان ب الفيوم    «آية» تتلقى 3 طعنات من طليقها في الشارع ب العمرانية (تفاصيل)    «عشان ألفين جنيه في السنة نهد بلد بحالها».. عمرو أديب: «الموظفون لعنة مصر» (فيديو)    عمرو أديب عن مواعيد قطع الكهرباء: «أنا آسف.. أنا بقولكم الحقيقة» (فيديو)    حج 2024.. "السياحة" تُحذر من الكيانات الوهمية والتأشيرات المخالفة - تفاصيل    تراجع أسعار الحديد والأسمنت بسوق مواد البناء اليوم السبت 11 مايو 2024    سيارة صدمته وهربت.. مصرع شخص على طريق "المشروع" بالمنوفية    طولان: محمد عبدالمنعم أفضل من وائل جمعة (فيديو)    رؤساء الكنائس الأرثوذكسية الشرقية: العدالة الكاملة القادرة على ضمان استعادة السلام الشامل    حظك اليوم برج الجوزاء السبت 11-5-2024 على الصعيدين المهني والعاطفي    حلمي طولان: «حسام حسن لا يصلح لقيادة منتخب مصر.. في مدربين معندهمش مؤهلات» (فيديو)    هل يشترط وقوع لفظ الطلاق في الزواج العرفي؟.. محام يوضح    تراجع أسعار النفط.. وبرنت يسجل 82.79 دولار للبرميل    محمد التاجى: اعانى من فتق وهعمل عملية جراحية غداً    الإبداع فى جامعة الأقصر.. الطلبة ينفذون تصميمات معبرة عن هوية مدينة إسنا.. وإنهاء تمثالى "الشيخ رفاعة الطهطاوى" و"الشيخ محمد عياد الطهطاوى" بكلية الألسن.. ومعرض عن تقاليد الإسلام فى روسيا.. صور    وظائف جامعة أسوان 2024.. تعرف على آخر موعد للتقديم    جلطة المخ.. صعوبات النطق أهم الأعراض وهذه طرق العلاج    إدراج 4 مستشفيات بالقليوبية ضمن القائمة النموذجية على مستوى الجمهورية    أخبار كفر الشيخ اليوم.. تقلبات جوية بطقس المحافظة    زيارة ميدانية لطلبة «كلية الآداب» بجامعة القاهرة لمحطة الضبعة النووية    لتعزيز صحة القلب.. تعرف على فوائد تناول شاي الشعير    مادلين طبر تكشف تطورات حالتها الصحية    شهادة من البنك الأهلي المصري تمنحك 5000 جنيه شهريا    لماذا سمي التنمر بهذا الاسم؟.. داعية اسلامي يجيب «فيديو»    نقاد: «السرب» يوثق ملحمة وطنية مهمة بأعلى التقنيات الفنية.. وأكد قدرة مصر على الثأر لأبنائها    "سويلم": الترتيب لإنشاء متحف ل "الري" بمبنى الوزارة في العاصمة الإدارية    آداب حلوان توجه تعليمات مهمة لطلاب الفرقة الثالثة قبل بدء الامتحانات    حسام موافي يكشف أخطر أنواع ثقب القلب    5 نصائح مهمة للمقبلين على أداء الحج.. يتحدث عنها المفتي    فضائل شهر ذي القعدة ولماذا سُمي بهذا الاسم.. 4 معلومات مهمة يكشف عنها الأزهر للفتوى    نائب رئيس جامعة الزقازيق يشهد فعاليات المؤتمر الطلابي السنوي الثالثة    بالصور.. الشرقية تحتفي بذكرى الدكتور عبد الحليم محمود    واجبنا تجاه المنافع المشتركة والأماكن العامة، الأوقاف تحدد موضوع خطبة الجمعة القادمة    محافظة الأقصر يناقش مع وفد من الرعاية الصحية سير أعمال منظومة التأمين الصحي الشامل    دعاء الجمعة للمتوفي .. «اللهم أنزله منزلا مباركا وأنت خير المنزلين»    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مقال فريد عن اللغة العربية من مجموعة المقالات غير المنشورة التى كتبها الفنان التشكيلي الراحل حسن سليمان قبيل وفاته
اللغة العربية وأنا
نشر في الأهرام اليومي يوم 12 - 06 - 2014

اعتدت وأنا صغير على احتدام النقاش بين أمى وعمتها حول مجىء المقرئ الضرير فى غياب أبى كل صباح. أمى تقول البيوت لها حرمة، والمقرئ فضولى، يتطلع مصنتاً لكل شىء. عمة أمى تحتد مصرة على قراءة القرآن فى المنزل، حتى يعتاد الأطفال على اللغة العربية. أخيرًاً تنتصر وجهة نظر عمة أمى.
ذهب ذلك الوقت الذى كان يقرأ فيه القرآن في المنازل كل صباح، واعتاد الأطفال الآن على لهجة المسلسلات بعربيتها الركيكة. يرددون كلماتها التى كثيراً ما تكون بلا دلالة واضحة، فأصبحوا عاجزين عن أن يعبروا بجملة سليمة تفهم...

نشأت وأنا أسمع العربية، سيان كانت من قراءة القرآن بالمنزل أو المذياع. وما زلت أذكر «محمد فتحى بيه»، في بدء حياته حين كان مذيعاً يصف لنا موكب الملك في عربية فصحى بالغة، ذات مرة أخطأ فى نطق كلمة، فأخذ يعتذر عنها ولم يخجل من اعتذاره مرة أخرى بعد انتهائه. إذ كيف لمذيعٍ أن يخطئ فى نطق كلمة عربية. لا أدرى إن امتد «عمر محمد فتحى بيه»، وانصت إلى التليفزيون والمذياع ؟
في طفولتى، كانت اللغة العربية شيئاً مضنياً، أصر والدى على أن يستمر معى شيخٌ أزهرى معمم، سورى، يسمى الشيخ «عبد العزيز». قسى على حرصًاً على تعليمى، أسهل عقوبة عنده أن يمسك بأذنى قارصاً ملفاً إياها بقسوة، حتى تكاد تنخلع، فأصرخ من الألم. يصمم على أن أخرج الألفاظ من مخارجها، وأكتب وفق اصول الرقعة والنسخ. يهتم بضرورة دراسة الصرف والنحو كل ذلك على الرغم من صغر سنى. مجيئه إلى منزلنا كان إيذاناً بتعذيبى. الآن أحمل له جميلاً إذ ترسب في أعماقى شيء من تعليمه على الرغم من تبرمى من قسوة وصعوبة تلك الدروس حين ذلك.
................
فى مدرسة الظاهر الابتدائية، وجدت الشيخ «عبدالعزيز» بصورة أخرى. فإذا به الشيخ «فتح الله». كان مغرماً بالسير بين صفوف الجالسين من الطلبة، متسلياً بضربهم على طرابيشهم بقسوة دون استثناء. عند الرجوع إلى المنزل كان التعليق والضرب ينتظرانى، لأن ميزانية الأسرة لم يكن بها بند لإصلاح الطرابيش يوميًاً، فطربوشى قد تكسرت خوصته من الداخل وخلع زُرّه من صفعة يد أستاذى الضخمة، وبعد طقوس الضرب والتعنيف تذهب الخادمة إلى الطرابيش لإصلاح ما أفسده أستاذى المبجل. ذات يوم ضربنى بقسوة فخلع الزر كليةً. وخشية العقاب في المنزل، أصلحت خوصته وثبتُّ الزر بدبوس إبره من داخل الطربوش إلى أعلاه.
مرت الأمسية بسلام، دون ان يدرى والدى أو والدتى. فى اليوم التالى ذهبت به على المدرسة. جاء الشيخ «فتح الله « ومارس هوايته، مع نزول يده الغليظة بشدة على طربوشى، إذ به والدم يخرج من يده، فالدبوس دخل فى يده بأكمله. ولم أفق من صفعاته وركلاته إلا عند الناظر، الذى طلب منى حضور والدى غداً، لأنه لم يصدق أننى لم أضع الدبوس عمداً. أتى والدى... وكانت مشاجرة بين والدى الشيخ «فتح الله»، صاح فيه والدى بعنف: «عاقبه كيفما تشاء، لكن لا تخسرني نقودًاً، أليست الخوصة بنقود؟ أليست المكواة بنقود؟ أليس تركيب الزر بنقود؟». لم يلن والدى للمدرس. تفهم الناظر الوضع، فصاح الأستاذ :»إنه فصلٌ ملعونٌ، وأنا مسرور لأننى سأرتاح منهم، سيأتى لهم اثنان من المطربشين من دار العلوم، أما أنا فحاصل على العالمية التى هرب منها الاثنان إلى دار العلوم. ستكون النتيجة سيئة فلا خبرة لهما بالتدريس، ولا فهم للعربية مثلنا.»
................
لم تمض أيام قليلة حتى دخل الناظر الفصل مع شابين أنيقين في مقتبل العمر، خاطب الفصل: «منذ الآن سيتناوب الأستاذان الإبيارى وهارون تدريسكم حتى نهاية الشهادة الابتدائية، كنوع من التدريب أولاً، وثانيًاً لأنهما أخذا على عاتقهما تحقيق التراث الإسلامى والمخطوطات النادرة. هناك توصية من الوزارة، أن يقوما بنصاب أستاذٍ واحد، ليتمكنا من البحث والدراسة». تعجبنا أناقة الاثنين، كأنهما يريدان أن يثبتا أنهما لا يقلان عن المدرسين الإنجليز. منذ تلك اللحظة بدأ حظي في فهم اللغة أفضل.
قال الاثنان يجب أن ننسى أن لنا منهجاً أو واجبات منزلية، فهما لن يقيدانا بمنهج. لقد اتفقا مع «على بيه الجارم»، أن يكون التدريس لنا تجريبياً. الابيارى كان يبدأ ببيت من الشعر خفيف على مسامعنا. يكرر هذا البيت. ليسمعنا موسيقاه ورنين الألفاظ فيه. بعد ذلك يعربه لنا باستفاضة حتى نفهم النحو والصرف. يشرحه في لغة عربية صميمة، ليظهر بلاغة هذا البيت موضحاً لنا متى قيل والظروف التى قيل فيها، وتطور كلماته حتى أصبحت دارجة في حياتنا، يستخدم كل حرف وكل فعل في هذا البيت فى استخدامات أخرى في حياتنا الدارجة. تمضى الحصة ونحن مسحورون بهذه اللغة، وهذا الحب لها والتفانى لإدخالها إلى عقولنا، لنعرف كيف نستطيع أن نستخدمها ناصعة بسيطة في كلامنا العادى، وكيف ننطقها بشكل سليم، وكيف ستكون كلماتنا أجمل باللغة العربية الفصحى من اللغة العامية. أما هارون فبدأ بطريقة مختلفة إلا أنها تلتقى مع طريقة زميله في النهاية. كان مصراً على أننا كى نفهم لغة ونحسها يجب أن ننطقها سليمةً جداً. يبدأ بأى تصرف أو حركة من طالب، فيأخذ الحدث وينطلق محللاً إياه وفق قواعد النحو والصرف. يدفق في سبب رفع الكلمة، ولماذا نصبت، ولَمِ لفُظِ الحرف بفم مغلق أو خرج من الحنجرة حتى نشعر معه أن الكلمات أصبح لها معنى وصدى ورنين. يأخذ كل الوقت في استخدام اللفظ ومتى يكون، ثم نبدأ في استخدام كل فعل وكل حرف وكل اسم.
ارتبطنا بهما وأحببنا معهما اللغة العربية، جاءت النتيجة في نهاية العام للشهادة الإبتدائية مخيبة لأمل الشيخ «فتح الله»، إذ كانت درجاتنا جميعاً تتجاوز الأربعين وتشرف على الدرجات النهائية – للأسف الشديد لم يستمرا بالتدريس إذ تفّرغا لإحياء التراث والمخطوطات، ولا أعتقد أن أحداً استطاع سّد مكانهما في تدريس اللغة العربية ولا في إحيائهما لتراثنا العربى – ذلك أظنه يرجع إلى حبهما للغة العربية وثقافتهما الشاملة لتراث لغة القرآن. افتديا العربية بعمرهما وذهبا في صمت.
نتساءل لماذا لم تعمم طريقتهما؟ هل مثل هذه الطريقة تحتاج إلى موهوبين ومخلصين للعربية مثل هارون والإبيارى؟
................
فى الثانوية كان حظى أوفر، إذ درّس الشاعر محمود غنيم لفصلى لمدة خمس سنوات، كان الطلبة يتهامسون على أنه شاعر مشهور. ومع أول موضوع إنشاء وجدته يحتجز كراستى بعد أن وزع جميع الكراسات ونادانى وقال لى بلهجة تنم عن الشك والغضب: «من كتب لك هذا الموضوع ؟»، أجبته: «لم يكتبه لى أحد». قال: «اجلس أمامى هنا، سأعطيك عنوان موضوع آخر وأكتبه أمامى»، بعد كتابتى لصفحة أو صفحتين وجدته ينتزع منى الكراسة ويبدأ قارئاً ويكرش رأسه من الخلف ويدفع طربوشه للأمام كأن طربوشه عمامة، حدق فى وجهى، وبالعنف الذى كان مشهوراً به قال: «كنت مخطئاً، لكنك حتى لو كنت ابن المقفع ينقصك سيبويه» ثم دفع الكراسة إلىّ قائلاً: «وعلى الرغم من هذا لك حسٌ خاصٌ بك فى الكتابة، إلا أن أخطاءك في النحو قللت من شأن كتابتك».
................
كثيراً ما كان «على بيه الجارم» يأتى بنفسه ليفتش علينا في المدارس الابتدائية والثانوية، ويسأل المدرسين والطلبة عن النماذج المختارة التى وضعها في أسس التدريس، وهل هناك صعوبة في تدريسها لدى المدرس وصعوبة لدى الطالب في فهمها. عند لقاء الشاعر «على بيه الجارم» مع الشاعر»محمود غنيم»، يكون اللقاء حاراً نستمتع فيه بسلاسة نطقهما ولغتهما وموسيقى كلامهما، كنا مميزون بتدريس «محمود غنيم» لنا، إذ أن قصيدته عن الدبابات الإنجليزية التى حاصرت قصر عابدين، لاقت إعجاباً كبيراً وشهرة بالأوساط المختلفة بالقاهرة.
كل من تحدثت عنهم عمالقة أدين لهم، كذلك تدين لهم اللغة العربية، ومن الصعب أن تجود لنا مصر بمثلهم ثانية، خصوصاً بعد التغيرات التى لم تكن نتوقع أن تصبح بهذا السوء.
................
مضى الوقت وحين كنت في كلية الفنون الجميلة، وجدت نفسى في الترام الذى يقطع شارع القصر العينى، فوجئت بدخول رهطً غريب – لم أكن أعلم أن في تلك المنطقة كليةً «دار العلوم» التى يدخلها الأزهريون الذين يرتدون أن يحولوا مصيرهم إلى تدريس اللغة العربية وأدب اللغة العربية – بعضهم يرتدى الجبة والقفطان وبعضهم يرتدى البذلة الأفرنجية، وقلة ترتدى زياً يسمى «الكاكولة»، معظم حديثهم بعربية فصيحة، ويخرجون الألفاظ من مخارجها، بشكل ذكرنى بنطق الأستاذين الإبيارى وهارون. فجأة ارتفع صوت أحدى أحد الجالسين فى الترام ببيت شعر فى شكوى الزمان نسيته كليةً. لكن ما تلا ذلك اذكره كأنه حدث بالأمس. عند ذلك صاح فيه أحد طلبة «دار العلوم»: «لا تلحن يا أخى». لكن الشىء الغريب أنهم اختلفوا فيما بينهم على صحة نطق هذا البيت، وأخذوا يكررون تفعيلات موسيقية، استعر النقاش. كدت أنسى ذهب رجل يصيح: «كفى صراخًاً وسفسطة وإزعاجًاً». نظروا إليه بإحتقار قائلين: «اللغة العربية هى ديننا ودونها نحن لا شىء »، فإذا بصوت جهورى ينبعث، نظرنا ناحيته فإذا به واحد منهم ضرير، يجلس على مقعد بينهم، قائلاً: «إن أردت يا سيدى أن نتحدث بلكنة «أنكل سام» أو «جون بولون» فعليك بأول الشارع حيث باب الجامعة الأمريكية، يتسكع عليه ساقطى التوجيهية ومن لفظتهم كل الكليات والمدارس، فوجدوا الملاذ بها هم وخريجات مدارس الأحد والإرساليات، ذوات الشعر الجعد يحجمونه بالدبابيس. في هذه الجامعة يعالجون الفقير بعلم النفس على أنه مريض نفسياً يحتاج إلى تحليل نفسى مغفلين الحقيقة وهى احتياجه الأساسى للرغيف، وسيشفى كالحصان. هل هذا ما تريد؟ أن نغفل لغتنا ونتلعثم في ألفاظ إنجليزية، والنتيجة يخرجون وقد عوجوا ألسنتهم ويخرجون ألفاظا من أنفهم متحدثين بلكنة أمريكية عامية، لا هم مجيدين الإنجليزية ولا دراية لهم بالعربية»، ألقى ذلك الرجل الضرير الكلمات بلغة عربية فصحى تختلف عما قلته الآن، فإذا بالترام كله يضج بالضحك. كأن هذا الرجل كان يستنشف ما سيحدث لنا بعد نصف قرن. أمضى ذلك الزمن ومضى رونق اللغة العربية مع مضى رونق الحياة وروعة آذان الشيخ محمد رفعت في الفجر، وروعة نطقه وإيقاعه السليم للغة العربية؟ نتحسر على زمن ولدت فيه أغنية «جفنه علم الغزل»، وتدهورت إلى أن أصبحت « «متروحش تببيع الميه فى حارة السقايين». ويا ليت الأغنية العربية وقفت عند ذاك، بل أخذت تتدهور إلى حد الإسفاف.
................
خلف مقهى الأمريكين ممر مظلم تباع فيه الأشرطة الهابطة للمغنيين، فوجئت بإعلان ضخم يضىء فوق رأسى، فإذا به ستة رجال ملتحين يبتسمون كالممثلين والمغنين، يرتدون البذلة الإفرنجية ما عدا اثنين منهم يرتديان جلبابا وطاقية، تحت الإعلان كتب هنا تباع شرائط الداعية الإسلامى فلان وفلان. هل أصبح رجل الدين نجماً؟ لقد اختلطت الأمور، لم يعد فى حياتنا حدود واختلط رجل الدين بالمعنى الهابط؟ ولما أبطأت هاجم أذنى خليط من أصوات اختلطت فيها «نانسي عجرم» مع آخر يشرح آية من القرآن، مع شريط يقرأ القرآن على طريقة الوهابيين. يعلو على الخليط شجار الباعة. رحم الله أساتذة الفقه العظام الذين كانوا يرفضون أن يجعلوا من الدين مادة للتكسب، ويصرون على الجبة والقفطان والعمامة كرمز لقوتهم وعزتهم بالله. أما الآن فقد اختفت الجبة والقفطان والعمامة من شوارع القاهرة، وانتشر بدلاً منها زى غريب على أنه اللباس الإسلامى، رجال ضخام الجثة يطلقون لحاهم كثة شعثة، يرتدون جلباباً قصيراً وسروالاً يظهر ساقيه وأحياناً يضع في قدميه حذاء مطاطيًاً كيف تكون كل هذه ((السلطة)) زيًاً إسلاميًاً؟ من قال لهم هذا؟ متى ارتدى المسلمون الذين فتحوا العالم في أقل من مئة عام مثل هذه الملابس؟ لماذا لا تزال كل شعوب العالم مصرة على الاحتفاظ بلباس رجل الدين كما هو؟ أما نحن.. فلماذا نخجل من تراثنا وماضينا كأنه يجلب لنا العار؟ لقد اختلط كل شىء النقى مع الملوث.
................
افتقدتهم.. طلبة الأزهر يرتدون الجبة والقفطان، يغطون ميدان الأزهر بعمائمهم الحمراء، وأنا فى ذهابى إلى أزقة «الحسين» كى أرسم، وفى رجوعى إلى مرسمي فى درب اللبانة. كانوا فى لباسهم هذا يرمزون إلى شىء يخاطب الأعماق ألا وهو العقيدة، وحرصهم على اللغة العربية. كان طلبة الكليات العليا على الرغم من تفوقهم على طلبة الأزهر فى اللغات، ينظرون إليهم نظرة إعجاب. فهم يتميزون عنهم فى أشياء كثيرة تعجز عقولهم عن استيعابها، كعلوم الأصول والمنطق والفقه، واستيعاب ما لا تحويه المخطوطات القديمة من هوامش كثيرة. فطلبة الأزهر كما قال عنهم يحيى حقى: «جزءٌ من زلط رمال مصر، يملكون المقدرة على تفتيت وصياغة حجارة اللغة العربية وتوصيلها لنا كأنها الوشي». وما كانوا أقل منا حماسة ووطنية بل هم دائماً السابقون للإضراب والاعتصام. وتاريخ طلبة الأزهر حافل بوطنيتهم، فثورات مصر كلها، بدأت من الأزهر من الثورة الأولى ضد نابليون الى ثورة 1919. كان طلبة الأزهر لا يفوتهم احتجاج صريح قوى فى كل لحظات الضنك التى تمر بها البلد، بل ربما كانوا أعنف من طلبة الجامعة خلال إضرابات الثلاثينيات والأربعينيات والخمسينيات. لماذا كان هذا؟ فهم يشعرون بأنهم رمز للغة العربية والحصن الذى استطاع أن يقف ضد الهرطقة وضد جحافل الغزاة، فلا يكمن فصل اللغة العربية عن الموقف الوطنى. وإذ صدر قرار بتحويل الأزهر إلى جامعة لا تختلف عن باقى الجامعات، وأصبح جميع مشايخ الأزهر أساتذة بدرجات جامعية يتسابقون ويتصارعون للحصول عليها، ولم تعد للطالب حرية أختيار أستاذه، إذ كان للطالب فيما سبق حرية اختيار من سيلقنه العلم دون شروط، بل على حسب اقتناعه به. وكان الطالب يحدد الأستاذ الذي سيقوم بالتدريس له، بناء على أن الأستاذ كان لا يحيد عن الحق حفاظاً على مكانته بين الطلبة. أما الآن فتدخلت عوامل أخرى لاختيار الطالب لأستاذه غير الدافع الذى يحدوه لاختيار الأفضل. لقد انتهى العصر الذى انتقل فيه طلبة الأزهر إلى منزل أستاذ منعه الخديوى من ان يدرس في الأزهر. فرجوه مصرين على أن يدرّس لهم فى بيته. وأخذ يتوافد على منزله طلبته وجموع أخرى من الأزهر. كنوع من التحدى لأوامر الخديوى. وقف الخديوى صامتاً أمام حرية الرآى. هذا ما ذكره الدكتور طه حسين فى روايته الخالدة «أديب». الآن من يدرى ماذا سيحدث لو تم هذا الأمر؟ هل أصبح طالب الأزهر مشغولاً بأشياء أخرى تصرفه في المستقبل عن قضية مثل أن يقف بجانب أستاذه متحدياً من أجل الحق ؟
................
منذ سنوات جاءتنى فتاة تقول إنها شاعرة، تريدنى أن أساعدها من خلال علاقاتى ببعض من أعضاء هيئة التحكيم فى التفرغ.
سألتها: «ماذا قرأت ؟»، قالت : «درويش ودنقل وعبد الصبور». تعجبت لإجابتها واستدركت: «والشعر العربى القديم ؟»، لدهشتى كانت إجابتها: «إنه يثير أعصابى ولا أفهم مفرداته». قاطعتها بسرعه: «أبكل مراحلها؟»، فى إصرار أجابت: «أجل». تمتت لنفسى: أتود أن تصبح شاعرة، وبصوت خافض سألت: «وشوقى وحافظ ؟»، أجابت :«لماذا أهتم بهما فأنا أكتب الشعر الحر وهم يكتبان شعراً ثقيلاً على مسامعى». قلت لها: «مثل ماذا؟»، قالت بلهجة عامية فجة، قلبت فيها «الراء» «لاما» و«القاف» «كافاً»: «ريم على القاعة بين البان والعلم .:. أحل سفك دمى فى الأشهر الحرم»، حينئذً أدركت أنها لا تعرف شيئاً عن الشعر العربى ولا عن اللغة العربية، لأنها لا تتذكر سوى مطلع أغنية غنتها أم كلثوم، ولا تستطيع حتى قراءتها سليمة، إذا فلماذا أضيع وقتى؟ فسألتها: «هل تعلمين شيئاً عن الصرف والنحت وحوار الشعر وأوزانه ؟». أجابت أنها لم تدرس قواعد اللغة العربية. برماً أنهيت المحادثة قلت أنها لن تصير شاعرة إنها تكتب إلا إذا درست بعمق البحور والأوزان والنحو. وقد أتلمس لها العذر فالنماذج التى أصبحت تقر بالمدارس لتعليم مواطن الجمال فى الشعر العربى أصبحت تنفر الطلبة من اللغة العربية، بل تنفرنى أنا كذلك ولم يعد هناك أساتذة. وبعد سنوات فوجئت باسمها يتردد فى الصحف كلما تحدثوا عن الشعر، كأنها ضمن شعراء مصر وذلك لغياب الأساتذة العظام عن الساحة.
رحم الله «أحمد شوقى» وهو أعظم شاعر فى العصر الحديث، حينما كان يصر على أن يأتى له شيخ أزهرى يقرأ له شعرًا عربيًا كل يوم ساعتين. هذا ما أكدته حفيدته «ليلى العلايلى». ورحم الله «طه حسين «، على الرغم من أنه أزهرى منذ نعومة أظافره، لم يمتنع يوماً عن الإنصات لمن يقرأ له بالعربية الفصحى فى الأسفار القديمة. ذلك حرصاً منهم للحفاظ على مستواهما فى السيطرة على اللغة العربية. هل ضاعت الجدية وتحمل المسئولية؟
................
كان ذلك فى ظهيرة يوم من صيف 1964، أسند يحيى حقى ظهره إلى الحائط، وارتكز بيديه على العصا، بجوار المدرسة التى أعلى السبيل بناصية التنبكشية، قال لى: «هل تعرف يا حسن أن الأمية ستزيد فى مصر بدرجة قاسية، فالتعليم منذ مئات السنين ارتبط بتعليم الدين. الفلاح يرسل ابنه إلى الكتاب لكى يتعلم كلام الله، وبعد ذلك يأتى تعليم اللغة والحساب بالتبعية. فالدين هو القاعدة الشعبية التى تتحرك منها جموع العامة فى منطقة الشرق الأوسط. كان الفقيه أو شيخ الكتاب يعرف كل عائلة، ويعرف كل طفل، فإن غاب طفل، بعد أن يغلق الكتاب يذهب متطلعاً إلى أسباب غياب الطفل ومحاسبة الطفل وأهله. فهو لا يستطيع ان يرفع رأسه فى زقاق الحارة إن لم يستطع أن يعلم طفله. أما المدرسة الإلزامية فما الربط والضبط فى أن يذهب الطفل إلى مدرسين أغراب معظمهم أتى من خارج قريته، الفلاح لن يضحى لمساعدة ابنه فى الحقل إلا إن قيل له إنه سيحمل كلام الله ومن ناحية أخرى ما الوازع والضابط ؟ وما هى حلقة الإتصال التى تجبر المدرس الإلزامى على أن يعلم الطفل فى القرية؟ إنها فكرة خاطئة جداً ألا تساعد الحكومة على استمرارية الكتاتيب ودعمهما بكل الوسائل، كما كانت فى الماضى مدعمة من ثروات تركت، أو من نقود جمعها الفلاحون من أجل الإنفاق على الكتاب. فتكوينها الاجتماعى والتاريخى المحرك له هو الدين».
تتحقت الآن نبوءة يحيى حقى وزادت الأمية، وتتزايد فى الوقت الذى استطاعت الصين أن تقضى على الأمية كليةً.
................
إن اللغة العربية فى انهيار، وتركيبة الجمل فى الجرائد المصرية أصبحت أضعف بكثير من صياغة الجمل فى الصحف اللبنانية وهذا شىء مخزٍ، ولا مقارنة بين الجملة التى تكتب فى صحف القاهرة فى الثلاثينيات، وما يكتب الآن فى الجرائد. كذلك ذهب العظام مثل «على بيه الجارم»، الذين كانوا يختارون نماذج الشعر ويقررون مناهج اللغة العربية بالمدارس من الإبتدائية إلى الثانوية وكفت «دار العلوم» عن تخريج محاربين أوفياء نزروا أنفسهم لنصرة اللغة العربية وإحيائها وبثها فى مشاعر ووجدان الأطفال والشباب. كل ذلك انتهى بتحويل الأزهر إلى جامعة، فلم تعد الإمتحانات لطلبة الأزهر ودار العلوم لها نفس الجدية والقسوة ذاتهما. ولم يصبح الأزهر ودار العلوم مصفاة لا يخرج منها إلا كل من كان متمكناً التمكن التام من اللغة العربية. فى الحقيقة أنه لم تعد هناك حتى أمانة جيل طه حسين وجدية ولا جيل من سبقوه وجديته. فقد الأدباء المصريون الآن صيغة الجملة العربية ونسيجها، إن طه حسين كان آخر الكتاب العرب فى مصر، كما كانت أم كلثوم أخر المغنين التى استطاعت أن تنطق اللغة العربية الفصحى. والشيخ محمد رفعت آخر من أستطاع أن يقرأ القرآن بلهجة سليمة وورع كامل دون تنغيم وزخرف. ولا توجد مقارنة الآن بين الأدباء المصريين وزملائهم فى الشام والعراق. أليس هذا بعار!
................
بتحويل الأزهر إلى جامعة، لم تجل بخاطرهم الأخطار التى ستنجم عن هذا. فقد كان الأزهر موقفا متفردا، أضف إلى ذلك أنه كان أسطورة علم وفكر وفلسفة، وكان قيمًا على العالم الإسلامى أجمعه. وقد بدأت مع بداية الحكم الفاطمى، منذ أن أنشىء الأزهر كمدرسة، قبل أن يكون مسجدًاً. فأصبح الأزهر قبلة العالم الأسلامى كله من أقصى آسيا إلى جنوب روسيا. لم يحصل الأزهر على هذا الأحترام فى يوم وليلة، بل من تراكم مئات السنين وجدية أساتذته ووقوفهم مع نصرة الحق ضد كل طغيان، هذا ما ذكره المؤرخ الأنجليزى «ستانلى لينبول». أما الآن وبتحويله إلى جامعة فلم تعد له هيبته القديمة التي شيِّدت من تراكم مئات السنين.
................
هل لنا أن نتساءل: هل انتهى الأزهر كأسطورة ومواقف حادة لحماية اللغة العربية والعروبة ومنع التجديف فى الدين تحت ستار التعصب؟
إن التفريط فى اللغة العربية هو التفريط فى الهوية القومية للعالم العربى كله والأزهر كان الحصن الصامد للحفاظ على اللغة العربية والعروبة – حتى أنه لم يعد يتدخل في مضمون شرائط الوعظ وشرح القرآن التى تملأ محلات الاغانى الهابطة بينما كانت هناك فى الثلاثينيات لجنة قوية جداً لها السيطرة على منع المقرئين حتى من قراءة القرآن دون الأصول المورثة لموسيقاها من قرار وجواب، وإخراج الأحرف من أماكنها الصحيحة بورع كامل. لقد أصبحنا الآن نجد بعض المقرئين يلحنون ويخطئون فى النحو، والأعجب من هذا إنهم خريجو كليات تبعد كل البعد عن اللغة العربية والدين.
هل فقد الأزهر هيبته فانتشر المدعون الذين يسمون أنفسهم الأصوليين، ويرمون إلى تجنيد الدين وتحويله إلى طقوس بعيدة كل البعد عن بنية المجتمع وتقدمه. هم فى الحقيقة لا يهدمون الدين فقط بل يهدمون اللغة العربية، فهم دون وصاية أو دراية باللغة العربية. فكثيرًاً ما يفهم المجتمع الديمقراطية أو الحرية فهماً خاطئاً، فإذ كل مأجور أوموتور أو جاهل يدلى بدلوه فى قضايا فكرية أو فلسفية أو ديدنية أو لغوية لا يعرف عنها شيئاً، قضايا تمس المجتمع ككل. هذا ما أدركه صلاح الدين، الذى أعطى أهمية كبرى لإقامة المدارس كجزء أكبر من الجوامع. بذلك انتشر الأساتذة والمدارس التى تدرس اللغة العربية، والدين الحنيف، للأطفال وفرسانها منذ نعومة أظافرهم.
وحقبة المماليك كانت كلها عبارة عن فتح مدارس تلو مدارس، حتى لم يكن هناك فصل بين المدرسة والجامع، فهى مدرسة قبل أن تكون جامعاً. هذه الصفة كانت مميزة لمعظم الآثار الإسلامية.
استمرت سياسة صلاح الدين ومن تبعه من السلاطين كحصنٌ متين قوى ضد الغزو الأجنبى، أهم بكثير من الحصون الحربية التى أنشأوها، لأنها دون لغة سليمة، لن يكون هناك فهمٌ لعقيدة سامحة تضم شتات الشرق كله، ودون العقيدة السليمة لم يكن وازع للمحارب أن يحارب. لذلك اصبح السلاطين العظام من أشد الناس تعصباً للعربية والشرق وأستمروا فى غزوات مستمرة حتى قضوا على أعتداء الشرق من تتر ومغول وصلبيين. وذادوا عن الشرق أجمعه.
................
هل انتهت كذلك أسطورة مشايخ الأزهر الذى نصحوا نابليون بأن يضعهم موضع تبجيله واحترامه، ولم يحدث قط أن رد طلباً لأحدٍ منهم، بل كانوا موضع تبجيل منه ويأخذ بمشورتهم أحياناً.
هل ضاع الأزهر كمركز لسماحة الدين والوحدة العربية؟ وأصبحت مصر رمزًاً للتجديف فى الدين بعد أن كانت منبراً لنشر الفكر السليم ومنارة للغة العربية وظهرت الشعوذة الدينية والفهم الخاطئ للمضمون اٌلإسلامى السليم، وعم الجمود الدينى، وانتشرت الخزعبلات إلى درجة تحطيم النماذج الجصية التى استوردت من فرنسا، من اللوفر، -وهى من أسس تدريس فن الرسم إلى الآن فى كل العالم- على أنهم أصنام. لو كان الأساتذة حارسين على تأدية واجبهم كاملاً لطلبوا من اللوفر نسخاً أخرى، وفى الوقت ذاته، تزداد دهشتى: لماذا أقاموا تماثيل قميئة فجأة تعبر عن الجهل وضيق الأفق لميادين القاهرة؟ ولا نستطيع تمييز ملامح التمثال حتى نقرأ الأسم على القاعدة، تماثيل مشوهة، شوهوا عمالقة تاريخنا بينما تتحطم نماذج لتماثيل فنيه صحيحة فى كلية الفنون على أنها أصنام.
أليست التماثيل المقامة وفقاً منطقهم أصنامًا كذلك؟ هذا يدلنا على مدى التخبط الذى يسير فيه من يدعونا الغيرة على الإسلام وكان السبب فى هذا أنهم لم يدرسوا اللغة العربية دراسة كاملة وواعية، حتى يستطيعوا أن يحددوا ما هو المحلل وما هو المحرم فتخبطوا. ولم يجدوا مشجباً يعقلون عليه أخطاءهم سوى الدين. أين نحن الآن من حركة التنوير والاجتهاد؟ -التى كانت سبباً في تطوير الأدب والفكر والفن– التى بدأها أزهرى درس العربية دراسة سليمة، ففهم دينه سليماً، واستطاع ان يفرض رأيه، وأن يقيم الحجج التى لا يستطيع احد أن ينقضها، وفتح باب الاجتهاد لتعليم الدين السمح، الذى يبعد عن التعصب الكاذب، أنه الشيخ محمد عبده، الذى كان مصرًاً ومحارباً وشارساً لإحياء واللغة العربية والدين الإسلامي وتطويرهما. لقد بلغ حرص الشيخ محمد عبده على تقدم مصر، حين طلبوا منه فتوى لإقامة كلية الفنون الجميلة وإباحة رسم الموديل العارى، فأخذ على عاتقه أن يكتب مبيحاً رسم الموديل العارى، ذاكراً أن هذا ساعد على تقدم الحضارة فى الخارج، إذا فكل ما يساعد على تقدم أمة مباح شرعاً. إن طلبة الأزهر كانوا متقدمين أكثر قبل أن يصبح الأزهر جامعة، فوفق ما كتبه طه حسين أن طلبة الأزهر جعلوه من الأستاذ الذى أتهم الشيخ محمد عبده وكل من يسافر إلى فرنسا بالزنذقة مادة للتهكم فى مجالسهم يومياً. لقد كان حلم كل أزهرى فى ذلك الوقت هو الذهاب الى باريس ونيل الدكتوراة من السربون لكن مع غلق باب الاجتهاد وتقليص وظيفة الأزهر وحجمه كأزهر لا كجامعة، انهارت اللغة العربية وفقدت القاعدة الشعبية المنهج السليم الذى ترتكز عليه، لكى تستطيع أن تبنى معايير أجتماعية وأخلاقية سليمة. فكانت النتيجة أن زاد التزمت والتخلف الدينى والإرهاب وخلت المنطقة من فهم سليم للتقدم الحضارى والعدل فى المجتمع. وابتعد رجال الأزهر عن النضال من أجل الحفاظ على اللغة العربية ووحدة الشرق. ولم يعد لهم موقف ينهض الحق ويقف لنصرة المجتمع بل هم الآن موظفون لا أكثر ولا أقل ولا هم لهم سوى التدرج الوظيفى.
................
كان للأزهر قيمة ومعنى كبير، أذكر وأنا طفل أخذتنى أمى لنزور خال أمها الحزينة، فوجئت حين ذهابى بحضور كل العائلة، كان حفلاً كبيراً تحقيقاً لرغبة أخية الميت، الذى أوصى أن يندر ابنه للأزهر ولفقه الدين بعد أن يحفظ القرآن.
أقيمت وليمة كبيرة بمناسبة ارتدائه ملابس الأزهر، رغم صغر سنه العمامة والجبة والقفطان يهرول بهم صبياً، وكل العائلة سعيدة بهذا بينما كان فى استطاعة نقود هذا الرجل الذى توفى أن يذهب ابنه ليدرس بجامعات سويسرا وانجلترا. مضى هذا الزمن الذى كانت فيه غرة الأزهر ووحدة لقوميتنا وتقاليدنا ولغاتنا ولعقائدنا. كنا نريد أن نقيم حائطا صلبا ضد شىء خطر يسمى الاستعمار.
فقد الأزهر أهميته وأصبح جامعة كباقى الجامعات، ونسى واجب الحفاظ على تراثنا الفكرى واللغة العربية وأهميتها لتوحيد قوميتنا وصمودنا. الأفضل أن نبتسم بمرارة.
................
أذكر منذ سنوات كثيرة أن ناصريًا كان يدعى الاشتراكية والقومية العربية، فجأة بعد أن جمع نقودا من دولة عربية -والله أعلم كيف؟- تحول مدافعا عن العولمة وعن كل شىء أمريكى، ناطقا الأنجليزية بركاكة ولهجة أمريكية، وكأنه لا يعرف العربية. مع أنه كان يذيع بالعربية الفصحى. ونسى كل شىء عن جذوره وأصوله، وإذ به ينقلب فجأة مقلدا سكان نيويورك، يرتدى شورتا أحمر حريريًا وحذاء مطاطيا، ليجرى كل صباح على النيل حيث يقطن. وفى ذهابه ورجوعه كان كلب ينبح مستثاراً من شورته الأحمر اللامع، ولأن الكلب لا يدرك ولا يعرف طبعاً عادات أهل نيوريورك. فإذ به يقفز عليه باحثًا عن قطعة لينة فى الشورت الأحمر. وكأن الكلب يريده أن يكف عن العولمة أو أى تصرف أمريكى. وبعد كل ما قاساه من إحدى وعشرين حقنة مولمة فى بطنه وألم فى قاعدته. كف عن تقليد الأمريكان فى كل شىء , وتاب عن الحماس لهم وعن تقاليدهم.
أما آن لنا أن نفتح عيوننا على كل ما يشبه الاستعمار؟ أم أننا مصرون على أن نظل كالعرائس الخشيبة المعلقة بالخيوط تحركها أصابع خفية؟


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.